800 شهيد.. هكذا أمعنت إسرائيل باستهداف الرياضيين في غزة والضفة

"هؤلاء ليسوا أرقاما فكل شهيد منهم كان قصة طموح ومسيرة حلم"
لم تكتفِ إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بتدمير الأبراج والبنى التحتية واستهداف المستشفيات والمدارس، بل امتدت جرائمها لتشمل عن سابق قصد وتصميم القطاع الرياضي الفلسطيني، الذي يعد أحد أبرز وجوه الهوية الوطنية وقوة فلسطين الناعمة في المحافل الدولية.
فالرياضة الفلسطينية، بما تحمله من رمزية عالية، تمثل في نظر الاحتلال الإسرائيلي أكثر من مجرد منافسة أو نشاط مدني، إنّها راية ترفع باسم فلسطين، ونشيد يعزف في محافل دولية، وطاقم يرتدي قميصا ويحمل علما لا تريد تل أبيب الاعتراف بوجوده.
ولهذا، لم يكن مستغربا أن تدرج الملاعب والأندية والرياضيون ضمن أهداف العدوان الإسرائيلي، في محاولة لطمس صورة فلسطين كدولة حية وشعب نابض بالحياة والطموح.
وفي هذا السياق، برزت الرياضة الفلسطينية كضحية صامتة للعدوان؛ إذ استهدفت آلة الاحتلال الحربية المقرات الرياضية، وقصفت الملاعب، وسحقت فرق بأكملها تحت الركام، وتحوّلت الشهادات والجوائز والقمصان إلى رماد.
أكثر من ذلك، اغتالت آلة القتل الإسرائيلية العشرات من الرياضيين والكشافة والمدربين، في استهداف متكرر لرموز الحياة والانتماء والتحدي في المجتمع الفلسطيني.
ولا يمكن عزل ما يجري عن سياسة منظمة تستهدف كل مقومات الدولة الفلسطينية، من الثقافة والتعليم، إلى الصحة والرياضة، في مسعى لمحو ما تبقى من ملامح المجتمع الفلسطيني تحت حجارة غزة المحاصرة.
فالاحتلال لا يكتفي بتدمير الحجر بل يسعى لكسر الروح ومسح الرموز وخنق أي صوت يمكن أن يذكر العالم بفلسطين كهوية، وكعلم، وكأبطال يركضون في المضمار باسم شعبهم.

يوليو الأسود
وقبل أن يسدل يوليو/ تموز 2025 ستاره، أعلنت اللجنة الأولمبية الفلسطينية عن استشهاد 40 رياضيا فلسطينيا خلال شهر واحد بنيران الاحتلال الإسرائيلي، من غزة إلى الضفة الغربية.
وبذلك انضم هؤلاء إلى عشرات آخرين سبقوهم، ليطوي الاحتلال صفحات الشغف والموهبة الخاصة بهم ويسجل اسم كل واحد منهم في سجل الشرف الفلسطيني، لا في قوائم المنتخبات أو سجلات الأندية.
آخرهم كان عودة محمد الهذالين (31 عاما)، وهو لاعب ناديي مسافر يطا وسوسيا في جنوب الضفة الغربية، والذي سقط برصاص مستوطنين إسرائيليين في قرية أم الخير 26 يوليو.
لم يكن عودة مسلحا، ولا يحمل علما أو شعارا، بل كان يسعى كغيره لتأمين لقمة العيش لعائلته، لكنه انتهى برصاصة حقد عنصرية كانت كفيلة بإزهاق روحه.
وقد أكَّدت اللجنة الأولمبية خلال بيان صدر في 29 يوليو، بعنوان "تموز الدامي: أربعون قمرا.. الرياضة الفلسطينية تنزف شهداء"، أن الهذالين ليس استثناء، بل حلقة في سلسلة استهداف ممنهجة نالت عشرات الرياضيين والمدربين والكشافة في حرب إبادة مفتوحة منذ 7 أكتوبر 2023.
وللمفارقة فإن هذا البيان جاء في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالتحضير للألعاب الأولمبية والمنافسات العالمية في 2028، فيما يستقبل الفلسطينيون جثامين لاعبيهم.
وقالت اللجنة الأولمبية في بيانها: "في كل يوم يمضي، تتكشف فصول جديدة من مأساة الرياضة الفلسطينية.. الرياضيون لا يقتلون في ميادين القتال، بل يغتالون وهم يركضون خلف أبنائهم، أو يبحثون عن ماء ودواء، حرب التجويع صارت تصطاد الرياضيين كما تصطاد الأطباء والمدنيين".
