من البسيوني إلى أبو منة.. هكذا يتحول نعي ضباط مصريين إلى محاكمة شعبية

"حين تعجز العدالة على الأرض تتكفل بها السماء"
"حين تعجز العدالة على الأرض، تتكفل بها السماء".. بهذه العبارة يمكن اختصار المشهد الذي يتكرر، حين يسقط واحد تلو الآخر من بعض ضباط جهاز الشرطة المصريين الذين ارتبطت أسماؤهم بسنوات من القمع والتعذيب.
لم تكن نهاياتهم عادية، بل جاءت فجائية وموحية، وما إن ينشر خبر وفاة أحدهم، حتى تنفجر شبكات التواصل بسيل من الشهادات التي كانت مختنقة، فينقلب النعي إلى محاكمة متأخرة، ويتحول الموت إلى مناسبة لاستحضار وجوه الضحايا، وآهات المعتقلين، وذاكرة الألم التي لا تموت.
خلال الأيام الأخيرة تم فتح ملفات بعض أبرز تلك الوجوه، "عيد أحمد الدهشوري" الملقب بـ"أبو منة"، الذي لقي مصرعه دهسا بعد مسيرة حافلة بالتعذيب والسباب للذات الإلهية.
واللواء "عصام الدين عبد الله"، أحد أبرز من أشرفوا على الانتهاكات في شمال سيناء قبل أن يلقى حتفه في حادث مروع.
ليست هذه القصص عن مجرد أفراد، بل عن منظومة كاملة ظنت أن السلطة تعني الحصانة، وأن التعذيب لا يعاقب عليه، وأن الذاكرة تمحى.
لكن الذاكرة بقيت، والتاريخ لا ينسى، والموت على غير ما ظنوا لا يغلق الملفات، بل يفتحها على مصراعيها.
شهادات مفزعة
ولطالما تتكرر الحكاية، رجل أمن وُصِف بأنه "سفاح المعتقلات" يلقى مصرعه في حادث مأساوي، فيتحول خبر وفاته إلى شرارة تستدعي ذاكرة الضحايا وشهاداتهم المؤلمة.
كذا رحل "عيد أحمد الدهشوري" المعروف بـ"أبو منة"، وكيل الأمن الوطني بمقر 6 أكتوبر، بعد أن دهسته سيارة في حادث غامض بمحافظة الجيزة.
بدا النعي في إحدى صفحات الوفيات يوم 17 يوليو/ تموز 2025، وكأنه لمدني عادي، إلا أن تعليقات المئات من الناجين من تحت يديه كشفت عن وجه آخر للرجل.
سجّان لا يتورع عن التعذيب، وسادي يسيء للذات الإلهية أمام المعتقلين بكل تبجح. وفقا لشهاداتهم.
كان اسمه، حتى وهو مستعار، كفيلا بإثارة الذعر، أما وجهه فارتبط في أذهان الضحايا بالصعق، والركل، والإهانة، والتعليق من الأطراف، والتبول المتعمد على بلاط الوضوء فجرا.
رجل قال له أحد المعتقلين في شهادته: "سألته عن القبلة.. فقال لي: أنت في جهاز أمن الدولة، أشرف من مكة، صلي بأي اتجاه."
إحدى الشهادات المؤثرة دونها معتقل سابق بعبارات مرتجفة من فرط الانفعال:
"يا الله... الحمد لله رب العالمين إني عشت اللحظة دي! بالصدفة لقيت خبر موت أبو منة.. شفته بيعذب وهو بيضحك، كان فاجر بكل معنى الكلمة، وكان أتعس لحظاتنا لما نسمع ضحكته الصفرا لما يعرف إن صراخنا وصل لأسياده فوق، الحمد لله فرمته عربية".

شبيه حمزة البسيوني
وفي منشور آخر، يقول أحد المعتقلين: "هلك خنزير، أظن مفيش معتقل في 6 أكتوبر ما شافش النجس دا، أبو منة عليه لعنات الله تترى، كان يتعمد الدخول قبل أذان الفجر ليتبول على بلاط الوضوء، هلك مدهوسا تحت عجلات السيارات، أسأل الله أن يشعل عليه قبره نارا ويجمعه بقياداته في قعر جهنم".
