غطاء للاحتلال والتقسيم.. هذه أهداف إسرائيل من التوغلات البرية بسوريا

"إسرائيل تدخل عمق سوريا وتعتقل وتزج بالعشرات في السجون"
على الرغم من استمرار الحديث عن مباحثات للتهدئة، تواصل إسرائيل التصرف كقوة احتلال في جنوب سوريا، مرتكبة انتهاكات شبه يومية تشمل تنفيذ توغلات شبه يومية وتجريف الأراضي واعتقال المدنيين ومصادرة الممتلكات.
ومنذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، تحاول إسرائيل فرض واقع جديد على السوريين يصبح فيه شن الغارات الجوية والتوغلات البرية وتنفيذ اعتقالات أمرا عاديا بذرائع أمنية.

انتهاكات يومية
وكان آخر توغل لجيش الاحتلال الإسرائيلي، جرى صباح 6 أغسطس/آب 2025 على طريق بلدة جباتا الخشب في ريف القنيطرة جنوب غربي البلاد، دون أسباب.
وقبلها بأيام، تمركزت قوات الاحتلال في منزل مهجور على طريق حضر – طرنجة، واتخذته مقرا لها، في حين شوهدت تحرّكات عسكرية في محيط الموقع.
وترافق ذلك مع وصول نحو 40 عنصرا ومعدات وتجهيزات ميدانية، من بينها تركيب نوافذ وبعض الإنشاءات الأولية داخل المنزل.
ولفت تلفزيون سوريا وقتها إلى أن قوات الاحتلال نصبت خياما بجانب المنزل، وأبلغت الأهالي بمنع الاقتراب منه ومن المنطقة المحيطة به، معتبرةً إياها عسكرية مغلقة.
وهذا أحدث مثال على التوغلات الإسرائيلي في سوريا لكنه لم يكن الوحيد، فلم يتوقف جيش الاحتلال عن انتهاك الأراضي السورية منذ 8 ديسمبر. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ تشمل التوغلات تنفيذ عمليات اعتقال ومصادرة لممتلكات السوريين.
ففي الأول من أغسطس، اعتقل جنود الاحتلال ثلاثة مدنيين سوريين في القنيطرة، وصادروا جرارا زراعيا كانوا يستخدمونه لنقل بقايا أشجار أزالتها آلياتهم من المنطقة.
وسبق أن أطلق جيش الاحتلال النار على شابين من قرية صيصون بريف درعا الغربي، ما أدّى إلى إصابتهما بجروح متوسطة، قبل أن يعتقلهما وينقلهما إلى داخل الأراضي المحتلة.
كما اقتحمت قوات الاحتلال نهاية يوليو/تموز 2025 قرية كودنة، ونصبت حاجزاً مؤقتاً على الطريق الواصل بينها وبين قرية عين زيوان.
فيما اقتحمت قوات محمولة على ثلاث مجنزرات، منزل المواطن محمد الجمعة في قرية الصمدانية الشرقية، واعتقلته دون توجيه أي تهمة أو توضيح للأسباب، ولا يزال مصيره ومكان احتجازه مجهولين حتى اللحظة.
وأيضا توغلت في قرية أم العظام، ونصبت حاجزا طيّارا (مؤقتا)، وفشت المارة والمركبات، كما اعتقلت أربعة أشخاص، واقتادتهم إلى قاعدة العدنانية، إحدى القواعد العسكرية الإسرائيلية في المنطقة، قبل أن تُفرج عنهم بعد ساعات.
وفي قرية بريقة بريف القنيطرة الأوسط، نصبت إسرائيل حاجزا عسكريا طيّارا، وأجرت عمليات تفتيش للمركبات المارة، وأوقفت إحدى الحافلات واستجوبت الشبّان الذين كانوا فيها، وذلك على غرار ما يحدث في الضفة الغربية.
وأيضا تنفذ قوات الاحتلال عمليات حفر وتجريف وإقامة سواتر ترابية في جنوب البلاد لتعزيز التحصينات العسكرية بذرائع أمنية واهية.
وبعد سقوط الأسد، شنّت قوات الاحتلال مئات الغارات على مواقع عسكرية تابعة للجيش السوري، بهدف تدميرها ومنع إعادة تأهيل بنيتها التحتية، وذلك مع تحليق للطيران الحربي والاستطلاعي بين حين وآخر.
