صراع دموي بين الجيش والدعم السريع.. من يربح معركة "بابنوسة" السودانية؟

"تحتضن المدينة الفرقة 22 مشاة، وهي من أكبر وأهم قواعد الجيش في غرب كردفان"
في قلب ولاية غرب كردفان، تتقاطع خطوط معركة مهمة بين الجيش السوداني ومليشيا “الدعم السريع” المتمردة؛ حيث تتصارع البنادق على مدينة صغيرة تدعى "بابنوسة"، لكنها في حسابات الحرب الكبرى، أكبر بكثير من اسمها.
ففي مدينة يدللها أهلها بـ"القميرة" أي تصغير قمر، باتت نيران القصف وغبار المدفعية تسيطر على المشهد، بينما يسود صمت يكسره صدى الطائرات الحربية والمسيرات أو صوت مدافع المتمردين وأزيز رصاصهم.
فمنذ 20 يونيو/ حزيران 2025، تشهد بابنوسة أعنف معاركها على الإطلاق، معركة تكسر عظم بين القوتين المتحاربتين، الهجمات تتكرر، السيطرة تتأرجح، والحقيقة تضيع بين بيان عسكري ومقطع دعائي.
فما الذي يجعل هذه المدينة هدفا حاسما؟ ولماذا تصر "الدعم السريع" على استعادتها رغم الخسائر؟ وهل تتحول "بابنوسة" إلى لحظة فاصلة في صراع الغرب السوداني؟
هزيمة وعودة
وفي تطور ميداني لافت في 27 يونيو، أفادت مصادر محلية وصفحات ميدانية بينها "أخبار غرب كردفان"، برصد تجمعات كبيرة للدعم السريع على طريق بابنوسة–المجلد، وفي محيط المدينة من عدة جهات، وسط مؤشرات واضحة على استعدادات لهجوم واسع النطاق.
وبحسب المصدر ذاته، نفذت مليشيا “الدعم السريع” خلال ساعات النهار قصفا مدفعيا مكثفا استهدف مواقع الجيش داخل "الفرقة 22 مشاة".
بينما رد سلاح الجو السوداني باستخدام طائرات مسيرة، شنت ضربات مباشرة على هذه التجمعات في محيط المدينة والطريق الرابط مع المجلد.
وتشير التقديرات العسكرية إلى أن هذه التحركات تمهد لهجوم بري كبير محتمل، قد يكون الأوسع منذ بدء موجة التصعيد الأخيرة، في محاولة جديدة من الدعم السريع لاختراق دفاعات الجيش والعودة إلى قلب بابنوسة.
وبدأت الجولة الأخيرة من المعارك بهجوم مفاجئ شنته الدعم السريع على المدينة من ثلاثة محاور، الجنوب، الغرب، والشمال.
ورغم تمكن المهاجمين من التوغل مؤقتا داخل بعض الأحياء، وتسجيل ظهور علني داخل مقرات عسكرية، فإن سلاح الجو المسير التابع للجيش، بالإضافة إلى المدفعية الثقيلة، قلب الموازين ودفعهم للتراجع.
وفي بيان مقتضب نشره الناطق باسم الجيش، العميد نبيل عبد الله، في 20 يونيو، عبر صفحته على فيسبوك، قال: إن "قوات الجيش في الفرقة 22 – بابنوسة سحقت هجوما كبيرا ظلت قوات التمرد تحشد له منذ مدة"، متعهدا بـ"صمود المدينة وتحولها إلى مقبرة للمهاجمين".
وتحدثت مصادر عسكرية عن استيلاء الجيش على أكثر من 40 مركبة قتالية خلال الاشتباكات الأخيرة، خاصة في المحاور الشرقية، حيث كانت المواجهات الأعنف.
بينما أظهرت لقطات فيديو نشرت لاحقا آليات محترقة وعربات رباعية الدفع تم تدميرها أو الاستيلاء عليها، خلال دحر “الدعم السريع”.
