سلاح الرواتب.. كيف تنتقم إسرائيل من أسرى فلسطين المحررين؟

أحمد علي حسن | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في حسابات إسرائيل، لا يكفي أنها تعتقل الأسرى الفلسطينيين لسنوات طويلة في ظروف قاسية وتحت ضغوط نفسية، بل إنها تلحق بهم إلى خارج السجون لصب المزيد من الإجراءات الانتقامية التي تعطل حياتهم.

آخر تلك الإجراءات جاءت عبر تهديدات مباشرة حملها الاحتلال الإسرائيلي إلى البنوك الفلسطينية، بإغلاق حسابات الأسرى الذين يتقاضون رواتب عبرها. وبالفعل حصل ذلك، إذ تم إغلاق بعضها من قبل بعض البنوك.

"بنك القاهرة–عمان" أغلق مؤخرا حسابات الأسرى المحررين، وسحب بطاقات الصراف لمجموعة منهم دون إشعار سابق، كما أجبرهم على نقل حساباتهم البنكية لبنوك ومصارف أخرى وإلا سيتم حجزها.

وتتجه بنوك أخرى لتنفيذ الخطوة ذاتها، وسط اتهامات منقسمة للسلطة وإسرائيل على حد سواء، طالت سلطة النقد الفلسطينية بسبب عدم إلزام البنوك بالاستمرار في عملها كونها تخضع للأنظمة واللوائح الفلسطينية.

وجاءت خطوة البنك امتثالا لأمر عسكري إسرائيلي وجّهه قائد قوات جيش الاحتلال في المنطقة الوسطى نداف فيدان، الذي طالب بإغلاق حسابات الأسرى وإلا سيتم محاكمة البنك بذريعة "دعمه للإرهاب".

ونقلت قناة "كان 11" العبرية يوم الجمعة 9 مايو/أيار الجاري، أن جميع البنوك الفلسطينية أبلغت السلطة نيتها إغلاق جميع حسابات الأسرى ابتداء من الشهر المقبل، متذرعة بأنها تخشى تعرضها لعقوبات إسرائيلية.

وفي حال استمرار البنوك في الاحتفاظ بحسابات الأسرى والمقدرة بنحو 12 مليون دولار شهريا، سيكون مدراء وموظفو البنوك "شركاء في الجريمة" وبالتالي تعريض أنفسهم لعقوبة تصل إلى سبع سنوات وغرامة باهظة.

وسنت سلطات الاحتلال تشريعا في شهر شباط/ فبراير 2019، يقضي بمصادرة المبلغ الذي تدفعه السلطة لأهالي الأسرى والشهداء من أموال المقاصة (مصطلح اقتصادي يعني آلية مالية لتسوية المعاملات التجارية والمالية والمصرفية، حيث تضمنت اتفاقية باريس الاقتصادية بنودا تنص على تحويل إسرائيل مبالغ شهرية للسلطة الفلسطينية).

وتبع ذلك في نفس الشهر أمر من الحاكم العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية المحتلة يقضي بملاحقة كل من يتعاون في إيصال هذه المبالغ لأسر الأسرى والشهداء بما في ذلك البنوك الفلسطينية، وأن المخالف سيتعرض لعقوبة تصل إلى السجن سبع سنوات.

لوم مزدوج

الأسير المحرر، "وصفي قبها"، واحد ممن طالته الإجراءات البنكية بوقف حسابه المصرفي، وهو ما اعتبره "خطوة تساوقية" مع سياسات الاحتلال الهادفة لتجريم المقاومة الفلسطينية ونضالات شعبها.

ولام "قبها" في حديث لـ"الاستقلال" البنوك الفلسطينية التي رضخت للتهديد، منتقدا تغليب المصالح المادية للمؤسسات على مصالح الشعب وتحديدا شريحة الأسرى. واعتبر أن ذلك "بمثابة تخل عن دورها الوطني".