كما سيطر جيش الاحتلال على المنطقة العازلة، ثم انتقل لتنفيذ مداهمات واعتقالات في المناطق الحدودية.
وقال المحامي والحقوقي الفلسطيني المتخصص في مجال الدفاع عن الأسرى خالد محاجنة: "في كل مرة اكتشف اسم معتقل سوري جديد في السجون الإسرائيلية، أدرك أن لا شيء بقي محصنا، لا الأرض، ولا السيادة، ولا الإنسان".
وأردف في تغريدة على إكس 30 يوليو: "إسرائيل تدخل عمق سوريا، تعتقل وتزج بالعشرات في السجون، وكأنها تتحرك في أرضها. لا صوت، لا ضجة، ولا حتى خبر صغير، وكأن شيئا لم يكن".
وغرد في اليوم التالي قائلا: "نحو 27 معتقلاً سورياً في السجون الإسرائيلية، بعضهم معتقل منذ أكثر من عام إبّان سيطرة النظام السابق، والبعض الآخر اعتُقل خلال الأشهر الأخيرة، دون تهم، دون محاكمات، دون أي أفق للإفراج".
وقد احتل الجيش الإسرائيلي العديد من السدود والخزانات في محافظة القنيطرة، وأهمها سد المنطرة، الواقع داخل المنطقة العازلة، وتبلغ سعة خزانه حوالي 40.2 مليون متر مكعب.
وسد الرويحانية، الواقع على الحدود الشرقية للمنطقة العازلة، ويخزن حوالي مليون متر مكعب؛ وسد بريقة، المجاور للمنطقة العازلة، وتبلغ سعته 1.1 مليون متر مكعب؛ وسد كودنة، الواقع شرق المنطقة العازلة، وتبلغ سعته حوالي 31 مليون متر مكعب.
ويشكّل استمرار سيطرة إسرائيل على هذه الموارد المائية تهديدًا ليس فقط للمجتمع المحلي داخل المنطقة العازلة، بل لجميع سكان محافظة القنيطرة، مما يؤثر على أمنهم المائي والغذائي.

مفاوضات بلا نتيجة
وتأتي هذه الانتهاكات في ظل الحديث المستمر عن اجتماعات سورية إسرائيلية بوساطة عدة دول أبرزها أذربيجان وفرنسا وأميركا.
وفي 25 يوليو، ادعى مسؤول إسرائيلي، أن وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر التقى في العاصمة الفرنسية باريس وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بحضور المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، سفير الولايات المتحدة لدى أنقرة توماس باراك.
ونقلت "القناة 13" العبرية، عن المسؤول الإسرائيلي الذي وصفته بالكبير دون أن تسميه، قوله: إن اللقاء كان “مهما للغاية”. مشيرا إلى أن "التوصل إلى اتفاق مع سوريا عملية تستغرق وقتا، وليس أمرا فوريا".
من جانبه قال باراك في منشور على “إكس” قبلها بيوم: إن "وزراء إسرائيليين وسوريين بارزين (لم يحددهم ) اتفقوا على الحوار في إطار جهود خفض التصعيد، وذلك خلال اجتماع جمعهم في العاصمة الفرنسية باريس".
وأضاف: "التقيت هذا المساء بالسوريين والإسرائيليين في باريس، وكان هدفنا الحوار وتهدئة الأوضاع، وقد حققنا ذلك بالضبط". وأضاف: "جميع الأطراف جددت التزامها بمواصلة هذه الجهود" على حد قوله.
وفي السياق، لفت موقع "أكسيوس" الأميركي، إلى أن هذا الاجتماع الذي حضره الشيباني وديرمر "توسطت فيه إدارة الرئيس دونالد ترامب"، ويعد "أرفع لقاء رسمي بين إسرائيل وسوريا منذ أكثر من 25 عامًا".
ونقل الموقع عن مسؤولين إسرائيليين لم يسمهم، أن الهدف من الاجتماع كان "التوصل إلى تفاهمات أمنية تهدف للحفاظ على وقف إطلاق النار بين إسرائيل وسوريا، ومنع أزمة كتلك التي وقعت في السويداء".
وشهدت السويداء أخيرا وقفا لإطلاق النار عقب اشتباكات مسلحة دامت أسبوعا بين مجموعات درزية وعشائر بدوية، خلفت أكثر من 400 قتيل.
