أزمة مصرف ليبيا المركزي.. كيف تؤجج الصراع وتنذر بعودة الحرب؟
قرر المجلس الرئاسي وحكومة طرابلس في 17 أغسطس تغيير الصديق الكبير
تفجرت أزمة سياسية جديدة في ليبيا بعد استقبال القاهرة، أسامة حمّاد رئيس الوزراء الليبي غير المعترف به، الذي عينه برلمان طبرق الواقع تحت سيطرة اللواء المتمرد خليفة حفتر.
وترتب على ذلك تجدد قضية تبادل عدم الاعتراف من جانب مكونات الدولة الليبية الأساسية (البرلمان وحكومة طرابلس والمجلس الرئاسي) ببعضهم بعضا، ما فجّر أزمة أعنف هي السيطرة على مصرف ليبيا المركزي.
حكومة طرابلس قررت التخلص من محافظ المصرف المركزي الليبي "الصديق الكبير" الموالي ضمنا لحفتر وصرف لحكومة شرق ليبيا غير الشرعية ملايين الدولارات، وعينت الاقتصادي محمد الشكري بديلا له مع مجلس إدارة جديد.
تزّعم الإطاحة به، رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، ودعمه رئيس حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس عبد الحميد الدبيبة.
رد مجلس نواب طبرق بالتهديد بإغلاق تدفق النفط الذي تسيطر على حقوله قوات حفتر، وأكد اللواء الانقلابي على ذلك.
وأغلقت حكومة شرق ليبيا حقول النفط بالفعل، ما يعني تحول الصراع السياسي لأزمة اقتصادية، ومخاوف من تجدد الحرب بين شرق ليبيا وغربها.
صراع المصرف
وأزمة "تغيير" قيادة المصرف المركزي، ليست سوى انعكاس للأزمة السياسية والأمنية التي تعصف بليبيا، في ظل وجود حكومتين بالشرق والغرب (طرابلس) وخمسة مكونات سياسية متنافسة في الدولة وغياب دستور موحد.
حالة "الانسداد السياسي" و"الصراع حول المناصب" كانت السبب وراء كل الإشكالات الأمنية والتنافس حول السيطرة على مؤسسات البلاد، وآخرها المصرف المركزي، كما يؤكد سياسيون ومحللون ليبيون.
أهمية المصرف أنه يجمع عائدات بيع نفط ليبيا من دول العالم ويوزعها على جبهتي الصراع في الشرق والغرب، لذا يرى كل فريق أن من مصلحته أن تكون قيادته قريبة منه.
كما أنه الجهة الوحيدة المعترف بها دوليا فيما يتعلق بإيداع إيرادات النفط، وهي دخل اقتصادي حيوي للبلد المنقسم منذ سنوات، بين حكومتين متناحرتين في طرابلس وبنغازي، وتوقف عمله يعرقل كل دواليب العمل في ليبيا.
وبسبب صراعات وخلافات حول قيادة المصرف الحالية لاتهام “الصديق الكبير” بالفساد، وتقاربه من الانقلابي خليفة حفتر، قرر المجلس الرئاسي وحكومة طرابلس في 17 أغسطس 2024 تغييره، لكن برلمان شرق ليبيا رفض.
المجلس الرئاسي استند لقرار سابق من مجلس النواب "المحسوب على حفتر" صدر عام 2018 يقضي بتشكيل مجلس إدارة جديد للمصرف المركزي، واتخذ قرارا بإقالة محافظ المصرف "الصديق الكبير"، وتعيين محمد الشكري بديلاً له.
ويتولى المحافظ الحالي لمصرف ليبيا "الصديق الكبير" منصبه منذ عام 2012، لكنه واجه انتقادات متكررة بشأن كيفية إدارته للموارد النفطية الليبية وموازنة الدولة، من "الدبيبة" والمجلس الرئاسي.
دخل برلمان شرق ليبيا في صراع مع منافسيه في الغرب، المجلس الرئاسي، وحكومة طرابلس مستغلا الخلاف حول تغيير قيادة البنك المركزي.
صوت البرلمان، في 13 أغسطس على قرار بإنهاء ولاية حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها الدبيبة، وعدّ حكومة أسامة حماد "الشرعية"، مع أن البرلمان نفسه ولايته منتهية.
كما صوت على سحب صفة القائد الأعلى للجيش من المجلس الرئاسي، وإعطاء الصفة لرئيس البرلمان عقيلة صالح الموالي لحفتر.
