من حقل نفطي إلى نقطة كسر.. كيف أعاد سقوط "هجليج" رسم مسار الحرب في السودان؟

داود علي | منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

لم تكن هجليج مجرد حقل نفطي سقط بيد قوة مسلحة، بل شكّلت إحدى آخر الركائز الاقتصادية التي أبقت على تماسك ما تبقى من الدولة السودانية في حرب استنزاف طويلة ومفتوحة. فمنذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان 2023، ظلت هذه المنطقة النفطية شديدة الحساسية خارج دائرة الاشتباك المباشر، بصفتها شريانًا اقتصاديًا حيويًا لا للسودان فحسب، بل لجنوب السودان أيضًا.

غير أن سقوط هجليج شكّل كسرًا لمحظور إستراتيجي ظل قائمًا طوال عامين من الصراع، وفتح الباب أمام تحولات أعمق في مسار الحرب، سواء من حيث طبيعتها أو مآلاتها السياسية والاقتصادية.

ففي 8 ديسمبر/كانون الأول 2025، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على حقل هجليج النفطي، عقب أيام من التقدم العسكري المتسارع في ولاية غرب كردفان، وذلك بعد سقوط مدينة بابنوسة- آخر المعاقل الكبرى للجيش في الولاية- في مطلع الشهر ذاته.

ولم يكن هذا التطور حدثًا معزولًا، بل جاء تتويجًا لانهيار تدريجي في خطوط دفاع الجيش السوداني داخل الإقليم، بدأ بفقدان السيطرة على مدن وطرق إستراتيجية، وانتهى بانكشاف أحد أهم الأصول الاقتصادية السيادية للدولة، ما ينذر بمرحلة أكثر تعقيدًا في الصراع السوداني.

 شريان حياة 

تقع هجليج في منطقة بالغة الحساسية جغرافيًا وسياسيًا، على تخوم ولاية غرب كردفان وبمحاذاة مباشرة لحدود جنوب السودان. ولا تقتصر أهميتها على كونها أكبر منشأة لمعالجة النفط المنتج في السودان، بل تمثل عقدة محورية في شبكة النفط الإقليمية؛ إذ تعالج نحو 130 ألف برميل يوميًا من نفط جنوب السودان إلى جانب إنتاج القطاع 6، أكبر القطاعات النفطية السودانية.

ومنذ انفصال جنوب السودان عام 2011، تحولت هجليج إلى شريان حياة مزدوج، فهي مورد مالي حيوي للسودان في ظل العقوبات والتدهور الاقتصادي، كما تشكل المنفذ شبه الوحيد لجنوب السودان لعبور نفطه إلى الأسواق العالمية.

لهذه الأسباب مجتمعة، ظلّت هجليج لفترة طويلة خارج ما يمكن وصفه بـالخطوط الحمراء غير المعلنة للصراع، ومحصّنة بتفاهمات إقليمية وقبلية ودولية هدفت إلى إبقائها بمنأى عن الاستهداف. غير أن طبيعة الحرب السودانية، بما تحمله من فوضى وتفكك في مراكز القرار، أدّت اليوم إلى كسر هذا المحظور، وزجّت بأحد أعصاب الاقتصاد السوداني في قلب المواجهة العسكرية.

لم يكن سقوط هجليج نتيجة معركة تقليدية طويلة الأمد، بقدر ما كان حصيلة تآكل بطيء أعقبه انهيار مفاجئ. فمع تمدد مليشيا قوات الدعم السريع، المدعومة إماراتيًا، في ولاية غرب كردفان، وسقوط مدينة بابنوسة، فقد الجيش السوداني عمقه الدفاعي الحيوي، وتقطعت خطوط إمداده الرئيسة.

ومع غياب قيادة عسكرية موحدة، وتعدد مراكز اتخاذ القرار، تحولت الحاميات المنتشرة في المنطقة إلى جيوب معزولة غير قادرة على التنسيق أو الصمود طويلًا. ولم يكن المشهد الأبرز في سقوط هجليج هو مجرد انسحاب القوات، بل طبيعة هذا الانسحاب؛ إذ عبرت وحدات عسكرية الحدود إلى جنوب السودان، وسلّمت أسلحتها الثقيلة، وخرجت من ساحة القتال دون إعادة تموضع منظم أو خطة انسحاب واضحة.

