تعزيز الروابط مع واشنطن أو تكثيف العلاقات مع بكين.. إندونيسيا إلى أين؟

منذ شهرين

12

طباعة

مشاركة

مع عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تسود توقعات بدخول المشهد الجيوسياسي العالمي مرحلة من التوترات المتجددة لن تستثني منطقة جنوب شرق آسيا، حيث تلعب إندونيسيا دورا مركزيا.

ويرى "مركز الدراسات الجيوسياسية" الإيطالي أن "هذه الدولة التي تشكل أكبر ديمقراطية في المنطقة وقوة اقتصادية صاعدة، تواجه الآن تحديا معقدا وحاسما لمستقبلها".

يتعلق الأمر بحسب تحليله، بخيار تموضع الرئيس المنتخب برابوو سوبيانتو والإستراتيجية التي سيعتمدها للحفاظ على الاستقلال الإستراتيجي للبلاد بين نفوذ أميركي بقيادة ترامب من جهة والصين من جهة ثانية.

وأشار المركز الإيطالي إلى أن الرئيس الحالي مصمم على تعزيز دور إندونيسيا كقوة ناشئة في المنطقة ولعب دور فاعل رئيس في السياق الدولي.

حياد صعب

ستشمل أولويات الرئيس المنتخب الأمن القومي، والخلافات في بحر الصين الجنوبي، إلى جانب التوتر المتزايد بين الصين وتايوان. 

كما تهدف إستراتيجيته إلى الدفاع عن المصالح الإندونيسية في بحر ناتونا، وهي منطقة غنية بالموارد وحيوية لسيادة البلاد، والحفاظ على إمكانية تحسين وضع إندونيسيا السياسي على المستوى الدولي.

إلا أن مركز الدراسات يلفت إلى أن الاعتماد الاقتصادي على الصين، الشريك التجاري الرئيس لإندونيسيا، يفرض قيودا مهمة سيكون من الصعب على برابوو سوبيانتو تجاهلها.

ويرجح أن تؤدي سياسات ترامب إلى التقليل من هامش الحياد الذي يتمتع به الرئيس الإندونيسي، ما قد يحد من فلسفته في السياسة الخارجية القائمة على مبدأ "حرة ونشطة"، وبالتالي ضرورة الاختيار بين تعزيز الروابط مع واشنطن أو تكثيف العلاقات مع بكين.

وأشار إلى أن إندونيسيا حافظت منذ الاستقلال على سياسة عدم الانحياز وتمكنت من الحفاظ على توازن العلاقات مع القوى العالمية الكبرى بمهارة. 

هذا النهج المُعزز خاصة تحت رئاسة سوسيلو بامبانغ يودويونو (2004- 2014) وسياسة المليون صديق وصفر أعداء، أدى إلى ضمان الاستقرار الإقليمي الإستراتيجي وسمح لإندونيسيا بالاستفادة من العلاقات التجارية مع الصين. 

فيما أسهم التزام جاكرتا بسياسة الصين الواحدة والمشاريع التي تمولها مبادرة الحزام والطريق إلى تعزيز العلاقات مع بكين. 

إلا أن الحفاظ على هذا الحياد سيكون معقدا، لا سيما أن الولايات المتحدة قد تكثف مع وجود ترامب في السلطة من الضغط على دول جنوب شرق آسيا للانحياز إلى إستراتيجيتها في احتواء الصين والتي لا تتطلب تعاونا اقتصاديا أكبر فحسب، بل أيضا دعما عسكريا.

ويُعَد بحر الصين الجنوبي مثالا جليا لصعوبة الحفاظ على موقف محايد في سياق تعمل فيه الصين على توسيع نفوذها العسكري. 

وقد عززت سيطرتها على بعض الجزر المتنازع عليها، خاصة في المناطق القريبة من الفلبين، وزادت عملياتها لتعزيز موقعها بهذه المنطقة الإستراتيجية.

ويرى المركز الإيطالي أن إندونيسيا، التي تطالب بمنطقة اقتصادية خالصة في بحر ناتونا، معرضة بشكل خاص للتوغلات الصينية.

لذلك يكمن التحدي لرئيسها الحالي في إيجاد توازن بين الأمن القومي والحفاظ على المزايا الاقتصادية المرتبطة بالشراكة مع بكين.

مفترق طرق

التوقعات بشأن وضع البلاد بعد عودة ترامب تضعها على مفترق طرق، إما الامتثال لطلبات واشنطن مع المخاطرة بتقويض العلاقات مع بكين، أو محاولة الحفاظ على الحياد الذي يزداد صعوبة، وفق تعبير مركز الدراسات الإيطالي.

وأردف بأن التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة من شأنه أن يشكل تحديات كبيرة لبرابوو سوبيانتو، خاصة أن اتخاذ مسافات فورية من الصين، الشريك الاقتصادي الرئيس للبلاد، غير مرجح.