أعقب هذا انفتاح الصراع بين مكونات الدولة الليبية الخمسة (البرلمان وحكومة شرق ليبيا) من جهة، و(المجلس الرئاسي وحكومة طرابلس والمجلس الأعلى للدولة) من جهة ثانية، حول قرار تغيير رئاسة مصرف ليبيا المركزي.
"الكبير" رفض القرار وتمسك بمنصبه، ودعمه برلمان طبرق، ولاح في الأفق شبه اشتباك عسكري بين قوات "مليشياوية" داعمة للكبير وأخرى داعمة لحكومة الغرب برئاسة الدبيبة الذي يتمسك برحيل محافظ المصرف من منصبه.
وأعلن الصديق الكبير، ونائبه، رفضهما تغيير قيادة البنك، مقدرين أن المجلس الرئاسي لا يملك صلاحية عزلهما، وأعلنا استمرارهما في مناصبهما.
أسندت حكومة طرابلس مهمة تغيير قيادة البنك بالقوة لوزارة الداخلية فتوجهت قوات أمنية وعسكرية واستولت على مقره.
وسلم جهاز الردع (تابع للمجلس الرئاسي) تأمين وحراسة مصرف ليبيا المركزي إلى وزارة الداخلية ومدير أمن طرابلس ومدير الدعم المركزي.
بدأت اللجنة المكلفة من المجلس الرئاسي، بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية لتسلم المصرف وتقرر أن تباشر الإدارة الجديدة عملها ابتداءً من 24 أغسطس 2024.
أرسل المجلس الرئاسي وفداً من المسؤولين، إلى البنك يوم 20 أغسطس 2024 لإبلاغ "الكبير" بالتنحي، لكن رد ببيان بأنه ليس مسؤولاً أمام حكومة طرابلس ولا المجلس الرئاسي، بل أمام البرلمان في شرق ليبيا، وأشيع أنه وافق وغادر.
لكن الكبير نفى قبول مجلس الإدارة بقرارات المجلس الرئاسي، كما نفى تسليم وتسلم إدارة المصرف للقيادة الجديدة، وأكد تمسكه برفض تغيير قيادة المصرف بادعاء أنها "صادرة من غير ذي صفة وباطلة ومخالفة للقانون".
زاد الأزمة تعقيدا، رفض محمد الشكري تولي منصبه الذي عينه فيه المجلس الرئاسي بدون اتفاق بين المجلس الرئاسي وبرلمان طبرق على ذلك.
اعتذر عن قبوله المنصب من أجل الحفاظ على المؤسسة النقدية من التشظي وتأثر سمعتها أمام المؤسسات النقدية المناظرة في العالم.
وبدوره انتقد المجلس الأعلى للدولة، “تعدي المجلس الرئاسي على اختصاصات البرلمان”.
وكان مستغربا تدخل أميركا في الأزمة، وانتقاد السفير الأميركي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، ما عده محاولات "غير مقبولة" لدفع محافظ المركزي للاستقالة، محذرا من أن استبداله "بالقوة يمكن أن يؤدي إلى استبعاد ليبيا من الأسواق المالية العالمية".
انتهى الأمر بنجاح اللجنة المكلفة من المجلس الرئاسي يوم 26 أغسطس في الوصول إلى مقر مصرف ليبيا المركزي، وتكليف نائب المحافظ بإدارة المصرف المركزي بشكل مؤقت، لحين تعيين آخر جديد بشكل قانوني وشفاف.
وكلف محمد المنفي، "عبد الفتاح غفار" نائب محافظ البنك بمهام الكبير بشكل مؤقت "في ظل تعذر التوصل إلى توافق مع محمد الشكري، ولضمان استمرار العمل في المصرف".
وجاء هذا التطور في ظل خلافات حول قيادة المصرف المركزي، حيث طلب محمد الشكري مهلة أسبوعًا للعودة إلى منصبه.
لكن برلمان وحكومة شرق ليبيا رفضا الاعتراف بقرارات المجلس الرئاسي وسيطرة قواته على المصرف المركزي بالقوة.
ورأى البرلمان في بيان يوم 20 أغسطس 2024 أن إقالة محافظ البنك الليبي "هي والعدم سواء".
وقرر رئيس حكومة الشرق أسامة حماد وقف العمل في حقول النفط وتجميد الإنتاج بحالة “القوة القاهرة”.
وشدد رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في تصريحات صحفية 27 أغسطس على أن منع تدفق النفط والغاز سيستمر لحين رجوع محافظ المصرف المُقال.
