"سيادة مجروحة".. لماذا يطالب لبنان بإعادة النظر في اتفاقياته مع سوريا؟

"بعض الاتفاقيات كانت أشبه بإعلان وحدة حال أكثر منها اتفاقية تعاون"
مع محاولة لبنان فتح صفحة جديدة مع الجارة سوريا عقب سقوط نظام بشار الأسد، طرحت بيروت إعادة النظر في الاتفاقيات المبرمة بين البلدين خلال العقود الماضية.
وما يزال لبنان ينظر إلى كثير من الاتفاقيات التي وقعت زمن حكم حافظ الأسد (1971-2000) لتكريس فترة الوصاية آنذاك، على أنها بحاجة إلى إلغاء أو تعديل بعد تسلم حكومة جديدة في دمشق.
مراجعة الاتفاقيات
وجديد ذلك، ما أفاد به وزير الخارجية اللبناني، يوسف رجي، بقوله في 4 أبريل/ نيسان 2025: إن بيروت تعمل على إعادة النظر في جميع الاتفاقات مع سوريا، بما في ذلك إلغاء المجلس الأعلى اللبناني-السوري، مؤكدا أن القرار اللبناني هو تعديل أو إلغاء هذه الاتفاقات.
وقال رجي في حديث لمجلة "الأمن العام" في عددها رقم 139: إن هذا المجلس يجب أن يُلغى. مشيرا إلى أن "كل ما هو لمصلحة لبنان سيبقى، وكل ما فيه إجحاف أو فرض بالقوة سنعيد النظر فيه".
وذكر أن “المحادثات الجادة والقانونية مع سوريا بشأن هذه الملفات لم تبدأ بعد؛ نظرا لحداثة الحكومة السورية وتشكيل الحكومة اللبنانية منذ شهرين فقط”.
ورأى رجي أن “المجلس الأعلى اللبناني-السوري لم يعد له حاجة في ظل العلاقات الجديدة بين الحكومتين، مع وجود سفارات ووزراء مختصين يتابعون جميع الملفات المشتركة بين البلدين”.
ومنذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، فتح لبنان صفحة جديدة مع سوريا، بدأها رئيس حكومة تصريف الأعمال السابق نجيب ميقاتي، بزيارة دمشق في 11 يناير/ كانون الثاني 2025 ولقاء الرئيس أحمد الشرع.
كما التقى الرئيس اللبناني جوزيف عون مع الشرع على هامش القمة العربية حول غزة بالعاصمة القاهرة في 5 مارس/ آذار 2025؛ حيث شددا على "ضرورة" ضبط الحدود بين البلدين.
بدوره، هاتف رئيس الوزراء اللبناني الجديد، نواف سلام، الرئيس السوري الشرع، لتهنئته بحلول عيد الفطر نهاية مارس 2025، وأبدى سلام استعداده لزيارة دمشق قريبا.
وتتهم لبنان الجارة سوريا منذ زمن حكم حافظ الأسد، ومن بعده ابنه بشار (2000-2024) بعدم اعترافها بسيادة واستقلال لبنان.
وهناك أكثر من 40 اتفاقية تعاون موقعة بين لبنان وسوريا، منذ زمن حكم حافظ الأسد الذي صاغ كل تلك الاتفاقيات "لمصالحه"، والتي ترى بيروت أنها باتت رهن الإلغاء أو التعديل مع سقوط نظام الأسد.
وآخر اتفاق جرى بين البلدين كان عام 2010 وهو اتفاق تعاون في مجال السياحة وحمل رقم (42) من مجموع الاتفاقيات المبرمة والتي شملت مناحي متنوعة من اتفاقية تخص انتقال الأشخاص ونقل البضائع، والمياه، والاتفاق القضائي، والخدمات الجوية والاستيراد، ومنع التهرب الضريبي وغيرها.
إلزامية ونافذة
ويرى مسؤولون لبنانيون أن إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا عقب سقوط الأسد يعد "انتصارا للشرعية الدستورية اللبنانية".
لهذا يسعى لبنان إلى إعادة النظر في الاتفاقيات المبرمة مع سوريا قبل سقوط الأسد، وفقا لما تنظمه اتفاقية فيينا لعام 1969 المتعلقة بالمعاهدات والاتفاقات الدولية.