ورأى أن التجاوب مع الخطوة الإسرائيلية يدفع الاحتلال إلى ممارسة مزيد من الضغوط على هذه المؤسسات لمحاربة الأسرى في لقمة عيشهم، داعيا إياهم إلى "رفض إملاءات الاحتلال" والتعاون مع المؤسسات ذات العلاقة بالسلطة الفلسطينية.

وطالب الأسير المحرر البنوك بالتعامل مع الأسرى على أنهم "خط أحمر"، وأن يكونوا إلى جانب الأسرى لا عليهم، وخلاف ذلك يعد "إمعان في عقوبتهم على دورهم الوطني"، وهذا الأمر "لا ينفصل عن قرارات الاحتلال وجرائمه".

ودعا "قبها" الجميع إلى التحرك الفاعل والجدي لمعالجة القضية من أصلها برفض الأمر العسكري الإسرائيلي، كما دعا الأسرى إلى رفض نقل حساباتهم وإغلاقها ورفع قضايا على البنوك لتعطيلها بطاقات الصراف الآلي الخاصة بهم.

لوم آخر ألقاه قبها على تحرك المسؤولين في السلطة، والذي جاء متأخرا جدا، معتبر أنها "مواقف خجولة وضعيفة جدا ولا ترتقي للمسؤولية الوطنية المطلوبة".

ووصف اللجنة التي تم تشكيها من سلطة النقد، وهيئة شؤون الأسرى، والمحررين وجمعية البنوك، ووزارة المالية، بأنها "لامتصاص غضب الشارع ورد فعله، ولتنفيس احتقانات الساحة الفلسطينية".

وإلى جانب "قبها" هناك العشرات من الأسرى الذين تعرضوا لإيقاف حساباتهم البنكية، وظهر ذلك من خلال إعلانهم عبر صفحاتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي.

استنكار فلسطيني

رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، أعرب عن رفض التهديدات الإسرائيلية"، مؤكدا "أننا لن نخضع لها، وسنوجد حلولا تحفظ حقوق الأسرى والشهداء وتحمي البنوك من بطش الاحتلال وأي إجراءات قضائية".     

وكشف اشتية في تدوينة قصيرة عبر حسابه الرسمي في "فيسبوك، عقب الخطوة الإسرائيلية، عن اتفاق مع البنوك على تجميد أي إجراء بشأن حسابات الأسرى لديها.

وأكد اشتية أن "عائلات الأسرى تستطيع تفعيل حساباتها البنكية ابتداء من يوم الأحد (10 مايو/أيار 2020)، وسوف يناقش مجلس الوزراء الأمر هذا الأسبوع".

وأشار إلى تشكيل لجنة لدراسة الأزمة من أجل تقديم توصياته، وأنه على ضوء هذه التوصيات سيكون هناك موقف موحد من جميع الأطراف بخصوص التهديد الإسرائيلي.

ولا بد من الإشارة هنا إلى وزارة المالية التابعة للحكومة التي يرأسها اشتية، قطعت في شهر يناير/كانون الثاني 2019 رواتب نحو ألفي أسير محرر من المنتمين إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي.

كما استنكرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ما فعلته إسرائيل، معتبرة ذلك "استجابة واضحة لإملاءات الاحتلال الإسرائيلي، وانحرافا خطيرا عن مسارها القيمي والأخلاقي".

وقالت الحركة في بيان لها تابعته "الاستقلال": إن الأسرى لدى إسرائيل "عناوين ورموز الشعب الفلسطيني، (...) فالمسؤولية والواجب نحوهم بتقديرهم ومكافأتهم واحترام تضحياتهم وتثبيت حقوقهم".

وأضافت: أن "الكل الفلسطيني بمستوياته وقواه كافة مطالبون بالوقوف عند مسؤولياتهم تجاه هذه القضية المقدسة، والدفاع عن الأسرى والمحررين منهم وعن حقوقهم المشروعة وحمايتها".