أسماء لا تنسى
وأشار إلى أن الاستهداف لا يتعلق بـ"خسائر جانبية"، بل هو تصفية ممنهجة لرموز الحياة والانتماء، فالرياضة في فلسطين ليست مجرد لعبة، بل وسيلة بقاء، وتعبير سياسي، وقوة ناعمة ترعب الاحتلال.
ومن بين الأربعين الذين ارتقوا في يوليو، تدوّن السجلات أسماء لامعة في المشهد الرياضي الفلسطيني، منهم مهند فضل الليلي، نجم نادي خدمات المغازي والمنتخب الوطني الفلسطيني، والذي استشهد في الثالث من الشهر المذكور إثر قصف على قطاع غزة.
ومصطفى أبو عميرة، لاعب سابق لأندية الصداقة وخدمات الشاطئ والزيتون، واستهدف خلال وجوده في أحد المقاهي.
وملك مصلح، أصغر ملاكمة فلسطينية واعدة، لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، قتلت مع أفراد من عائلتها في قصف على شاطئ غزة.
وإسماعيل أبو دان (37 عاما)، أحد أبرز لاعبي نادي التفاح الرياضي، تلاه زميله سامي الحلو في قصف لاحق.
وأحمد علي صلاح، لاعب في أكاديمية الخضر للمحترفين، والذي كان يعد للانتقال إلى نادٍ جديد قبل أن يودي القصف الإسرائيلي بحياته.
وعماد الحواجري، لاعب كرة يد معروف، وعماد العبد الفيومي، نجم الشجاعية سابقا، ارتقيا في استهداف مباشر لمنزليهما.
وكذلك إيمان محمد حرز، فتاة في مجموعة كشافة ومرشدات السلام، وُجدت جثتها تحت أنقاض منزلها.
وأحب بخيت، الملاكم الشاب الذي شارك في بطولات محلية، واستشهد مع شقيقه في غارة جوية.
ومحمد عمر عبد الله أبو عبده، لاعب كرة يد آخر طويت مسيرته بالدم، وأسعد أبو شوقة، نائب رئيس الاتحاد الفلسطيني للكاراتيه، والذي استشهد إثر قصف نال مقرا سكنيا وسط القطاع.

72 فريق كرة
ورغم فظاعة المشهد الدموي في غزة، حيث تتعرض الرياضة الفلسطينية لحرب إبادة ممنهجة نالت البشر والمنشآت، تواصل الاتحادات الدولية الرياضية المختلفة بما فيها الدولي لكرة القدم (فيفا)، التزام الصمت المريب بما لا يليق بمؤسسات تدعي الدفاع عن “القيم الإنسانية والروح الرياضية”.
وبحسب بيانات اللجنة الأولمبية الفلسطينية، في مطلع يوليو 2025، فإن عدد الشهداء من الحركة الرياضية الفلسطينية تجاوز 800 منذ 7 أكتوبر 2023.
وكان بينهم 418 من المنتسبين إلى الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، ما يعادل تشكيلة كاملة لـ72 فريق كرة قدم، في مشهد يكشف حجم الفاجعة التي تعيشها الرياضة الفلسطينية تحت القصف.
ولا يتوقف الأمر عند الشهداء، بل يضاف إليهم ما لا يقل عن 30 جريحا رياضيا، و26 معتقلا، إلى جانب تدمير واسع للبنية التحتية الرياضية، ونسف أندية وملاعب ومقرات تدريب في غزة والضفة.
وتشمل قائمة الشهداء أيضا، 243 شهيدا من المنتسبين إلى اللجنة الأولمبية الفلسطينية، و117 من عناصر الكشافة، وأكثر من 35 شهيدة رياضية.
والغالبية من الشهداء ينتمون للفئة العمرية من 6 إلى 20 عاما، ثم من 20 إلى 30 عاما، ما يعكس حجم الضربة التي تلقتها الطاقة الشابة الفلسطينية.
ومع أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت، بتهم تنفيذ جرائم حرب، لم يصدر “فيفا” موقفا واحدا تجاه اتحاد الكرة الإسرائيلي، أو حتى يعمد إلى تعليقه بشكل مؤقت.
وهو ما يظهر ازدواجية معايير مفضوحة بالنظر إلى إيقاف نشاط الاتحاد الروسي لكرة القدم على إثر الحرب الروسية الأوكرانية؛ حيث تتحكم التقديرات السياسية في قرارات الهيئات الرياضية العالمية، على حساب حقوق الشعوب المستضعفة.