ويعد حافظ الأسد هو صاحب فكرة "المجلس الأعلى اللبناني - السوري" الذي انبثق عام 1991 من المادة السادسة من معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين الجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية.
ويتألف المجلس من رئيسي جمهورية البلدين، ورئيسي حكومتي البلدين ونائبيهما، بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب اللبناني ورئيس مجلس الشعب السوري.
وحسب المهام الرسمية المنوطة به، يضع المجلس السياسة العامة للتنسيق والتعاون بين الدولتين في المجالات كافة (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية وغيرها)، ويشرف على تنفيذها.
وتُعد قرارات المجلس إلزامية ونافذة المفعول ضمن إطار النظم الدستورية لكل من البلدين.
إلا أنه منذ انسحاب قوات نظام الأسد المخلوع من لبنان في 5 مارس 2005، عقب احتجاجات شعبية لبنانية أعقبت اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، في 14 فبراير من العام ذاته في تفجير بالعاصمة بيروت، واتهامات نظام الأسد بأنه وراء اغتياله، أصبح وجود المجلس المذكور "شكليا".
وأيام وصاية نظام الأسد على لبنان، يعدها اللبنانيون من أكثر الحقب الزمنية "دموية وقتامة"، والتي ذاقوا فيها أبشع أنواع التنكيل والقتل والاغتيال والتي استمرت من عام 1976 وحتى 2005.
وتحت غطاء الجامعة العربية، دخل جيش النظام السوري إلى لبنان، في ديسمبر/كانون الأول 1976، بينما كانت نار الحرب الأهلية مستعرة منذ عام، والهدف السوري المعلن وقتها هو وضع حد للحرب، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبلها.
وآنذاك أخذ هذا المجلس دور التنسيق بين البلدين، لاغيا بذلك دور سفارتي البلدين في هذا الشأن، حيث تسلم المجلس حينها كل صلاحيات القنوات الدبلوماسية والتعامل بين دولتين مستقلتين.
"انتقاص من السيادة"
وضمن هذا السياق، رأى الكاتب اللبناني محمد شمس الدين في مقال له تحت عنوان "المجلس الأعلى اللبناني السوري.. عالة مالية وانتقاص من السيادة" نشره في 28 ديسمبر 2024، أن المجلس يشكل هدرا بنحو 600 ألف دولار سنويا على الدولة اللبنانية.
فيما يقول النائب اللبناني غسان مخيبر، لموقع "لبنان الكبير" إن عمه الراحل ألبير مخيبر كان النائب الوحيد الذي رفض عام 1991 التصويت للمصادقة على الاتفاقية التي أنشأت المجلس.
وقدم ألبير مذكرة إلى رئيس الجمهورية حينها ميشال سليمان يطالب فيها بإعادة النظر في الاتفاقية وإلغاء المجلس الأعلى للأسباب المذكورة نفسها، بتقدير أن الاتفاقية مخالفة للدستور.
وأشار غسان مخيبر إلى أن الاتفاقية جعلت المجلس الأعلى هيئة تقريرية في المواضيع المهمة والخطيرة، ما أدى إلى إقامة نظام يشبه الكونفدرالية بين لبنان وسوريا، تتحكم فيه الأخيرة عمليا.
واستطرد: “مثلا الفقرة (د) من المادة السادسة تنص على أن قرارات المجلس الأعلى إلزامية ونافذة ضمن النظم الدستورية للبلدين".
وتابع مخيبر: "كما كانت للمجلس تكوينات غريبة، مثل الجمع بين السلطات التنفيذية والتشريعية في هيكله، كما أن الاتفاقية كرَّست وضع اليد الأمنية والعسكرية للجيش السوري، في حين كان اللبنانيون يطالبون بانسحابه".
ومضى يقول: "عند توقيع هذه الاتفاقية بين الرئيسين إلياس الهراوي وحافظ الأسد، كانت أشبه بإعلان وحدة أكثر منها اتفاقية تعاون.. وفعليا لم يعمل هذا المجلس بصورة فاعلة؛ لأن السيطرة السورية كانت كاملة على لبنان".
وبحسب مخيبر، فإن العلاقات اللبنانية – السورية بعد سقوط الأسد، ينبغي على أسس جديدة، أن تحترم سيادة الدولتين، بعيدا عن تلك الاتفاقيات والمجلس الأعلى.
بدوره، يرى الباحث والكاتب السياسي اللبناني ميشال شماعي، أن العلاقات المستقبلية “تعتمد على شكل الدولة السورية المقبلة”.