أما أحدهم فاختصر شهادته في آية واحدة: "فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، والحمد لله رب العالمين."
وتوالت الدعوات والتعليقات التي لم تخف ارتياحها لموته المهين، بل رأت فيه ضربا من عدالة السماء، التي استعصت طويلا على الأرض.
وفي مجملها، لم تكن تعليقات كراهية، بل وثائق ذاكرة، ذاكرة الألم الذي لم ينصفه القانون، فتكفل به القدر.
ولم يكن أبو منة أول رموز القمع الذين يلقون حتفهم على الطرقات، بل سبقه قبل عقود "حمزة البسيوني"، مدير السجن الحربي في عهد عبد الناصر، الذي لطالما ردد قولته الشهيرة: "لو نزل ربنا من السما هحبسه!".
ذلك قبل أن يلقى هو الآخر حتفه بطريقة مماثلة، اصطدمت سيارته في حادث مروع وتمزق جسده، واليوم، تتطابق النهايات، وتتشابه الوجوه والجرائم واللعنات.

مصرع لواء
ورصدت مؤسسة جوار للحقوق والحريات في بيان لها حادثة وفاة اللواء عصام الدين عبد الله عبد القادر، مدير أمن الوادي الجديد المعين حديثا.
وذلك إثر انقلاب سيارة تابعة للشرطة في 27 يوليو 2025، على الطريق الصحراوي الغربي قرب مدينة سمالوط في محافظة المنيا، بينما كان في طريقه لتسلم مهامه الجديدة بعد صدور حركة تنقلات وزارة الداخلية.
وذكرت المؤسسة أن الضابط، الذي كان يشغل سابقا منصب حكمدار شمال سيناء، شارك في إدارة عدد من العمليات الأمنية في المحافظة، وسجلت خلال فترة عمله انتهاكات موثقة بحق المدنيين، من بينها حالات اعتقال تعسفي، وتجاوزات ميدانية نالت سكان مناطق رفح والشيخ زويد والعريش.
ورغم أن الحادثة نسبت إلى انقلاب مروري مفاجئ، فإنها فجرت تفاعلا واسعا على منصات التواصل الاجتماعي.
حيث استقبلت الوفاة كمناسبة لاستحضار سجل الرجل الأمني الذي وصفه كثير من أهالي سيناء بـ"الدموي"، في ظل غياب أي مساءلة قانونية حقيقية عن الانتهاكات التي ارتكبت تحت سلطته.
وأشارت جوار إلى أن هذه الحوادث، وإن بدت "قضاء وقدرا"، إلا أنها تعكس هشاشة منظومة العدالة في مصر؛ حيث تنتهي مسيرة كثير من المسؤولين الأمنيين دون محاسبة، لتبقى الملفات مفتوحة في ذاكرة الضحايا، وداخل تقارير المنظمات الحقوقية.
وأكدت المؤسسة أن استمرار الإفلات من العقاب، خاصة في الملفات المتعلقة بالتعذيب والانتهاكات في شبه جزيرة سيناء، لن يوقف الألم أو ينهي آثار القمع، داعية إلى فتح تحقيقات جادة في تلك الانتهاكات، وإنصاف الضحايا، وعدم الاكتفاء بخاتمة الموت كمسكوت عنه.
مصرع طاحون
ولم يكن الموت المفاجئ وحده هو الذي يطارد كبار الجلادين في مصر؛ حيث تعددت النهايات؛ ففي تقرير نشره موقع مدى مصر بتاريخ 24 أبريل/ نيسان 2015، تم توثيق واقعة اغتيال العقيد وائل طاحون، رئيس مباحث المطرية السابق، كأحد أبرز الأمثلة على كيف أن العنف الممنهج الذي مارسه بعض ضباط الأمن في مصر قد عاد لينالهم شخصيا.
