أزمة سياسية جديدة في فرنسا.. هل يعصف "قانون الهجرة" بحكومة ماكرون؟
يبدو أن اعتماد البرلمان الفرنسي بصورة نهائية مشروع قانون مثير للجدل بشأن الهجرة، سيؤدي إما إلى انقسامات داخل حكومة يمين الوسط بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون أو إلى أزمة سياسية جديدة بسبب الرفض الكبير لمضامينه.
وصادق البرلمان الفرنسي في 19 ديسمبر/كانون الأول 2023، على مشروع قانون بشأن الهجرة بعدما أيده في مجلس النواب 349 نائبا وعارضه 186 نائبا بعيد إقراره في مجلس الشيوخ.
بنود عنصرية
وبموجب هذا القانون يُحرم أبناء المهاجرين الذين ولدوا وترعرعوا في فرنسا من الحصول على الجنسية بطريقة تلقائية، وهو ما يعرف بالحقّ في الأرض، ويفرض عليهم طلبها عند بلوغ سن الرشد.
كما يفرض على الطلبة الأجانب كفالة مالية ستحدّد قيمتها لاحقا، علاوة على رسوم التسجيل التي رفعت عام 2019، حيث يؤدي الطالب الأجنبي في التعليم الأكاديمي حوالي 3000 يورو مقابل حوالي مائتي يورو للفرنسي.
ويجرم القانون الجديد الإقامة غير القانونية، ما يجعل كل أجنبي انتهت مدة صلاحية بطاقة إقامته معرّضا للسجن، كما يشدد إجراءات وشروط التجمع العائلي الذي يسمح للفرنسيين أو للمقيمين الأجانب باستقدام أزواجهم أو بنيهم.
ويسمح القانون بطرد حاملي الجنسية المزدوجة، وتجريدهم من جنسيتهم الفرنسية، حال ارتكابهم أية جريمة.
بل أكثر من ذلك يعد القانون الاعتداء على أي موظف للدولة "جريمة"، ما سيفتح باب السلطوية والعنصرية لدى رجال السلطة ليس فقط تجاه الأجانب، بل تجاه كل من يوحي شكله أو سحنته أو لكنته أنه ذو أصول أجنبية.
كما يفرض القانون "احترام مبادئ الجمهورية" للحصول على بطاقة الإقامة، ما سيجعل مسلمين عديدين عرضة لعدم الحصول عليها، إذ غالبا ما يتطرّق الاستجواب إلى مواضيع حسّاسة تتعارض مع المبادئ الإسلامية.
وفي تعليقه على مضامين قانون الهجرة، قال الخبير في الشأن الفرنسي، الباحث في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، عمر المرابط، إنه "قانون يحمل في طياته أفكارا عنصرية وبنودا مقيتة، اضطرت وزير الصحة للاستقالة، وإعلان 32 محافظة فرنسية على عزمها عدم احترامه، وإدانة من رؤساء كبريات المدارس العليا ورؤساء الجامعات".
وأضاف المرابط، في حديث لـ"الاستقلال"، أنه "قانون يتبنّى، من دون حرج، بعضا من برامج اليمين المتطرف، مثل حق الأفضلية للفرنسيين مقابل الأجانب، وحرمان هؤلاء من حقوق عديدة، والنظر إلى أبنائهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية".
وتابع أنه "قانون لا يعتمد كل مقترحات العنصريين، لكنه، في المقابل، يأخذ بلُبّها ويفتح باب السلطة على مصراعيه لكل السياسيين المتشددين في أوساط اليمين، التقليدي والمتطرّف، إذ يجعل من التهجّم على المهاجرين والمسلمين سُلّما للصعود، ويعد هذا أمرا عاديا وطبيعيا".
وبذلك فهو "يقوم بعملية التطبيع مع الأفكار والممارسات العنصرية، وهذا هو الأخطر"، وفق المرابط.
بدوره، يرى الباحث في الهجرة وعضو المرصد الأوروبي المغربي للهجرة، رشيد المدني، أن اعتماد قانون الهجرة "سقوط أخلاقي وقيمي للدولة الفرنسية التي ترفع شعارات الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان".
وأضاف المدني، لـ"الاستقلال"، أنه باعتماد هذا القانون تكون فرنسا قد سقطت في "سياسة هجرة انتقائية تفضل هجرة الكفاءات الجاهزة، وتغلق الباب أمام باقي فئات الهجرة".
ورأى أن هذا القانون "ستكون له تداعيات خطيرة على المهاجرين في العديد من الجوانب"، منبها إلى إمكانية تأثير هذا القانون على "علاقات فرنسا مع الدول المصدرة للمهاجرين".