وعبر ناشطون فلسطينيون عن إدانة واسعة للقرار الإسرائيلي، محملين في الوقت ذاته السلطة الفلسطينية التي سبقت إسرائيل بخطوة مماثلة العام الماضي، جزءا من المسؤولية.

سياسة إخضاع

مؤسس ورئيس مرصد حقوق الإنسان الأورومتوسطي، رامي عبده، اعتبر أن "إسرائيل تنتهج سياسة كي الوعي والإخضاع كما كل القوى الاستعمارية على مر التاريخ".

وقال في تصريح لـ "الاستقلال" تعليقا على التهديد الإسرائيلي: "هي محاولة لجعل أثمان الأعمال التي تناهضها باهظة ليس فقط على من يمارسها، وإنما على المجتمع بشكل عام وهذا شأن ينسحب على عوائل الأسرى".

واعتبر أن إسرائيل "تريد القول إن أي انخراط لأي فرد في عمل مناهض يعني أثمانا باهظة لمحيطه وللمجتمع ككل، وهي بالتالي تحاول خلق بيئة رافضة وعدائية لمحاولات الرفض لاستمرار الاحتلال وجرائمه".

وعن تعامل البنوك مع التهديد الإسرائيلي، رأى "عبدو" أنها لا تريد لعب أي حد أدنى من الأدوار الوطنية المسؤولة. فكل الرغبات والتلميحات والتهديدات الإسرائيلية يتم التجاوب معها دون بذل أي جهد من أجل التصدي لها إما بموقف موحد أو بمواقف قضائية رافضة لتلك الإملاءات التي تصدر عن جهة يفترض أنها غير صاحبة ولاية. 

وأكد أن البنوك العاملة في فلسطين تدرك أن وجودها واستمرار عملياتها هو مصلحة إسرائيلية بذات درجة المصلحة الفلسطينية، عبر تلك البنوك يستفيد الاحتلال اقتصاديا وأمنيا بشكل كبير.

وأضاف "عبدو": "لا يمكن أن يتخيل الاحتلال مشهد تنقل الأموال خارج منظومة الرقابة التي تتعاون فيها المصارف وسلطة النقد بشكل كامل مع الأذرع الأمنية والرقابية الفلسطينية".

مخاوف كبيرة

وأشار إلى "مخاوف كبيرة" لدى البنوك من تبعات عقوبات أميركية وإسرائيلية، لكن التبعات على الاحتلال كبيرة خصوصا أن "إسرائيل تخالف نصوصا واضحة في القانونين الدولي والإنساني، وهي قوانين ملزمة للاحتلال سواء كان يقر بولايته كقوة احتلال على الأراضي الفلسطينية أو يتعاطى وكأنها خارج ولايته".

ومن المهم التأكيد، برأي "عبدو" على أن توفير مخصصات الأسرى وعوائلهم مسؤولية السلطة الفلسطينية لضمان شبكة حماية أمان اجتماعي للمواطنين، فضلا عن رعاية عوائل لعب أفرادها دورا أساسيا في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني.

أما قانونيا، فقد نظم القانون الأساسي الفلسطيني في مادته رقم (22)، وقانون الأسرى والمحررين رقم (19) لسنة 2004، المعدل بقانون رقم (1) لسنة 2013، عملية دفع المخصصات الشهرية للأسرى في سجون الاحتلال.

وعلى مستوى القانون الدولي الإنساني، فأكدت المادة (98) من اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 على حق المعتقلين والأسرى في تلقي المخصصات المالية من دولهم وعوائلهم وأية هيئات ترغب بمساعدتهم، وفق "عبدو".

وأكد رئيس مرصد حقوق الإنسان الأورومتوسطي أن هذه القواعد القانونية تشكل أرضية صلبة للسلطة الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني والبنوك، من أجل التحرك قانونيا ودوليا لرفض الإملاءات الإسرائيلية، وتجنيد اصطفاف دولي يحرج الاحتلال ويدفع لوقف هذا التغول على حقوق مقرة دوليا.