وأضاف خلال تصريحات صحفية في 28 ديسمبر 2024 أن "أي دولة سورية مكتملة الأركان ستعيد صياغة العلاقات اللبنانية-السورية على أساس الندية، ما يعني أن الاتفاقات السابقة، بما فيها المجلس الأعلى، ستصبح بحكم الساقطة".
وذكّر شماعي بأن "المجلس الأعلى كان يكرّس وضع لبنان كدولة ملحقة بالنظام السوري، واستُغلّ في خدمة مصالح النظام على حساب سيادة لبنان".
ورأى أن تصريحات الشرع، "الداعية إلى بناء دولة مدنية وعلاقات ندية مع لبنان، تبدو مشجعة، إلا أن كل شيء يعتمد على شكل الدولة السورية الجديدة".

"اتفاقيات استسلام"
وفي خطوة تدل على سعي دمشق وبيروت لإغلاق ملف لا يزال شديد التعقيد على الصعيدين السياسي والأمني، هو توصل لبنان وسوريا في 28 مارس 2025 إلى اتفاق في جدة يؤكد على أهمية ترسيم الحدود بينهما والتنسيق لمواجهة التحديات الأمنية والعسكرية، وفق ما ذكرت وكالة الأنباء السعودية (واس).
واستضافت مدينة جدة اجتماعا بين وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة ونظيره اللبناني ميشال منسى، بحضور نظيريهما السعودي خالد بن سلمان.
وقالت الوكالة السعودية: إن الجانبين اتفقا على "الأهمية الإستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية ومتخصصة بينهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليات التنسيق للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية، خاصة فيما قد يطرأ على الحدود بينهما".
وتمتد الحدود بين لبنان وسوريا على 330 كيلومترا، وفيها العديد من المعابر غير الشرعية التي تستخدم غالبا لتهريب الأفراد والسلع والسلاح.
وتلك الحدود، التي لم تُرسم بشكل نهائي منذ استقلال البلدين عن الانتداب الفرنسي (1920-1946)، تشهد توترات متكررة تتأرجح بين الاشتباكات المسلحة والخلافات الدبلوماسية.
وإحدى أبرز المشاكل في ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان هي التداخل الجغرافي والديموغرافي، فهناك قرى وبلدات تقع على الحدود، بعضها يتبع لبنان إداريا لكن سكانها يحملون الجنسية السورية، والعكس صحيح.
ومن العقبات التي منعت ترسيم الحدود، وجود الجيش السوري في عهد الأسد داخل الأراضي اللبنانية خلال الفترة ما بين 1976 و2005.
وخلال تلك الفترة كان نظام الأسدين يتحكم في الكثير من مفاصل السياسات اللبنانية، بما في ذلك المواقف المتعلقة بالحدود.
أما بالنسبة للخلاف على الحدود البحرية الشمالية بين لبنان وسوريا فهي ما تزال قائمة.
وعام 2023، كرر نظام الأسد المخلوع عبر سفيره لدى الأمم المتحدة آنذاك، بشار الجعفري، رفضه للإحداثيات الموجودة بالمرسوم اللبناني المتعلق بترسيم الحدود البحرية مع سوريا وقبرص وإسرائيل، وعدها الجعفري وقتها غير ملزمة لدمشق.
ويرى وزير العدل اللبناني الأسبق، إبراهيم النجار، أن "إعادة النظر في الاتفاقيات المبرمة مع سوريا قبل سقوط الأسد أمر مهم؛ لأن كثيرا من الاتفاقيات كانت آنذاك ذريعة لكي يكون هناك أكثر من علاقة بين لبنان وسوريا ترعاها فقط الأصول الدبلوماسية".
وأضاف النجار في تصريحات تلفزيونية أن "الهيمنة السورية العسكرية على لبنان سابقا مع كثرة الاتفاقيات والتي تجاوزت 40 اتفاقية كان يعني ذلك وجود حالة رضوخ واستسلام لبنان إلى سوريا".
ورأى أنه "في ظل النظام الجديد الذي يقام في سوريا عقب سقوط الأسد فإنه من المجدي واحتراما لعلاقة الجوار أن يعاد النظر بما يتوجب به من تلك الاتفاقيات بين سوريا الحرة ولبنان المتحرر من الوصاية والانتدابات".