مؤامرات حفتر
وجهت اتهامات عديدة من أطراف ليبية مختلفة للمحافظ السابق "الصديق الكبير" بأنه تحالف مع حفتر وسهل وصول أموال له في مخالفة لقانون الإنفاق على جيشه أو تمويل مشروعات بشرق ليبيا.
لذا رفض حفتر، عبر برلمان طبرق، إقالة الكبير وأوقف إنتاج النفط الذي يعد عماد أموال المصرف المركزي، وبدأ تحركات عسكرية مشبوهة.
تقرير كتبه "ولفرام لاتشر"، وهو باحث في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية وترجمه موقع "منتدى العاصمة" 20 أغسطس، رصد كيف تذهب أموال من المصرف المركزي لشرق ليبيا، بدون إثباتها.
قال، تحت عنوان "صراعات ليبيا في خدمة العشيرة" إن “البنك المركزي في طرابلس لم يصرف رسميا أي أموال لحكومة حماد في الشرق، لكن تمويل المشاريع الكبيرة في المناطق الواقعة تحت سيطرة حفتر يظهر عكس ذلك”.
كما رصد التقرير كيف تعاني طرابلس من قلة التطوير، بينما تشهد مناطق سيطرة حفتر في المقابل مشاريع عديدة.
حتى إن رجال الأعمال الليبيين والدبلوماسيين الأجانب يعودون مذهولين من هناك ويصفون كيف تُبني الطرق والجسور والمباني العامة والسكنية بسرعة مذهلة.
أشار إلى أن "إعادة الإعمار الجارية حاليًّا في المناطق التي تسيطر عليها عائلة خليفة حفتر تعد غير مسبوقة حتى عند مقارنتها بمرحلة (رئيس النظام السابق معمر) القذافي".
وبالمقارنة، يسود الجمود في طرابلس، والنشاط الوحيد في مجال البناء هو طريق سريع تشيده مجموعة شركات مصرية، في محاولة من الدبيبة، لكسب ود حكومة مصر، فيما تعاني الشركات من تأخر مستحقاتها.
الباحث الألماني "لاتشر" قال إن "هذه حالة متناقضة، فعوائد النفط الليبي تُحول عبر المؤسسة الوطنية للنفط والبنك المركزي المتعاونين رسميًّا مع حكومة الدبيبة، بدلًا من حكومة أسامة حماد الموازية في بنغازي ومع هذا يذهب أغلب المال لحفتر.
قال إن "الإجابة عن هذا اللغز تقع في فهم صراعات القوى في طرابلس التي أعادت تشكيل التحالفات السياسية في ليبيا وساعدت عائلة حفتر في الحصول على أموال غير مسبوقة".
وأشار إلى أن "حفتر وأبناءه أثبتوا براعتهم في استغلال هذه الانقسامات، بين محافظ البنك المركزي، الصديق الكبير، والدبيبة.
وجاءت أزمة تغيير قيادة مصرف ليبيا والتوترات السياسية بالتزامن مع تحركات لقوات حفتر نحو جنوب غرب البلاد (حدود تونس والجزائر) الخاضع لحكومة طرابلس، مما زاد من القلق الدولي نحو احتمالية تجدد الحرب مرة أخرى بين الشرق والغرب.
زاد القلق من تجدد الحرب، إعلان هيئة الأركان العامة لقوات حكومة الوحدة الوطنية، المتمركزة في طرابلس (غرب)، أنها وضعت وحداتها "في حالة تأهب"، وأمرتها "بالاستعداد لصد أي هجوم محتمل".
مصادر ليبية أكدت لـ "الاستقلال" أن قوات حفتر تهدف من وراء تلك التحركات إلى السيطرة على مدينة غدامس الحدودية الخاضعة لسيطرة حكومة طرابلس، لأن بها مطارا دوليا ومنفذا بريا يربطها بالجزائر.
سيكون للسيطرة على غدامس "العديد من الفوائد" لمعسكر حفتر، ومنها "منع أي تحرك (لأنصار الدبيبة) نحو الجنوب، وعزله، وتجريد عماد الطرابلسي (وزير داخليته) من ميزة السيطرة على هذه المنطقة الحدودية".
وذلك وفق ما قال الباحث في "المعهد الملكي البريطاني للخدمات المتحدة" جلال حرشاوي عبر حسابه على إكس، لأن غدامس بها مطار السيطرة عليه "من شأنها أن تعزز بشكل كبير وضع حفتر".
وقالت صحيفة "لوموند" الفرنسية في 9 أغسطس 2024 إن تحركات قوات حفتر تسبب القلق من عودة الحرب بين الشرق والغرب، وتقلق الجزائر.