لماذا بابنوسة؟
وفي هذا الوضع المحتدم، تتجه الأنظار إلى بابنوسة، المدينة التي بدت وكأنها مجرد نقطة جغرافية صغيرة، لكنها تحولت إلى قلب المعركة في غرب السودان، بل وربما إلى مفتاح حسم الصراع في الإقليم كله.
وتحتضن المدينة رئاسة الفرقة 22 مشاة، وهي واحدة من أكبر وأهم قواعد الجيش في ولاية غرب كردفان.
ولم يتبق تحت سيطرة الجيش في تلك المنطقة سوى هذه القاعدة العسكرية إلى جانب اللواء 90 هجليج، بعد سقوط مدن كبرى مثل الخوي في يد المتمردين.
وتكمن أهمية بابنوسة في موقعها الإستراتيجي والاقتصادي والعسكري، وبالتالي السياسي.
فهذه المدينة الواقعة على مسافة نحو 700 كيلومتر جنوب غرب الخرطوم، تشكل عقدة مواصلات محورية تربط بين ولايات السودان الغربية ووسطه وشماله، بل وتمتد نحو جنوب السودان قبل الانفصال.
وعندها يتفرع خط السكة الحديد إلى نيالا بدارفور وواو بجنوب السودان، ما يجعلها واحدة من أكبر مراكز سكك الحديد في البلاد، وذات دور اقتصادي تاريخي.
معبر إستراتيجي
وتتميز المدينة بأنها معبر إستراتيجي نحو النيل الأبيض والدمازين، وبهذا المعنى فإن الفرقة 22 في بابنوسة تشكل نقطة ارتكاز متقدمة، تمنح الجيش قدرة على حماية العمق الخلفي لولايات دارفور، وتأمين خطوط الإمداد إلى الأبيض وسنار ووسط الجزيرة.
وبسقوطها إن حدث، سيتعرض الجناح الغربي بالكامل للجيش لخطر العزل أو الحصار.
ولهذا كله، لا تبدو معركة بابنوسة معركة محلية على مدينة نائية، بل صراعا مركزيا على آخر ما تبقى من أعمدة الجيش في غرب السودان.
فالطرف الذي يمسك بهذه المدينة، لا يسيطر فقط على نقطة جغرافية، بل يحكم قبضته على مفاصل الحركة العسكرية والاقتصادية واللوجستية التي تحدد مسار الحرب غرب البلاد وربما مصيرها في الوسط.
وقال الباحث الأمني والعسكري السوداني، ضو البيت دسوقي: إن “بابنوسة تشكل خطوط دفاع متقدمة تحمي ظهر القوات السودانية المنتشرة غرب البلاد”.
وأوضح دسوقي لصحيفة "الأخبار السودانية"، أن “السيطرة عليها تمثل مفتاحا لتحصين العمق الإستراتيجي، أو بالمقابل، تهديدا وجوديا إذا ما سقطت بيد المتمردين”.
وأضاف أن المليشيا المتمردة تسعى منذ أشهر إلى السيطرة على المدينة “لحماية ما تبقى لها من مواقع ومراكز نفوذ في الغرب، وخشية من تصاعد الضغط العسكري الشعبي والزحف القادم من وسط البلاد”.
وحذر دسوقي من أن “بابنوسة تفتح الطريق نحو حاميات إستراتيجية للجيش في الأبيض (شمال كردفان)، وكوستي (النيل الأبيض)، ما قد يضع هذه النقاط ضمن محور هجومي موحد للدعم السريع”.
واستطرد: “خاصة مع تمدد وجودها في مناطق مثل سنار والفاو ووسط الجزيرة، الأمر الذي قد يعيد رسم خريطة السيطرة في النطاق الأوسط من السودان”.
الوضع العام
ومع ذلك، ففي الوقت الذي تميل فيه كفة السيطرة على ولاية غرب كردفان لصالح الدعم السريع، تبقى بابنوسة المعقل العسكري الأخير للجيش.
لكن استمرار المعارك حول المدينة منذ مايو/ أيار 2024، جعل منها ساحة حرب مفتوحة دفعت الثمن الأكبر فيها الكتلة المدنية.
وتحولت بابنوسة فعليا إلى "مدينة أشباح" خالية من السكان، بعد أن نزح عشرات الآلاف من المدنيين إلى قرى ومدن مجاورة أكثر أمانا.