وقال محمد العمصي، الأمين العام المساعد للجنة الأولمبية المحلية وعضو المكتب التنفيذي للاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، عبر "فيسبوك": "إن ما يحدث اليوم للرياضة الفلسطينية يفوق التصور، ويكشف زيف كثير من الشعارات الأممية عن العدالة والمساواة داخل المنظومة الدولية".

تدمير الملاعب
ولم تقتصر الحرب الإسرائيلية على قتل الرياضيين الفلسطينيين، بل امتدت لتنال البيئة الرياضية نفسها.
وقد كشفت اللجنة الأولمبية خلال بيان في 29 يناير/كانون الثاني 2025، أن قوات الاحتلال استهدفت ما لا يقل عن 287 منشأة رياضية في غزة والضفة الغربية خلال العدوان.
وشملت مقرات رسمية وملاعب وصالات رياضية، وكان من بين هذه المنشآت المدمرة، مقر اللجنة الأولمبية الفلسطينية ذاته.
إضافة إلى مقر الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم في القطاع، إلى جانب العشرات من الأندية الرياضية والصالات والملاعب المدرسية.
وفي واحدة من العمليات الموثقة، أعلنت بلدية غزة في 7 يناير 2024 أن ملعب اليرموك، أحد أبرز المرافق الرياضية في المدينة، تعرض لعملية قصف وتدمير وتجريف متعمدة على يد قوات الاحتلال خلال اجتياح بري للمنطقة.
وأوضحت البلدية أن القوات الإسرائيلية حولت الملعب إلى مركز اعتقال ميداني لاحتجاز المدنيين الذين احتموا داخله، بعد أن قصفت منازلهم ولجأوا إليه ظنًا أنه مكان آمن.
وأكدت أن آليات الاحتلال دمرت مدرجات الملعب بالكامل، وقصفت مخازنه التي كانت تحتوي على معدات رياضية، وجرفت مضمار الجري، وأحرقت شبكات الإنارة والأرضية الرياضية.
وذلك في مشهد يظهر نية مُبَيّتة لطمس أي مظهر من مظاهر النشاط المدني والحضاري في القطاع.
وقد طالبت البلدية في بيانها المجتمع الدولي والهيئات الرياضية الإقليمية والدولية بسرعة التدخل، لإدانة هذا الاستهداف الممنهج للملاعب الرياضية، والمساعدة في إعادة إعمار ما دمر من بنية تحتية رياضية، لضمان استمرار النشاط الرياضي الفلسطيني الذي بات يواجه خطر التصفية الكاملة.
ليسوا أرقاما
ويرى الناشط الفلسطيني، جمال الحساسنة أن استهداف الرياضيين الفلسطينيين ليس عشوائيا، بل يأتي في إطار سياسة إسرائيلية منهجية تسعى إلى تفريغ المجتمع الفلسطيني من رموزه الحية ومصادر قوته الناعمة.
وأوضح الحساسنة لـ “الاستقلال” أن "الرياضي الفلسطيني ليس مجرد لاعب، إنه حامل لعلم فلسطين في محافل لا تصلها الدبابات، كل مرة يعلو فيها النشيد الوطني على منصة دولية، يشعر الاحتلال أن هويته المصطنعة تهتز".
وتابع: "لهذا، فإن تصفية الرياضيين ليست نتيجة قصف عشوائي، بل جزء من مشروع متكامل لتدمير كل ما يبقي فلسطين حية: التعليم، الإعلام، الثقافة، والرياضة".
وانتقد الحساسنة ما وصفه بـ"الصمت الفاضح" من قبل المؤسسات الرياضية الدولية، وعلى رأسها اللجنة الأولمبية الدولية و"فيفا".
وقال: "نحن أمام جريمة موثقة بالصوت والصورة، لكنها لا تكفي لتحريك ضمير تلك الهيئات".
وذكر أن "هذا الصمت لم يعد مجرد تجاهل، بل تواطؤ مكشوف يعكس ازدواجية المعايير وغياب الحد الأدنى من العدالة".
واستشهد ببيان اللجنة الأولمبية الفلسطينية الذي وصف الشهداء الرياضيين بعبارات مؤلمة: "هؤلاء ليسوا أرقاما، كل شهيد منهم كان قصة طموح، ومسيرة حلم، كانوا يستعدون لركض آخر نحو الأمل، لكن القذائف سبقتهم".