ففي أحد أيام شهر أبريل من ذلك العام، لقي طاحون مصرعه برفقة سائقه (مجند شرطة) قرب منزله شرق القاهرة، بعدما أطلق ملثمون النار بكثافة على سيارته. لم يكن حادثا اعتياديا، بل كان تصعيدا علنيا، وصفه مراقبون بأنه أول استهداف مباشر من هذا النوع لضابط شرطة يعمل في قسم، وليس في جهاز أمني سيادي.
وبحسب التقرير، فإن طاحون كان يمتلك سجلا طويلا من الانتهاكات، جعلت اسمه مرادفا للخوف والكراهية في أوساط أهالي حي المطرية؛ حيث اتهم بتعذيب نشطاء سياسيين ومدنيين، وارتكاب تجاوزات مروعة أثناء المداهمات والاعتقالات، إلى جانب مسؤوليته عن مقتل عدد من المتظاهرين خلال ثورة يناير وما بعدها.
وتشير تقديرات محلية إلى مقتل نحو 500 شخص في المطرية خلال أربع سنوات فقط بسبب قمع الشرطة، ما رسّخ العداء تجاه عناصر الأمن، خصوصا طاحون.
ورغم معارضة بعض السكان لفكرة ممارسة العنف ضد مؤسسات الدولة، فإن كثيرين عدوا وائل طاحون "حالة خاصة".
أحد سكان المطرية وصفه في تصريح لـ"مدى مصر" بأنه "لم يفرق في التعذيب بين ناشط أو متهم جنائي، أو رجل أو امرأة، كان عدوه هو المواطن".
وكانت جماعة تطلق على نفسها اسم "كتيبة الإعدام" قد أعلنت مسؤوليتها عن العملية، قائلة: إنها جاءت انتقاما لمقتل المحامي كريم حمدي، الذي توفي تحت التعذيب في قسم المطرية في فبراير من العام نفسه.
ويرى باحثون في الشأن الأمني، بحسب التقرير، أن اغتيال طاحون كشف عن مدى خطورة التراكمات الأمنية القمعية، التي لم تولد سوى دوائر عنف معقدة في قلب المجتمعات الحضرية.
فالرجل، وفق محللين، لم يكن يواجه تيارا واحدا، بل شبكة من الخصومات الممتدة، بدءا من النشطاء، إلى أصحاب السوابق، إلى المتضررين من استغلال النفوذ، في بيئة فقدت فيها الثقة بجهاز الدولة.

التوثيق الشعبي
وفي تعليقه على ما ورد في التقرير من شهادات ضحايا التعذيب وتعليقاتهم على مصرع عدد من ضباط الأمن سيئي السمعة، قال الناشط الحقوقي مصطفى عز الدين فؤاد: إن "ما جرى من تفاعل شعبي واسع عقب موت ضباط مثل أبو منة، لم يكن مجرد تنفيس عن الغضب، بل هو شكل جديد من التوثيق الشعبي".
وأضاف لـ"الاستقلال" أن "هذا التوثيق يمثل كشفا أخلاقيا لنظام كامل بُنِي على القمع والتعذيب، ففي الستينيات كان الإعلام صوتا أحاديا غائبا عن الميدان، أما اليوم، فنحن أمام عصر جديد أصبح فيه التوثيق نمطا أساسيا وسهلا، يقوم به الناجون بأنفسهم، بالصوت والصورة والذاكرة".
وأوضح الحقوقي المصري أن "هذه الشهادات، وإن بدت عاطفية أو غاضبة، فهي تؤسس لأرشيف قادم ستبنى عليه محاكمات، وإن تأخرت".
وتابع: "التاريخ لا يحمي الجلادين، وقد رأينا كيف دفعت الأنظمة العسكرية في تشيلي والأرجنتين وتركيا ثمن جرائمها بعد عقود، حين تغيرت الموازين وسقطت الحصانات المصطنعة".
وختم فؤاد بالقول: "المحاكمات قادمة، قد لا تكون الآن، لكنها حتمية، والذاكرة الجمعية التي تتكون من هذه الشهادات هي أول خطوة على طريق العدالة".