فيما أشارت صحيفة "لوبوان" الفرنسية 23 أغسطس إلى أن انزعاج الجزائر من تحركات حفتر يرجع إلى أنها تتم بالقرب من الحدود الشرقية الجزائرية حيث تقع منشآت الطاقة الإستراتيجية الجزائرية.
وفي عام 2019، خلال هجوم حفتر على طرابلس، فكرت الجزائر في التدخل بليبيا، وقال الرئيس عبد المجيد تبون حينئذ "طرابلس خط أحمر ولا نقبل أن يحتل المرتزقة عاصمة دولة شمال إفريقية وإفريقية".
ولاحقا، أكد "تبون" في حوار مع قناة الجزيرة عام 2021: "كنا سنتدخل"، قبل أن تتعرض قوات حفتر لهزيمة وتتراجع بفعل الدعم التركي ومسيرات "بيرقدار".
تداعيات الأزمة
ولأن الصراع حول إدارة البنك المركزي هو انعكاس للنزاع السياسي المستمر بين المكونات التي تحكم ليبيا، تلجأ كل مؤسسة إلى تأويلات مختلفة لنطاق سلطاتها، في محاولة لإضفاء المشروعية على مواقفها وإجراءاتها.
خطورة أزمة تغيير قيادة مصرف ليبيا المركزي أن رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح هدد بالقول "قد نضطر إلى إغلاق النفط ولن نسمح بذهاب عائداته إلى أياد غير أمينة"، وفق تصريحات لقناة "المسار"، خاصة أن مناطق النفط تسيطر عليها قوات حفتر.
وهو نفس ما هدد به خليفة حفتر حيث نقلت مصادر إعلامية مقربة منه نيته التوجه لإغلاق الحقول النفطية التي تسيطر عليها قواته، بحجة "السيطرة على المركزي والوصول إلى تقاسم عادل للموارد"، وفق قناة "التناصح" الليبية.
وقد ترجمت حكومة شرق ليبيا الموالية لبرلمان عقيلة صالح وخليفة حفتر، هذه التهديدات بقرار يوم 26 أغسطس يعلن "حالة القوة القاهرة" على جميع الحقول والمؤسسات النفطية، وإيقاف إنتاج وتصدير النفط.
وقد كشف نقيب قطاع النفط "سالم الرميح" لقناة "فبراير" الليبية 26 أغسطس 2024 أن الخسائر الناجمة عن استمرار إغلاق حقل الشرارة (من قبل قوات حفتر) تجاوزت 3 مليارات و500 مليون دينار ليبي (1 دولار = 4,76 دينار ليبي).
قال إن "المسؤول الأول عن أعمال الإغلاق هو خليفة حفتر وأبناؤه الذين يستخدمون النفط ورقة لتحقيق مكاسب سياسية".
خطورة ما يجري أيضا أنه يواكبه تحركات لقوات حفتر تجاه حدود الجزائر وتونس للسيطرة على مناطق توجد فيها قوات حكومة طرابلس.
وتوقعات وتهديدات بتدخل جيش الجزائر لصد قوات حفتر مع جيش طرابلس وتوترات عسكرية وسياسية تنذر بعودة ليبيا لمربع صفر في الحرب التي أعقبت ربيعها العربي والإطاحة بالقذافي بسبب تدخل أطراف إقليمية ودولية لها مصالح في البلاد.
ويقول تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" 21 أغسطس 2024 إن الصراع على السيطرة على البنك المركزي يهدد السلام الهش في ليبيا بعدما أدت الاضطرابات حول البنك الذي يتعامل مع ثروات البلاد النفطية، لتفاقم الوضع السياسي المتوتر والهش.
أوضحت الصحيفة أن صراع اللاعبين السياسيين في ليبيا حول السيطرة على زعامة البنك المركزي يرجع إلى أن "القناة التي تمر منها الثروة النفطية الهائلة، وبالتالي فهو جائزة رئيسة في الصراع الداخلي بين الفصائل السياسية".
أشارت إلى أن البنك المركزي هو إحدى المؤسسات القليلة التي نجحت في ربط الشرق بالغرب.
ورغم أن البنك يتخذ من طرابلس مقرا له، إلى جانب حكومة الدبيبة، فقد عملت كلتا الإدارتين مع "الكبير" للحفاظ على تدفق أموال النفط ودفع رواتب الموظفين الحكوميين.
وتنقل "نيويورك تايمز" عن محللين غربيين ترجيحهم "أن تعود القوات الليبية الشرقية والغربية قريبًا إلى الحرب الشاملة، لأن التركيبة السياسية الهشة التي منعت الصراع تتآكل".