ولفت عضو غرفة الطوارئ بالمدينة، إبراهيم مفرح، لصحيفة “سودان تربيون” عن توجه النازحين إلى أكثر من عشر مناطق، أبرزها، الفولة، المجلد، والدبب.
وأشار مفرح إلى توقف تقديم الخدمات الطبية “بسبب تدهور الوضع الأمني وصعوبة التنقل”.
أما الطبيب إبراهيم فوت، وهو من سكان المدينة النازحين، فقد أوضح أن قرية "أم جاك"، الواقعة على بعد 48 كيلومترا شمال بابنوسة، استقبلت أكثر من 6 آلاف نازح، يعيشون في أوضاع إنسانية مأساوية، وسط غياب شبه كامل للخدمات الأساسية.
طبيبة عاملة في المنطقة أوضحت أن بابنوسة كانت قد استقبلت سابقا آلاف الفارين من مناطق الصراع في الخرطوم ونيالا والأبيض، لكنها دخلت بدورها في دائرة النار.
خاصة بعد اندلاع المواجهات الشاملة في 22 يناير/ كانون الثاني 2025، حين اضطر أكثر من 50 ألف شخص إلى مغادرة المدينة خلال أسبوع واحد فقط، إثر سقوط عشرات القتلى والجرحى وتدمير مئات المنازل والمرافق العامة.
المأساة لا تقف عند النزوح فحسب، إذ تعطلت جميع المرافق الصحية في المدينة، بما في ذلك مستشفى بابنوسة، فيما يعيش النازحون في معسكرات بدائية وبعضهم بلا مأوى، تحت الأشجار، يعانون من البرد القارس ونقص الغذاء وانتشار الأفاعي والعقارب.
وأكدت الطبيبة لـ"سودان تربيون" أن الأطفال هم الأكثر تضررا، إذ انتشرت بينهم حالات الملاريا، النزلات المعوية، وأمراض الجهاز التنفسي، في ظل غياب تام للعلاج والرعاية.
تحذيرات أممية
وفي ظل هذا الانهيار الإنساني المتسارع، تزداد التحذيرات من كارثة صحية وبيئية وشيكة إذا استمرت المعارك حول المدينة، ولم يتم فتح ممرات إنسانية عاجلة أو توفير مساعدات للآلاف العالقين على أطراف النار.
وعلى الصعيد الدولي، عبر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، خلال مؤتمر صحفي في 21 يونيو عن قلقه العميق إزاء تصاعد الانتهاكات الخطيرة ضد المدنيين في مناطق متعددة من شمال دارفور وكردفان.
وتزايدت التقارير عن العنف الجنسي، والاختطاف، والنهب المنظم في ظل غياب أي مساءلة.
وأشار تورك إلى أن القتال الأخير في هذه المناطق، وما يحمله من احتمالات تصعيد خطير للصراع المسلح، يثير مخاوف جدية تتعلق بحماية المدنيين، خصوصا في بيئة تسودها ثقافة الإفلات من العقاب على الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان.
وشدد المسؤول الأممي على أن “الجميع يعلم إلى أين يؤدي استمرار التصعيد”.
ودعا تورك إلى "تحقيقات شفافة في الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها فورا، مع التأكيد على الحاجة الملحة لتأمين الحماية للمدنيين، ووقف الاعتداءات بحقهم في أنحاء مناطق النزاع كافة، بما في ذلك بابنوسة والمناطق المحيطة بها".
المصادر
- احتدام المعارك في بابنوسة بين الجيش السوداني والدعم السريع
- الجيش السوداني يصد هجوما عنيفا على بابنوسة في غرب كردفان
- “بابنوسة”.. مدينة مُسالَمَةٌ تمزقها الحرب
- "بابنوسة" السودانية تتحول إلى "مدينة أشباح".. ما قصتها؟
- تضارب الانباء حول حقيقة الوضع الميداني في مدينة بابنوسة والطرفان يعلنان الانتصار والسيطرة
- معارك بابنوسة بغرب كردفان مستمرة