أم بادر وبارا.. كيف تحوّلت مدن السودان الهامشية إلى ساحات حاسمة بالحرب؟

داود علي | منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

ليست المدن الكبرى وحدها من تحدّد مسار الحروب، ففي النزاعات الطويلة والمفتوحة مثل الحرب السودانية، تصبح البلدات الصغيرة والمجهولة فجأة ذات قيمة لا تقدر بثمن. 

ففي السودان، حيث تتشابك الجغرافيا بالذهب، والحدود بالمصالح الإقليمية، تحولت بلدتان نائيتان شمالي كردفان، هما "أم بادر" و"بارا"، إلى مركز للصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. 

وكلا البلدتين تقع تحت سيطرة القوات المتمردة المدعومة إماراتيا، فبينما تستخدم الأولى كمنصة تهريب لوجستية تمول المليشيا وتبقيها حية، تتحول الثانية إلى جبهة مواجهة ومسرح حصار دموي على أعتاب مدينة الأبيض.

فكيف صعدتا أم بادر وبارا إلى قلب المعركة؟ وكيف كشفت معلومات ميدانية وصور أقمار صناعية مدى محورية النقطتين الإستراتيجيتين في الحرب؟ 

وكيف تحول الذهب والمهابط والطرقات، إلى أدوات قتال لا تقل فتكا عن البنادق والدبابات؟ 

أم بادر

لم تكن أم بادر سوى بلدة شبه منسية في ولاية شمال كردفان، تعيش على هامش الدولة، وتتنفس من هواء الصحراء الشاسعة المحيط بها، وتعيش على وتيرة الرعاة والمنقبين عن الذهب في المناجم البدائية. 

وتبعد نحو 600 كيلومتر إلى الغرب من العاصمة الخرطوم، وتتمركز على ضفاف بحيرة تحمل اسمها.  كما تشتهر بوفرة مواردها الطبيعية، وعلى رأسها معدن الذهب الذي يعد من أهم ثرواتها. 

وتعد أم بادر أيضا مركزا تاريخيا واجتماعيا لقبيلة الكواهلة، إحدى كبرى القبائل السودانية، مما يضفي عليها ثقلا قبليا له انعكاسات محلية وإستراتيجية.

ومنذ أن فقدت قوات الدعم السريع سيطرتها على إقليم الوسط، تحوّلت أنظار قادتها نحو شمال كردفان، وفق ما قالت منصة "فيستا مابس" السودانية، المختصة في رصد المعلومات الدقيقة والمحدثة عن الخرائط العسكرية.

وأضافت في 29 يونيو/ حزيران 2025، أن أم بادر كانت أولى المحطات، ليس فقط لموقعها في طريق الصادرات الممتد من بارا إلى دارفور، بل لأهميتها الخفية كمركز لوجستي لواحدة من أعقد شبكات تهريب الذهب في البلاد. 

فقد رصدت على أطراف الرمال هناك، خمسة مهابط ترابية أنشئت في أقل من عامين، بعضها طويل بما يكفي لهبوط طائرات شحن. 

وفي 23 مارس/ آذار 2025، وثقت صور الأقمار الصناعية طائرة تقف على أحد تلك المهابط، في مشهد لم يكن مألوفا في منطقة شبه خالية من أي مطار مدني أو عسكري.

عقدة إستراتيجية 

ومن هنا، بدأت أم بادر تتحول بسرعة إلى عقدة إستراتيجية بالغة الخطورة، فالمليشيا، التي فقدت الكثير من أراضيها شرقا، جعلت منها بوابة بديلة، ليس فقط لتهريب الذهب، بل أيضا لنقل الجرحى من القيادات رفيعة المستوى إلى الخارج.

وتحديدا إلى أبوظبي، حيث تتلقى المليشيا الدعم والرعاية، بحسب ما أوردته منصة "فيستا".  

وبالعودة إلى صور الأقمار الصناعية التي جرى رصدها، يمكن بسهولة ملاحظة شبكة المناجم المحيطة بالمهابط.