بعد هذه الاشتباكات، تدخلت الإدارة السورية الجديدة لفرض الأمن، ما أثار رفضا من قبل حكمت الهجري رئيس الهيئة الروحية للطائفة الدرزية في محافظة السويداء والذي طلب تدخل إسرائيل عسكريا.
واستجابت إسرائيل لدعوات الهجري؛ إذ شن جيشها عدوانا كبيرا على سوريا، في 16 يوليو شمل غارات على أكثر من 160 هدفا في 4 محافظات هي السويداء ودرعا المتجاورتين، وريف دمشق ودمشق، التي قصف فيها مقر هيئة الأركان ومحيط القصر الرئاسي بالعاصمة.
من جانبها ذكرت وكالة الأنباء السورية “سانا”، نقلا عن بيان للخارجية السورية أنّ الشيباني اجتمع في باريس مع نظيره الفرنسي جان نويل باروت وباراك دون الإشارة إلى الاجتماع مع ديرمر.
وجرى الحديث عن عقد الشيباني اجتماعا ثانيا مع ديرمر في 31 يوليو بالعاصمة الأذربيجانية باكو، وفق ما أفاد مصدر دبلوماسي وكالة الأنباء الفرنسية. وقال المصدر قبل حدوث اللقاء بيوم: إنه سيتمحور حول "الوضع الأمني خصوصا في جنوب سوريا".
ويأتي هذا الاجتماع الذي لم يتأكد حدوثه بعد زيارة أجراها الشيباني لموسكو، هي الأولى لمسؤول سوري في السلطة الانتقالية منذ الإطاحة بالحكم السابق الذي كانت روسيا أبرز داعميه. وسبق لباكو أن استضافت اجتماعا مماثلا بين مسؤولين من البلدين في 12 يوليو 2025.
وكان لافتا أن جميع تلك الاجتماعات لم ينتج عنها خطوة فعلية تلجم التغول الإسرائيلي المتعاظم في سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد.
ويأتي ذلك رغم تأكيد الإدارة السورية الجديدة على أن أولويتها تكمن في إعادة بناء البلاد وتوحيدها وأنها غير معنية بأي توتر مع إسرائيل.
فقد أكدت الإدارة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، أن سوريا لا تسعى إلى مواجهة مع إسرائيل، ولن تسمح باستخدام أراضيها كنقطة انطلاق لهجمات ضدها أو لتهريب الأسلحة إلى لبنان (أو أي دولة أخرى)، وستلتزم باتفاقية فك الاشتباك لعام 1974.
وطالب الشرع بانسحاب الجيش الإسرائيلي من المنطقة العازلة السورية والمناطق الأخرى التي احتلّها منذ سقوط النظام.

فرض واقع جديد
ويرى مراقبون سوريون أن إسرائيل التي تحتل هضبة الجولان السورية منذ عام 1967 استغلت إسقاط نظام بشار الأسد لفرض واقع جديد.
وبدأ الأمر باحتلال إسرائيل المنطقة السورية العازلة، وإعلانها انهيار اتفاقية فض الاشتباك، كما احتلت "جبل الشيخ" الإستراتيجي الذي لا يبعد عن العاصمة دمشق سوى نحو 35 كلم، ويقع بين سوريا ولبنان ويطل على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ويقول موقع ميدل إيست آي البريطاني: إن موجة الغارات الجوية الأخيرة قرب دمشق وحمص ومحافظة السويداء الجنوبية، قدّمتها إسرائيل بحجة حماية الأقلية الدرزية، في حين تهدف إلى “تعزيز حملة النظام الصهيوني المستمرة للسيطرة على الإقليم وتفتيته”.
وأردف في 5 أغسطس 2025 أنّه “بينما تُعطي الولايات المتحدة الأولوية للسيطرة الجيوستراتيجية وحماية مصالحها في مجال الطاقة والأمن، تسعى إسرائيل إلى تفتيت سوريا إلى جيوب عرقية وطائفية، كجزء من إستراتيجية عمرها عقود لتمزيق العالم العربي وترسيخ هيمنتها الإقليمية”.
وتسير هذه السياسة على نهجٍ انتهجه الطرفان منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، ويكمن في جوهرها هدفٌ مشترك: تفكيك سوريا كدولة موحدة ذات سيادة، وضمان عدم قدرة أي طرف إقليمي أو عالمي على تحدي النظام الأميركي الإسرائيلي في الشرق الأوسط.
