تغيير المسار.. لهذا تتقرب فرنسا للحراك والنظام الجزائري معا

12

طباعة

مشاركة

"سعيا لممارسة الحريات الفردية دون قيود مجتمعية"، هكذا صور الفيلم الوثائقي "الجزائر حبي"، الذي عرضته القناة الفرنسية "فرانس 5"، هدف المشاركين في الحراك الشعبي الذي نجح في إسقاط نظام حكم الجمهورية لمدة عشرين سنة بقبضة من حديد.

اختزل الفيلم هدف الحراك في رغبة الشباب في التحرر من القيود الاجتماعية، وخصص الدقائق الـ15 الأولى منه لإظهار الأسباب الحقيقية التي دفعت الجزائريين للخروج إلى الشارع في فبراير/ شباط 2019، عندما ترشح عبد العزيز بوتفليقة الذي حكم البلاد لعقدين إلى ولاية خامسة.

فيما استعرض الوثائقي الذي زادت مدته عن الساعة كيف كان بوتفليقة يحكم البلد بقبضة من حديد مدعيا أنه الضامن الوحيد للاستقرار والقضاء على الإرهاب، الذي صوّر الفيلم أن الإسلاميين هم من كانوا وراءه. 

بنى المخرج مصطفى كسوس الوثائقي على شهادات 5 شباب تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة، استعرضوا في الدقائق الأولى من الفيلم الوضع الاجتماعي الذي كانت تعيشه الجزائر من رشوة وفقر وفساد مالي، حملوا مسؤوليته للنظام السابق.

"تمكن المرأة من الحصول على حقها وإسقاط الرقابة التي تحاصر حريتها في حين لا يعاني الرجل ذلك والرغبة في المساواة"، أهم الأسباب التي جعلت الجزائريات ينزلن إلى الشارع في فبراير/شباط 2019، بحسب الفيلم الوثائقي.

استياء رسمي

الاستياء من الوثائقي بدأ على مواقع التواصل الاجتماعي حيث عبّر عدد من الجزائريين عن رفضهم لما جاء في الشريط معتبرين أن الفئة التي اقتصر عليها المخرج لا تمثل الشعب الجزائري ولا من شاركوا في الحراك، قد تكون جزءا منه لكن ليست ممثلته.  

الموقف تحول من رفض على المنصات الاجتماعية إلى موقف رسمي عبرت عنه وزارة الخارجية الجزائرية باستدعاء سفيرها لدى باريس للتشاور.

ثم أصدرت بيانا قالت فيه: "الطابع المطرد والمتكرر للبرامج التي تبثها القنوات العمومية الفرنسية، التي تبدو في الظاهر تلقائية تحت مسمى وبحجة حرية التعبير، ليست في الحقيقة إلا تهجما على الشعب الجزائري ومؤسساته، بما في ذلك الجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني".

وتابع البيان: "يكشف هذا التحامل وهذه العدائية عن النية المبيتة والمستدامة لبعض الأوساط التي لا يروق لها أن تسود السكينة العلاقات بين الجزائر وفرنسا بعد ثمانية وخمسين (58) سنة من الاستقلال في كنف الاحترام المتبادل وتوازن المصالح التي لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال موضوعا لأي تنازلات أو ابتزاز من أي طبيعة كان".

كان موقف الحراك منذ بدايته واضحا من فرنسا وتدخلها في الشؤون الداخلية للجزائر، التي رغم حصولها على الاستقلال رسميا في 1962 إلا أنها ظلت تابعة لفرنسا ثقافيا وسياسيا واقتصاديا أيضا، من خلال مسؤولين حكموا البلد بأجندات خارجية.

هتف المشاركون في الحراك ضد هؤلاء، وضد حكومة باريس التي حاولت التدخل بشكل مباشر في المظاهرات عبر تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون ومسؤولين آخرين، دفعوا نحو بقاء بوتفليقة في السلطة. 

وتحرص فرنسا على إبقاء العلاقات الاقتصادية مع الجزائر وتخاف من أن توطد علاقاتها النفطية والغازية مع الولايات المتحدة، وتعزز علاقاتها التجارية مع الصين والهند.

تغيير المسار

الموقف من فرنسا يتشاطره مع المشاركين في الحراك مسؤولون في الجيش أيضا. وظهر ذلك عندما أصدر البرلمان الأوروبي بيانا خلال حملة الانتخابات الرئاسية، أدان ما اعتبره "انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الأساسية في الجزائر". 

ليفتح من جديد ملف التدخلات الخارجية في الشأن الجزائري الداخلي، ومواقف الدول المؤثرة في القرارات الجزائرية، لما يربطها بالبلد المغاربي من مصالح.

رئيس أركان الجيش السابق، الفريق أحمد قايد صالح، أشاد بما أسماه حينها الرد القوي للشعب الجزائري على محاولة البرلمان الأوروبي التدخل في شؤونه الداخلية، معتبرا أن ما "تشهده البلاد في الفترة الأخيرة من هبة شعبية قوية ومسيرات سلمية، تعكس قوة الإرادة الشعبية لتخطي هذه المرحلة الحساسة التي تشهدها الجزائر".