وقد جرى تقديرها بنحو 40 منجما على الأقل أعيد تشغيلها خلال الشهور الماضية، وأنشئت ممرات ترابية تربط بينها وبين مهابط الطائرات. 

لم يكن هذا التحرك عشوائيا، بل خطة دقيقة لضمان استمرار التمويل، حتى وإن تقهقرت الجبهات.

وفي أبريل/ نيسان 2025، كشفت صور الأقمار الصناعية ظهور علامات دمار واضحة قرب المهبط رقم 2 في منطقة أم بادر.

وهو ما يرجح تعرض الموقع لقصف جوي محتمل، يعتقد أن القوات الجوية السودانية نفذته في إطار استهدافها للبنية اللوجستية التابعة لمليشيا الدعم السريع. 

ومع ذلك، لا يستبعد أن تكون هذه العلامات ناتجة عن نشاط مكثف في استخراج الذهب، خاصة أن المنطقة تضم عددا من المناجم المفتوحة التي تظهر على الصور بنفس النمط البصري لأثر الضربات الجوية.

الوضع في بارا

أما بارا، فكانت مدينة هادئة تعج بأسواق الماشية ومناجم السيليكا، لا يربطها بالحرب إلا بعدها القريب من الأبيض، عاصمة إقليم شمال كردفان.

لكن مسار الحرب السودانية، بتقلباته المريرة، قرر أن يدفع بها إلى واجهة الصراع الدموي.

ففي 30 يونيو 2025، نقل موقع أخبار شرق كردفان أن مليشيا الدعم السريع (المعروفة محليا بالجنجويد) أقدمت على تصفية ثلاثة من عناصرها في مدينة بارا، بولاية شمال كردفان، وهم من أبناء المدينة، ويقطنون في حي دربي جنوب شرق المدينة. 

وأفادت بأن من بين القتلى المدعو “ود أبو نار”، والذين يعتقد أنهم شاركوا في أحداث فوضى شهدها حي القوز المجاور قبلها بيومين.

وجاءت تصفيتهم لاعتقاد المليشيات أنهم يتعاونون مع الجيش في إحداث تلك الأزمات، وأنهم يحددون الأماكن المؤثرة التي يستهدفها الطيران الحربي التابع للجيش السوداني. 

ووفقا للموقع، فإن القرى المحيطة بـ "بارا" تعرضت لسلسلة اقتحامات نفذتها المليشيا، أسفرت عن تهجير قسري واسع للسكان ونهب ممتلكاتهم بالكامل. 

وأضافت التقارير أن المدينة تعيش أوضاعا إنسانية متدهورة؛ حيث توقفت الرحلات التجارية كافة وحركة المواصلات العامة، بعد أن منعت المليشيا خروج أي مركبات منها، بما في ذلك سيارات السفر والبضائع.

وتحدث سكان محليون عن معاناة يومية في جلب مياه الشرب أو جمع حطب الطهي؛ إذ يتعرض المواطنون للضرب والشتائم من قبل عناصر المليشيا أثناء تنقلهم داخل الأحياء، تحت ذريعة رفع إحداثياتهم لسلاح الجو.

ونتيجة لذلك، لجأت العديد من الأسر لاستخدام أثاث منازلها الخشبية كوقود للطهي.

وفي سياق متصل، أشار موقع أخبار شرق كردفان إلى أن الآلاف من السكان – أغلبهم مزارعين – جرى تهجيرهم من قراهم الواقعة في نطاق منطقة دار الريح شمال وشمال شرق الولاية على يد عناصر الدعم السريع، دون أي استجابة حكومية لاحتواء الأزمة أو تدخل إنساني فاعل لإغاثة المتضررين.

وتقع بارا على بعد 40 كيلومترا فقط من الأبيض، وسيطرت عليها الدعم السريع منتصف 2023، وبعدها حولت المدينة إلى حصن عسكري ومخزن للإمداد. 