وأوضح المدني أنه "في غضون شهر سيكون هذا القانون تحت الرقابة الدستورية"، متوقعا بأن "القضاء الدستوري لن يرتهن لحسابات السياسة، ويمكنه إعادة بعض التوازن لهذا القانون".
ومباشرة بعد اعتماد هذا القانون، ظهرت انقسامات واضحة في حكومة ماكرون، إذ قدم وزير الصحة، أوريليان روسو، استقالته على الفور احتجاجا على القانون، ولم يتضح ما إذا كان وزراء آخرون سيتقدمون باستقالاتهم أيضا.
وفي 20 ديسمبر 2023، أعلن المتحدث باسم الحكومة أوليفييه فيران، أن وزير الصحة قدم استقالته وتم استبداله "مؤقتا" بالوزيرة المنتدبة الحالية المكلفة بالمهن الصحية أنييس فيرمان لو بودو.
ونفى المتحدث باسم الحكومة في إيجاز صحفي بعد اجتماع للحكومة وجود "حركة تمرد وزارية" في رد على ما تناقلته وسائل إعلامية بخصوص تهديد خمسة وزراء آخرين -إضافة لوزير الصحة المستقيل- بتقديم استقالتهم.
كما أنه خلال جلسة التصويت، صوت العشرات من النواب من كتلة الرئيس ماكرون ضد القانون.
"نصر مقزز"
وبعد اعتماد مشروع قانون الهجرة، دافع الرئيس الفرنسي عن هذا القانون، ووصفه بأنه قانون "شجاع" و"درع" ضد الهجرة غير النظامية.
ورأى ماكرون في 20 ديسمبر، خلال لقاء مع قناة "فرانس 5" امتدّ لأكثر من ساعتين، أن الخلافات داخل الأغلبية الحكومية "أمر مشروع"، في محاولة لتبرير استقالة وزير الصحة وتصويت عشرات النواب من كتلة ماكرون ضد القانون.
ونفى ماكرون، أن يكون القانون الذي تمّ تشديد بنوده بشكل كبير مقارنة بالمسودة الأولية، مستوحى من أفكار اليمين المتطرف، خصوصا فيما يتعلق بالقيود المفروضة للحصول على الخدمات الاجتماعية بالنسبة لبعض الأجانب.
مع ذلك، يرى كثيرون في النص تكريسا لأفكار معينة تتوافق مع اليمين المتطرف وفي مقدمته "التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبان التي عدت تبني القانون "انتصارا أيديولوجيا" لحزبها.
وفي 21 ديسمبر 2021، نقل موقع "مونت كارلو الدولي" عن مارين لوبان، قولها بأن "الإجراءات التي تضمنها القانون ليست كافية، وأن القانون لن يغير الكثير في ملف الهجرة".
غير أن العديد من مواد القانون، تضيف لوبان، تقر ضمنا مبدأ "الأولوية الوطنية"، أي أولوية المواطن على الأجانب المقيميين في فرنسا، وهو المبدأ الذي دافع عنه منذ البداية، والدها جان ماري لوبان عندما كان على رأس الحزب منذ أن كان اسمه "الجبهة الوطنية".
ورحب رئيس حزب "الجمهوريين" (يمين)، إريك سيوتي، في منشور على منصة "إكس" بقرار اعتماد مشروع قانون الهجرة.
ووصف سيوتي، مصادقة البرلمان بأنه "انتصار تاريخي لليمين" و"قانون جمهوري لمكافحة الهجرة الجماعية".
ومقابل ترحيب معسكر ماكرون واليمين الفرنسي بإقرار مشروع قانون الهجرة، ندد زعيم حزب فرنسا الأبية (يسار متطرف)، جان-لوك ميلانشون، بنص مشروع القانون.
Écœurante victoire. 349 pour la loi. Sans les 88 voix du RN = 261 soit moins que la majorité absolue ! Après la marche commune du 12 novembre voici la loi votée et écrite en commun. Un nouvel axe politique s'est mis en place. pic.twitter.com/oxoqBUBqR2
— Jean-Luc Mélenchon (@JLMelenchon) December 19, 2023
وعدّ ميلانشون، في منشور على منصة "إكس"، في 19 ديسمبر، إقرار القانون "نصرا مقززا" تحقق بفضل أصوات اليمين المتطرف.
من جهته، أعلن الحزب الاشتراكي، فور إقرار مشروع القانون، عزمه الطعن ضد نص القانون أمام المجلس الدستوري.
كما وقع العشرات من الممثلين والنقابيين والسياسيين الفرنسيين، نداء أطلقته صحيفة "ليمانيتي" المحلية ضد إقرار قانون الهجرة المثير للجدل.