وتعود إستراتيجية تل أبيب في العالم العربي إلى بدايات قيام ما تسمى دولة إسرائيل عام 1948.
فقد دعت وثائق إستراتيجية إسرائيلية داخلية من خمسينيات القرن الماضي، بما في ذلك مقترحات من وزارة الخارجية وجهاز الاستخبارات “الموساد”، إلى قيام دولة كردية كحاجز في وجه القومية العربية.
ووفق الموقع البريطاني، في حالة سوريا، تتضمن هذه الإستراتيجية تقسيم البلاد إلى أربع مناطق نفوذ رئيسة.
الأولى، دويلة درزية تحت نفوذ إسرائيل في السويداء جنوب سوريا، وأخرى علوية في المنطقة الساحلية تحت الحماية الروسية، تتمركز حول اللاذقية وطرطوس.
وكذلك منطقة كردية في شمال شرق سوريا، بدعم من الولايات المتحدة، حيث يسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب على مساحات شاسعة من الأراضي؛ ورابعا، حزام عربي سني تحت النفوذ التركي، خاصة على طول الحدود الشمالية والشمالية الغربية وقلب البلاد.
يخدم نموذج التقسيم هذا، الأهداف الإسرائيلية بشكل مباشر من خلال إبقاء سوريا ضعيفة ومقسمة وغير قادرة على الظهور مرة أخرى كفاعل إقليمي قادر على دعم المقاومة الفلسطينية أو معارضة التوسع الإسرائيلي.
ويؤكد المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات أن الاقتحام الإسرائيلي المستمر للأراضي السورية بشكل يومي، بحجة البحث عن أسلحة يهدف إلى إنشاء منطقة منزوعة السلاح تشمل جنوب سوريا بأكمله، بالإضافة إلى محاولة تجزئة البلاد على أسس طائفية وعرقية وإقليمية.
وقال المركز القطري خلال دراسة في مارس/آذار 2025: إن إسرائيل تعمل على تقديم نفسها كدولة إقليمية قوية عازمة على حماية الأقليات الطائفية والإثنية رغم أن الأخيرة لم تطلب حمايتها.
كما تحاول إسرائيل فرض منطقة أمنية تحت سيطرتها في جنوب غرب سوريا، تكون محظورة على الجيش السوري الجديد، تشمل أجزاءً من محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، ومنطقة جبل الشيخ، وأجزاءً من ريف دمشق، وفق المركز.
وتشير تصريحات القادة الإسرائيليين وأنشطة الجيش على الأراضي السورية التي احتلها عقب سقوط نظام الأسد إلى أن تل أبيب تخطط للبقاء هناك طويلا.
ففي زيارة له في 17 ديسمبر، برفقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس أركان الجيش السابق هرتسي هليفي، إلى قمة جبل الشيخ، صرّح وزير الجيش يسرائيل كاتس بأن هذه القمة هي “عين دولة إسرائيل التي ترى المخاطر القريبة والبعيدة”.
وأكد أن الجيش الإسرائيلي سيُنشئ تحصينات في المناطق التي احتلها أخيرا، ليبقى هناك في المستقبل المنظور.
وفي 23 فبراير/شباط 2025، صرّح نتنياهو بأن الجيش سيبقى إلى أجل غير مسمى على جبل الشيخ وفي المنطقة العازلة السورية منزوعة السلاح.
وأكد أنه لن يسمح لقوات النظام الجديد في دمشق بدخول المنطقة الواقعة جنوب العاصمة، كما طالب بأن تبقى محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء منزوعة السلاح.
ووفقًا للبيانات الإسرائيلية المتاحة، يرجح أن جيش الاحتلال يستعد للانتشار الدائم في المنطقة العازلة والتلال الواقعة شرقًا؛ حيث يُنشئ قواعد عسكرية وتحصينات ويُنفذ توغلات شبه يومية.
المصادر
- الاحتلال الإسرائيلي يتوغّل على طريق جباتا الخشب في ريف القنيطرة
- مسؤول إسرائيلي يدعي أن ديرمر التقى وزير خارجية سوريا في باريس
- مصدر: لقاء سوري إسرائيلي جديد في أذربيجان حول "أمن سوريا"
- Syria after Assad: How Israel and the US are accelerating plans to partition the country
- Israel’s Policy in post-Assad Syria