لكنها اليوم تخضع لحصار مزدوج، الجيش السوداني، مدعوما بـ"متحرك الصياد يطوق أطراف المدينة، ويقصفها بالمسيرات والمدفعية، في محاولة لإجبار قوات الدعم السريع على الانسحاب.

ومتحرك الصياد  قوة خاصة، تعد تجميعا لنحو 30 متحركات فرعيا بما يقارب 20 ألف مقاتل، تعمل بتنسيق عالٍ تحت المظلة العامة للقيادة العليا للجيش السوداني.

دور حاسم 

ومن هنا فإن أهمية مدينتي أم بادر وبارا لا تعود فقط إلى موقعهما الجغرافي، بل إلى الدور الحاسم الذي باتتا تلعبانه في قلب الحرب السودانية، وفق ما يرى الصحفي والمحلل الميداني السوداني محمد نصر.

وفي حديث لـ "الاستقلال"، قال نصر: إن مليشيا الدعم السريع تدرك تماما أنها لم تعد تمتلك عواصم، لكنها ما زالت تحاول الحفاظ على خرائطها الخلفية والذهبية.

وأضاف: "الذهب في أم بادر يمول المعركة، والمهابط التي أنشئت هناك أصبحت خطوط طيران غير معلنة تستخدم لنقل العتاد والمصابين". 

“فيما تعد بارا ورقة ضغط مستمرة على مدينة الأبيض؛ حيث تتمركز مليشيا الدعم السريع على بعد أقل من 40 كيلومترا فقط من مقر الفرقة الخامسة مشاة التابعة للجيش، وهو ما يجعل من هذه المناطق الصغيرة أهدافا ذات أولوية قصوى لكل طرف في المعركة”.

وأوضح أن طريق الصادرات الرابط بين الخرطوم ومدينة الأبيض عبر بارا، رهيد النوبة، وأم أندرابة، كان خلال مراحل مبكرة من الحرب أحد أبرز محاور التحرك العسكري لقوات الدعم السريع؛ إذ أنشأت المليشيا نقاط ارتكاز في جبرة الشيخ وبارا، ومارست عبره عمليات إمداد ضخمة أثناء هجومها على العاصمة.

وتابع نصر: "بعد استعادة الجيش السوداني السيطرة على الخرطوم، تحول هذا الطريق من شريان هجومي إلى ممر انسحاب وإعادة تموضع بالنسبة لمليشيا الدعم السريع". 

لكن هذا التراجع لم يكن بلا ثمن؛ إذ تعرض المدنيون في طول هذا الطريق لسلسلة من الانتهاكات دفعت شباب قبيلة الكبابيش في أم أندرابة إلى مقاومة شعبية تمكنت بالفعل من طرد عناصر الدعم السريع والسيطرة على البلدة، وفق قوله.

وأشار الصحفي السوداني إلى أن القوات المسلحة تسلمت بعد ذلك زمام المبادرة في أم أندرابة وتقدمت إلى رهيد النوبة التي خاضت فيها معركة انتهت بخسارة فادحة للمليشيا.

وأضاف أن ما تبقى من هذا المحور يتمثل في جبرة الشيخ وبارا، وهما النقطتان اللتان يحرص الجيش الآن على استعادتهما لإغلاق ملف طريق الصادرات بالكامل.

واختتم نصر حديثه بالقول: إن "استعادة هاتين النقطتين ستمنح الجيش قدرة لوجستية مضاعفة، إذ سيتمكن من فتح خط إمداد مباشر من الخرطوم إلى الأبيض، ما يخفف الضغط على المدينة ويؤمن ظهر القوات المتقدمة في كردفان". 

وأتبع: “حاليا، يعتمد الجيش على طريق كوستي الأبيض، وهو خط إمداد أطول وأضعف، لذا فإن بسط السيطرة على بارا وجبرة الشيخ ليس نصرا تكتيكيا فحسب، بل هو تحول مهم ومفصلي في مسار الحرب".