بين السِلم والعنف.. تعرف على تاريخ الرايات السوداء في العالم الإسلامي

12

طباعة

مشاركة

في العام الرابع عشر للبعثة الموافق 622 بعد الميلاد، هاجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومجموعة من أصحابه، من مكة الوثنية إلى يثرب، حيث كانت الأخيرة بلدة أكثر ملاءمة للدين الجديد.

دخلت قبائل الأوس والخزرج المحلية وبعض اليهود في يثرب إلى الإسلام، ليصبحوا بعد ذلك معروفين بـ"الأنصار". وتحول اسم يثرب إلى "المدينة"، وأصبحت مهد الدولة الإسلامية الأولى.

أخذ النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) دورا سياسيا رائدا إلى جانب منصبه كنبي. كما كانت العادة في عصره، اتخذ لقادته رايات وألوية كشكل من أشكال التمييز والتعريف بسلطتهم.

نستخدم هنا لفظي "الراية" و"اللواء" ونفرق بينهما، حيث يوجد اختلاف تاريخي بين اللفظين في السياسة الإسلامية المبكرة، وفق تقرير نشره موقع "MENA SYMBOLISM".

وفقا لقاموس كامبريدج، يعتبر اللواء "قطعة قماش طويلة تكتب عليها كلمات"، بينما الراية "قطعة قماش، عادة ما تكون مستطيلة، تمثل دولة أو مجموعة".

وقد نُقل عن أبي بكر بن العربي (ت 534هـ)، وهو قاض وفقيه أندلسي، قوله: "اللواء ما يعقد في طرفه الرمح ويلوى عليه، أما الراية فما يُعقد ويترك تصفقه الرياح".

وبعبارة أخرى، يخدم اللواء غرضا عسكريا واضحا، لتنظيم وتحديد الأسراب والقوات أثناء المعركة. بينما تكون الراية، من ناحية أخرى، علما ثابتا ويخدم وظيفة رسمية رمزية. 

بدايات الرايات السوداء

كانت راية النبي محمد وراية أول دولة إسلامية قماشا أسود مربعا عاديا. فروى الترمذي عن ابن عباس قال: "كانت رايات رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، وكان لواؤه أبيض".

وفي رواية أخرى عند النسائي في كتابه السنن الكبرى عن يونس بن عبيد قال: "بعثني محمد بن القاسم إلى البراء بن عازب يسأله عن راية رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كانت؟ فقال: كانت سوداء مُرَبّعَة من نَمِرَة".

يبين عبد الحي الكتاني (1884-1962) مصطلح نمرة في كتابه "نظام الحكومة النبوية"، موضحا بأن الراية صوف أسود أو قماش مخملي مع بعض الخيوط البيضاء أو البقع البيضاء.، استنادا إلى الروايات وشروح العلماء لها.

وعليه فإنه من الممكن أن نقول: إن راية النبي (صلى الله عليه وسلم) كانت بالفعل سوداء. كما تخبرنا النصوص التاريخية بأن تلك الراية كانت تُلقب "بالعُقاب"، وهو نوع من النسور في منطقة الحجاز، وذات لون داكن.

كما أن  لواء النبي والدولة الأولى كان أبيض. فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: "لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض".

والأهم من ذلك، ما رواه الترمذي في سننه، في كتاب الجهاد عن جابر، أن النبي محمد "دخل مكة يوم الفتح بلواء أبيض".

وقد وقع فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة الموافق لعام 630 بعد الميلاد وشهد انتصارا إسلاميا حاسما. ومن خلال ما تقدم يمكن أن نربط اللون الأبيض بالنصر والفتح، والأسود بالدولة والحكومة.

وبخلاف السواد الواضح للراية، هناك احتمال أن يكون اللواء مكتوب عليه باللون الأسود.

ففي رواية لا يخلو سندها من ضعف، قال ابن عباس: "كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، وكان لواؤه أبيض، مكتوب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله". ذكره الطبراني (ت 360هـ) في معجمه الأوسط.

بالإضافة إلى ذلك، يعلق ابن حجر أيضا (ت852هـ) في فتح الباري على رواية ابن عباس، ويقول: إن شيئا أسود قد كتب على الراية البيضاء للنبي صلى الله عليه وسلم.

ويزيد هذا الرأي العلمي من احتمال استخدام الألوية البيضاء مع شيء مكتوب عليه باللون الأسود، وليس بالضرورة أن يكون هذا النمط سائدا أو موحدا في العصور الإسلامية الأولى.

رايات المشرق

سرعان ما تطورت رمزية الراية السوداء إلى أهمية ذات أبعاد خلاصية، حيث صار يتم اعتبارها مبشرا بقدوم المهدي وجيشه، الذين سيحملون الرايات السوداء معهم من الشرق إلى الغرب.

هناك مجموعة من الروايات عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) حول هذه الأحداث، ولكن من الأسلم أن نقول: إنه لا يوجد أي من هذه الروايات صحيحة أو جديرة بالثقة، بل تتراوح الروايات بين ضعيفة وموضوعة.

لقد كان سبب استمرار هذه الروايات حتى يومنا هذا، من قيمة الدعاية القوية للخلافة العباسية. فمن الجدير بالذكر أن هذه الروايات كانت تعزز من قبل الدعاة العباسيين في سياق الثورة العباسية بقيادة أبو مسلم الخراساني (ت 137). اشتهر العباسيون بالراية السوداء في انتفاضتهم ضد أسلافهم الأمويين، التي كان انطلاقها من الحدود الشرقية للدولة الأموية.