وقد أجمعت عدد من القوى السياسية على أن الجيش الجزائري الحالي وقيادته أبعد ما يكون عن فرنسا ومصالحها، وأن توجههم فقط نحو العالم العربي والإسلامي.

وبدأ النفوذ الفرنسي يتقلص مع خروج من أطلق عليهم الحراك "حزب فرنسا" من السلطة، وإجماع المشاركين في المظاهرات الشعبية على ضرورة إضعاف أتباع باريس وإزاحتهم بعد أن دافعوا عن بقاء نظام بوتفليقة الذي خدم مصالحهم.

زعزعة الاستقرار

العارف بطبيعة العلاقة الجزائرية الفرنسية، وخاصة في الفترة الأخيرة منذ بداية الحراك، بعد إسقاط الكثير من الرموز التي كانت تخدم المصالح الفرنسية، يعرف أنها تعيش بداية قطيعة، وهو ما يغضب فرنسا.

ولفت أستاذ العلوم السياسية حسام حمزة، إلى أن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، خلال حملة انتخابه وبعد تنصيبه تضمنت خطاباته دائما نبرة حادة خلال الحديث عن النفوذ الفرنسي في الجزائر. الأمر نفسه ينطبق على رئيس أركان الجيش الراحل قايد صالح، والحالي السعيد شنقريحة.

وكلها مؤشرات استقرأ من خلالها حمزة في حديث له مع "الاستقلال"، أن فرنسا أصبحت غير مرغوب فيها، وأن نمط العلاقات الذي اعتادت عليه مع الجزائر هو خاضع للمراجعة. 

يجزم المتحدث بأن النظام وصلته الفكرة بشكل واضح، وإدراك فرنسا لذلك، دفعها إلى اللجوء لمحاولة زعزعة استقرار الجزائر.

الاعتقاد السائد حاليا لدى المعارضين في الجزائر، هو أن السلطة تريد التخلص من الحراك وتشويهه، وأن تقوم فرنسا بنفس الشيء يعطي انطباعا بوجود تواطؤ بينهما، وهذه هي الفكرة التي يراهن عليها الإعلام الفرنسي. 

حسام حمزة قال: إن عرض الفيلم في هذا التوقيت تحديدا، يهدف إلى إحباط الجهود الجزائرية التي تسعى إلى مراجعة العلاقة بين البلدين. ورأى أستاذ العلوم السياسية، أن ذلك يعطي دفعة أكبر للحراك. 

تزلف للحراك

أفاد المتحدث للصحيفة بأن الرسالة التي يوصلها الإعلام الرسمي الفرنسي، هي وجود تواطؤ بين النظام في الجزائر والسلطة في فرنسا، وهو رهان الوثائقي. في حين أن الموقف الرسمي للجزائر سار في الاتجاه المعاكس.

وذهب إلى حد القول: إنه جاء مدافعا عن الحراك بل وكان فيه نوع من "التملق والتمجيد والتزلف له وكأنه منزه بلا نقائص".

حسام حمزة الذي يعتبر أيضا الناطق الرسمي باسم حركة "عزم" التي تأسست لتأطير الحراك الشعبي، قال: إن إيجابيات الحراك كثيرة لكنه لم ينف أن تكون قد شابته الكثير من النقائص ومنها وجود الفئة التي أظهرها الوثائقي، والتي استطاعت أن تخترق الحراك وتعطي طابعا شرعيا لمطالبها وإعطاء انطباع أنها مطالب كل الشعب الجزائري.

وشدد على أن "الوثائقي لا يعبّر عن مطالب الحراك ولا حتى عن الشباب الجزائري الذي شارك فيه"، قبل أن يستدرك "طبعا تلك الفئة موجودة لكن لا يمكن اعتبارها أكثر من حالات شاذة، لا يمكن اعتبار أنها كانت المسيطرة".

وأوضح أستاذ العلوم السياسية أن القطيعة مع فرنسا ليست بالمعنى الراديكالي، وإنما مراجعة قد بدأت بالفعل وهناك الكثير من المؤشرات على ذلك، سواء عبر مراجعة الكثير من الصفقات على المستوى الاقتصادي والامتيازات التي كانت تحظى بها آخرها صفقة إنشاء خطي مترو وترامواي الجزائر.

تحدث حمزة عن استهداف الحراك للمسؤولين الذين كانوا يخدمون الأجندة الفرنسية، وكذلك من هم خارج السلطة وينشطون في المجال الإعلامي والثقافي، قائلا: إن كل هؤلاء تم إضعافهم وإبعادهم عن الساحة، وهذا ما يظهر وجود نية حقيقية لاستهداف النفوذ الفرنسي داخل الجزائر وتحقيق تلك القطيعة يوما ما. 

قد لا يدرك البعض مدى خطورة ما أقدمت عليه فرنسا عبر عرض الفيلم، ويؤكد على توضيحه حمزة بالقول: إن الهدف هو السعي لإعادة الأذهان إلى فكرة وجود تواطؤ بين النظام الجزائري والسلطة الفرنسية لإعطاء دفعة أكبر للحراك في المستقبل.

ويتابع أن هذا هو ما تراهن عليه فرنسا من أجل خلق حالة من عدم الاستقرار والتشويش على صانع القرار الحالي الذي يسعى إلى مراجعة العلاقة وتصحيح المسار.