وطالب الموقعون من ماكرون التخلي عن النص الذي تم التصويت عليه في البرلمان بفضل أصوات اليمين المحافظ والمتشدد.
ومن بين الموقعين على هذا النداء تحت عنوان: "السيد الرئيس.. لا تسن قانون الهجرة"، الذين تجاوز عددهم 150 شخصا، لاعب كرة القدم والممثل السابق إيريك كانتونا، والمخرجة الحائزة على جائزة سيزار، أليس ديوب، والحائزة على جائزة نوبل في الأدب، آني إرنو، بالإضافة إلى الممثلين جان بيير داروسان ولوور.
ووقّع على النداء أيضا الفيلسوف إتيان باليبار، والمؤرخ بيير روزانفالون، والعديد من المسؤولين المنتخبين اليساريين، في مقدمتهم عمدة باريس آن هيدالغو (الحزب الاشتراكي) وعمدة مدينة غرونوبل إريك بيول، والسيناتور يانيك جادو (حزب الخضر- أنصار البيئة) والنائب البرلماني فابيان روسيل (الحزب الشيوعي) وميلانشون، زعيم حزب “فرنسا الأبية".
وجاء في النداء أن مشروع قانون الحكومة للهجرة "تم اعتماده بدعم اليمين المتطرف، ومن دون مناقشة حقيقية في البرلمان، وأدى إلى انقسام المعسكر الرئاسي".
وأضاف أن هذا القانون "كسر أسس الجمهورية الفرنسية، من خلال غرس سمّ التفضيل الوطني المعادي للأجانب، ومن خلال التشكيك في حقوق الأرض (حق الحصول على الجنسية بالولادة)، وهو بذلك ينتهك مبادئ المساواة وعدم التمييز، التي تعد أساس ديمقراطيتنا".
وارتفعت حدة التمرد ضد قانون الهجرة، حيث قالت المناطق الـ32 التي يقودها اليسار، إنها "لن تطبق" بعض الإجراءات التي نص عليها القانون.
كما أدان أكثر من 60 من رؤساء الجامعات في جميع أنحاء البلاد الإجراءات الواردة في مشروع القانون.
تعديل حكومي
وأمام تصاعد الرفض السياسي والنقابي والأكاديمي والشعبي لاعتماد هذا القانون، تتجدد المخاوف بحدوث أزمة سياسية جديدة قد تعصف بالحكومة الفرنسية الحالية خاصة بعد استقالة وزير الصحة وتهديد وزراء آخرين بسلوك نفس الطريق.
الخبير في الشأن الفرنسي، عمر المرابط، أوضح أنه "إضافة إلى استقالة وزير الصحة هناك حديث عن استقالة وزيرة التعليم العالي لكن استقالتها تم رفضها".
ولفت المرابط، لـ"الاستقلال"، إلى أنه من المنتظر أن يعلن ماكرون خلال يناير/كانون الثاني 2024 عن عدة تغييرات ويطلب من الفرنسيين انتظار ذلك.
وتابع: "يُعتقد أنه سيكون هناك تغيير حكومي لأن يسار حزب الرئيس (النهضة) يرفض هذا المنحى اليميني واليميني المتطرف".
ورأى المرابط أن "التغيير الحكومي المنتظر قد تصاحبه بعض التعديلات الدستورية من قبيل إدخال (الحق في الموت) وبعض المقتضيات المتعلقة بالمرأة".
وأشار إلى أن الرئيس ماكرون "يمكن أن يستغل ذلك لتغيير بعض الأشياء".
من جهته، رأى الباحث في الهجرة وعضو المرصد الأوروبي المغربي للهجرة، رشيد المدني، أن الأزمة الحالية جراء اعتماد قانون الهجرة المثير للجدل هي "أزمة مصطنعة".
وأضاف المدني، لـ"الاستقلال"، أن هذه الأزمة الحكومية متحكم فيها،لأنها نتيجة لطريقة تدبير سياسي للرئيس الفرنسي".
ورأى أن استقالة الوزراء هي "تكتيك سياسي" في انتظار الرقابة الدستورية على القانون.
وبخصوص إمكانية إجراء تعديل حكومي، رأى المدني، أن "ذلك ممكن"، مستدركا: "لكنه لن يكون فقط جزئيا بل سيكون شاملا سيشمل أيضا رئيس الحكومة".
وخلص إلى أنه "رغم كون الزمن هو الكفيل لتوضيح اتجاه تداعيات هذا القانون، فإن اعتماده بصيغته الحالية يحمل بذور انهيار أخلاقي وقيمي لفرنسا وأوروبا بصفة عامة".