بحسب كتابه "تشكيل الحكم العباسي" (الصادر عام 1980)، يذكر يعقوب لاسنر كيف روّجت الروايات العباسية أن راية أبي العباس السفاح أعطيت له -في حلم رآه- من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) نفسه.

وتشير هذه الروايات إلى "نقل رمزي للسلطة مباشر من خلال رسول الله إلى خليفته المختار"، وقد تم ربط هذا الحلم ببراعة بمجموعة السرد الموجودة عن الرايات السوداء القادمة من الشرق.

عندما كشف العباسيون لاحقا ألويتهم في المنطقة الشرقية من خراسان، لم يكن مجرد حدث تاريخي، بل كان -في نظر الثوار- نذيرا بنظام ديني جديد كما تنبأ به رسول الله نفسه في الروايات المنسوبة إليه.

وعلى هذا النحو، استمر العباسيون في استخدام الرايات السوداء طوال الخلافة مع بعض الاستثناءات، حتى سقطت خلافتهم وتراجع استخدام الرايات السوداء. 

في العصر الحديث

أصبحت الرايات السوداء أقل استخداما بكثير بعد العصر العباسي، فقد استخدمت الخلافة العثمانية ألوانا ورموزا مختلفة.

بيد أننا نشهد للرايات السوداء حضورا في فلكلورات المنطقة العربية، وأحيانا في سياق ديني.

ففي فلسطين ثمة مناسبة دينية تسمى موسم النبي موسى يقوم المحتفلون بحمل الأعلام (المقدسة) الملونة بالأبيض والأسود أثناء الموكب. وتتمثل مراسم الحفل بزيارة قبر النبي موسى، الذي يزعم أنه دفن فيه.

وفي ذات السياق الروحي، تبنت الطائفة الأحمدية الراية السوداء كراية خاصة بهم، يربطونها بمعنى خلاصيّ فيما يتعلق بعودة المهدي المخلّص. وهم يعتقدون أن مؤسس الطائفة، غلام أحمد، قد تم تعيينه من قبل الله على أنه المسيح أو المهدي المنتظر.

بين العنف والسِلم

بالنسبة للآخرين، لا تمثل الراية السوداء معنى روحيا أو خلاصيًا لأنها تمثل لديهم الدولة الإسلامية وحكم الشريعة الإسلامية.

وقد تنامى هذا الاتجاه بشكل متزايد خلال القرن العشرين، حيث بدأ النشاط الإسلامي وما يسمى بحركة الصحوة الإسلامية بتسجيل حضورها في العالم الإسلامي.

أحد الأمثلة المبكرة على ذلك هو الراية البيضاء (مع الكتابة السوداء) لمحمد أحمد المهدي (1844-1885)، وهو رجل دين مسلم سوداني أعلن نفسه المهدي وزعيم دولة إسلامية وقاد انتفاضة ضد المصريين وحلفائهم البريطانيين، وقد بلغت ثورته ذروتها في الحرب المهدية (1881-1899 م).

وقد كان شعار الحركة المهدية منقوشا على قطعة من الخيش بالقطران، على النحو التالي: بسم الله الرحمن الرحيم (في سطر) لا إله إلا الله (في سطر). محمد المهدي خليفة رسول الله (في سطر) ".

وهناك مثال مبكر آخر هو علم "إخوان من طاع الله"، بما في ذلك العلم المستخدم خلال ثورتهم عام 1927-1929 ضد عبد العزيز آل سعود وحلفائه البريطانيين.

فقد كانت رايتهم  سوداء كُتب عليها لفظ الشهادة بلون أبيض وتحتها سيف، وكانت رايتهم ترمز لنواياهم المتدينة.

وقد عمل الإخوان كجيش بدوي للدولة السعودية الثالثة الوليدة، مما ساعد على تأسيسها كمملكة في شبه الجزيرة العربية، وكانوا متأثرين بتعاليم محمد بن عبد الوهاب ثم انقلبوا على عبد العزيز ولكنهم هزموا بعد معركة السبلة عام (1929). 

كما اتخذت المنظمات الإسلامية المعاصرة والجماعات المسلحة التي تسعى إلى هزيمة أعداء الإسلام وإقامة دولة إسلامية من خلال الجهاد  الراية السوداء شعارا لهم. وقد بدا هذا  الاتجاه بوضوح وبشكل متكرر بعد الحرب الأفغانية السوفيتية في الثمانينيات.

ومع ذلك، فثمة جماعات إسلامية أخرى تحمل نفس الأهداف وإن كانت تختلف في اتخاذ الوسائل، فلا تميل إلى العنف ولكنها تتفق مع الحركات القتالية في اتخاذ الراية السوداء شعارا لها، وأبرز مثال على هذا الاتجاه هو حزب التحرير، الذي أسسه الفلسطيني تقي الدين النبهاني عام 1953.

والراية التي يتخذها الحزب تتكون من راية سوداء كتبت عليها الشهادة بلون أبيض وبخط الثلث. بالنسبة للحركة، يمثل اللونان: الأبيض والأسود بشكل لا لبس فيه شعار دولة الإسلام وحكم الشريعة، وهو هدف يستثمرون فيه كل طاقتهم.