ويرى خبراء عسكريون أن ما جرى لا يمكن تصنيفه كتحرك تكتيكي محسوب، بل يعكس انهيارًا في منظومة القيادة والسيطرة داخل الجيش السوداني.

ويتجلى ذلك بوضوح في ما حدث مساء 10 ديسمبر/كانون الأول 2025، حين حاول الجيش استعادة زمام المبادرة عبر ضربة نفذتها طائرة مسيّرة استهدفت مواقع لقوات الدعم السريع داخل منشأة هجليج. وأسفر الهجوم عن مقتل العشرات، من بينهم ثلاثة جنود من جنوب السودان، ما تسبب في توتر إقليمي محدود.

إلا أن هذه الضربة، رغم رمزيتها، لم تُحدث تغييرًا في ميزان السيطرة الميدانية، بل كشفت عجز الجيش السوداني عن إطلاق عملية برية منظمة قادرة على استعادة المنطقة. مؤكدة أن سقوط هجليج لم يكن حدثا عسكريا عابرا بل مؤشرا على اختلال أعمق في بنية الصراع.

إعادة ترسيم

عقب سقوط هجليج، دخلت قوات من جيش جنوب السودان إلى المنطقة بموجب اتفاق ثلاثي غير مسبوق ضم قيادة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ورئاسة جنوب السودان، في خطوة هدفت إلى تحييد المنشأة النفطية ومنع تحولها إلى ساحة اشتباك مفتوحة قد تتجاوز تداعياتها حدود السودان.

غير أن هذا الانتشار، على الرغم من أهميته الظرفية، لم يغيّر حقيقة أساسية مفادها أن هجليج خرجت فعليًا من قبضة الدولة السودانية، وأن النفط- الذي مثّل آخر مورد مالي شبه ثابت لحكومة بورتسودان- أصبح خارج معادلة السيطرة. ومع فقدان هذا المورد، باتت الحكومة عاجزة عن تأمين تمويل مستدام لعملياتها العسكرية أو الحفاظ على الحد الأدنى من وظائف الدولة.

في المقابل، لا تبدو قوات الدعم السريع معنية بتشغيل الحقل أو تصدير النفط في هذه المرحلة؛ إذ يكفيها حرمان خصمها من هذا المورد الحيوي وتحويله إلى ورقة استنزاف وتعطيل إستراتيجية طويلة الأمد.

وعسكريًا، منح سقوط هجليج قوات الدعم السريع أفضلية لوجستية حاسمة؛ فالمنطقة تشكّل نقطة وصل بين دارفور وكردفان، وتوفر حرية حركة واسعة للقوات والإمدادات، فضلًا عن عمق إستراتيجي يمكّنها من الانتقال إلى مراحل أكثر تقدمًا من العمليات.

وبالفعل، بدأت المؤشرات تتجه نحو جنوب كردفان، وتحديدًا مدن كادوقلي والدلنج وأبو جبيهة، وهي مناطق تتقاطع فيها سيطرة الجيش السوداني مع نفوذ الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، الحليف الميداني لقوات الدعم السريع ضمن ما يُعرف بـ"تحالف السودان التأسيسي".

وفي هذا الإطار، لم يكن إعلان الحركة الشعبية في 11 ديسمبر/كانون الأول 2025 أن "تحرير كادوقلي والدلنج مسألة وقت" مجرد خطاب تعبوي، بل عكس قناعة عملياتية بأن السيطرة على هجليج وبابنوسة شكّلت خطوة تمهيدية لإعادة رسم خريطة السيطرة في كردفان الكبرى.

فالسيطرة على هذه المدن تعني عمليًا عزل ما تبقى من قوات الجيش في شمال كردفان، وفتح الطريق لاحقًا نحو مدينة الأبيض إحدى أهم المراكز العسكرية والاقتصادية في وسط السودان، ما ينذر بتحولات أوسع في ميزان القوى ومسار الحرب.

نقطة تحول

يتجاوز الأثر السياسي لسقوط هجليج مجرد تبدّل في موازين القوى العسكرية. فمع خروج أكثر من 46% من مساحة السودان- الممتدة من أقصى دارفور إلى غرب وجنوب كردفان- عن سيطرة الجيش، تتآكل فكرة الدولة المركزية ذاتها. ولم تعد المعركة محصورة في من يسيطر على الخرطوم أو بورتسودان، بل باتت تدور حول من يمتلك الجغرافيا والموارد والقدرة على فرض الأمر الواقع.