من جانبها، أعربت واشنطن عن اهتمامها بالتعاون مع إندونيسيا كشريك إستراتيجي في إنتاج أشباه الموصلات، وهو ما قد يكون مرحبا به في جاكرتا ويمهد الطريق لاستثمارات أميركية جديدة في البلاد.

وبحسب مركز الدراسات الإيطالي، يمثل اعتماد إندونيسيا الاقتصادي على الصين مصدر قوة لكنه يشكل أيضاً نقطة ضعف محتملة. 

ويشرح أن مبادرة الحزام والطريق أثمرت عن استثمارات هائلة في البنية التحتية، لكنها قيدت أيضا جاكرتا ببكين ضمن علاقة تتجاوز مجرد الاتفاقيات التجارية البسيطة.

لذلك، يتوقع أن تكون التكلفة الاقتصادية مرتفعة إذا قررت إندونيسيا التوافق مع الولايات المتحدة.

وافترض إمكانية أن تراجع بكين دعمها لمشاريع البنية التحتية في جاكرتا وهو ما سيكون له تداعيات كبيرة على اقتصاد البلاد. 

علاوة على ذلك، تشكل قضية تايوان نقطة احتكاك أخرى، خاصة أن إندونيسيا كثفت في الآونة الأخيرة اتصالاتها الدبلوماسية مع تايوان وهي خطوة قد تؤدي لتعقيد التوترات بين واشنطن وبكين.

وفي هذا السياق، تحدث المركز عن احتمال أن تفرض واشنطن ضغطا على جاكرتا لتبني نهج إيجابي أكثر تجاه استقرار مضيق تايوان. 

وداخليا، رجح أن يؤدي التقارب العسكري مع واشنطن إلى توترات داخلية نظرا لانعدام الثقة التاريخية لدى الرأي العام الإندونيسي تجاه التدخل الأجنبي في الشؤون الإقليمية.

عضوية البريكس

ذكر المركز أن الرئيس الحالي كان قد أشار إلى انفتاح محتمل نحو تحالفات جديدة، لذلك ينتظر أن تُعزز عضوية مجموعة البريكس استقلال إندونيسيا عن الولايات المتحدة وتوفر بديلا اقتصاديا ودبلوماسيا. 

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024، أعلنت الخارجية الإندونيسية في بيان حول نتائج حضور الوزير سوغيون قمة مجموعة "بريكس" في مدينة قازان الروسية نية جاكارتا الانضمام إلى المجموعة.

وجاء في البيان: لا يعني الانضمام إلى "بريكس" أن إندونيسيا تختار طرفا دون غيره، بل تعزز مواقعها جسرا بين الدول المتطورة والنامية وترسخ تمسكها بالأمن الغذائي واستقرار الطاقة والحد من الفقر في الجنوب العالمي.

ويستدرك المركز أن الانضمام إلى هذه المجموعة، التي تضم منافسين إستراتيجيين للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا، قد يزيد من تعقيد العلاقات مع واشنطن.

وقال إن الرئيس سوبيانتو يدرك أن خيارات السياسة الخارجية، في سياق دولي متزايد الاستقطاب، ستخلف عواقب مباشرة على الاستقرار الداخلي. 

خصوصا أن شرعيته السياسية تعتمد إلى حد كبير على الاستقرار الاقتصادي والتصور بأن إندونيسيا قادرة على تحقيق النمو دون تدخل خارجي. 

وحذر من أن الاصطفاف الصريح مع إحدى القوتين من شأنه أن يقوض هذا التوازن ويولد معارضة داخلية، خاصة إذا استشعر السكان ضعفا في موقف جاكرتا.

ومع عودة ترامب والضغوط الأميركية المستقبلية على المنطقة، يتوقع أن يضطر سوبيانتو إلى اتخاذ قرارات صعبة وغير شعبية ستكون بمثابة اختبار للتماسك الاجتماعي في البلاد، فيما ستكون تحركاته المقبلة حاسمة لتحديد دور إندونيسيا في السيناريو الجيوسياسي الجديد.

وجزم أن السياسة الخارجية التي سيتبناها لن تؤثر على بلده فحسب، بل ستكون لها تداعيات على منطقة المحيطين الهندي والهادئ برمتها. 

وفي عالم متزايد الاستقطاب، أكد أن الحفاظ على الاستقلال الإستراتيجي سيشكل تحديا كبيرا، لاسيما أن الضغوط الخارجية تصعب أكثر من عزم البلاد المضي قدما في سياسة التوازن. 

وفي الختام، أكد المركز أن قدرة سوبيانتو على إدارة التحديات المزدوجة المتمثلة في ضمان الاستقرار الداخلي والارتقاء بإندونيسيا إلى موقع قوة إقليمية بنجاح، ستجعل منه زعيما محوريا في منطقة تنظر الآن  بقلق أكثر من أي وقت مضى إلى نسق تطور التوترات العالمية.