ويفتح هذا التحول الباب أمام سيناريو "شبه الدولة"، حيث تتشكل سلطات متوازية، لكل منها جيشها واقتصادها وتحالفاتها الإقليمية، في ظل عجز المجتمع الدولي عن التعامل مع فراغ سيادي آخذ في الاتساع.

وفي قلب هذه التحولات، يقف المدنيون مرة أخرى في دائرة الخطر. فالتقارير الواردة من جنوب كردفان تشير إلى تدهور متسارع في الأوضاع الإنسانية، وسط مخاوف من منع السكان من مغادرة المدن المحاصَرة، وتكرار سيناريو الفاشر ومدن دارفور الأخرى؛ حيث تحولت المراكز الحضرية إلى ساحات قتال مغلقة يدفع المدنيون فيها ثمن الصراع قتلا وتهجيرا قسريا.

وفي هذا السياق، قال السياسي السوداني الدكتور إبراهيم عبد العاطي لـ"الاستقلال": إن سقوط مدينة هجليج النفطية بيد ما وصفهم بـ"الجنجويد"- قوات الدعم السريع- يمثل محطة مفصلية في مسار الحرب، ويكشف عن تحول نوعي في إستراتيجية هذه المليشيات، التي لم تعد تكتفي بمعارك السيطرة العسكرية، بل باتت تستهدف إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والاقتصادية للبلاد.

وأوضح عبد العاطي أن سيطرة الدعم السريع على هجليج تأتي ضمن مسار اندفاع متواصل بدأ من دارفور، مرورا بمدينة بابنوسة، وصولا إلى مناطق النفط في غرب كردفان. ويرى أن هذا المسار يهدف إلى فتح الطريق نحو إقليم النيل الأبيض، وفرض فاصل جغرافي فعلي قد يؤدي إلى عزل غرب السودان عن شرقه، بما يحمله ذلك من تداعيات خطيرة على وحدة الدولة وتماسكها.

وأضاف أن امتداد العمليات العسكرية من الفاشر في شمال دارفور إلى بابنوسة ثم هجليج يعكس سعيًا واضحًا للسيطرة على المساحات الحيوية والثروات الإستراتيجية، وعلى رأسها النفط. وأشار إلى أن رقعة الحرب اليوم تتجاوز 1.8 مليون كيلومتر مربع، ما يجعل السيطرة على مناطق النفط والذهب عاملا حاسما في ميزان القوة، لا سيما في ظل التحديات اللوجستية المتزايدة التي تواجه الجيش السوداني في إدارة جبهات واسعة ومتشعبة.

وفيما يتعلق بانسحاب القوات المسلحة من بعض المواقع، رأى عبد العاطي أن ما جرى يعكس عزلة ميدانية تعاني منها وحدات الجيش في عدد من مسارح العمليات، نتيجة ضعف خطوط الإمداد واتساع رقعة القتال.

ورأى أن الاختبار الحقيقي في المرحلة المقبلة سيكون في مدينة كادوقلي بجنوب كردفان، بوصفها مركزًا قياديًا قد يحدد قدرة الجيش على تثبيت خطوط دفاعه في الجنوب.

وحذّر عبد العاطي من أن سيطرة المليشيا المتمردة على مناطق النفط تفتح الباب أمام تمويل الحرب عبر قنوات غير رسمية، بما في ذلك التهريب، ويرى أن إبقاء هذه الثروات خارج سلطة الحكومة المركزية في بورتسودان من شأنه تعميق الانقسام، ومنح القوى المسيطرة في غرب البلاد-المدعومة إماراتيًا- قدرة إضافية على فرض واقع جغرافي وسياسي منفصل عن شرق السودان.

وختم بالتحذير من أن السودان يقف اليوم أمام مفترق طرق خطير، متسائلًا عمّا إذا كان الضغط المدني والسياسي والعسكري قادرًا على فرض مسار يوقف هذا الانحدار، أم أن البلاد تتجه نحو تفكك بطيء تتشكل فيه جزر نفوذ تحكمها الحرب واقتصادها، بينما تتراجع فكرة الدولة إلى حدودها الدنيا.