رغم تعرضهما لمصير مشابه.. لماذا تنقسم البوسنة بشأن فلسطين؟

خالد كريزم | منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

رغم ما تعرضت له من إبادة جماعية في التسعينيات، تشهد البوسنة والهرسك انقساما حادا في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، في مشهد يعكس حجم التصدعات الداخلية العميقة في البلاد.

هذا التباين يعود بالأساس إلى التركيبة السياسية المعقدة والتنوع العرقي في البلاد؛ حيث تتقاسم الحكم ثلاثة مكونات رئيسة: البوشناق المسلمون، والكروات الكاثوليك، والصرب الأرثوذكس، ولكل منها امتداداته السياسية والدينية والثقافية.

فبناءً على اتفاقية دايتون التي أنهت الحرب في البلاد (1992-1995)، هناك كيانان رئيسان يُشكلان الدولة، هما اتحاد البوسنة والهرسك، الذي يضم غالبية البوسنيين والكروات البوسنيين (عاصمته سراييفو)، وجمهورية صربسكا التي تضم معظم صرب البوسنة (مركزها الإداري بانيا لوكا). 

وهناك منطقة ثالثة محايدة لا تخضع لأي منهما ويشترك الجميع في حكمها وهي مقاطعة برتشكو (شمال شرق).

وعلى الرغم من التأييد العام للفلسطينيين بين غالبية السكان من مختلف الأعراق، فقد أسهمت الحروب الإسرائيلية المختلفة على غزة في زيادة الخلافات والاستقطاب السياسي الداخلي.

إذ يدعم السياسيون البوشناق الفلسطينيين بينما يقف صرب وكروات البوسنة إلى جانب إسرائيل. وفضلا عن ذلك، لا يخلو المعسكر الداخلي لكل طرف من الانقسامات والخلافات.

مؤتمر الحاخامات

تجلى هذا الانقسام أخيرا في موقف البوسنة من عقد مؤتمر الحاخامات الأوروبيين CER في سراييفو، والذي كان يهدف للإعلان عن دعم علني قوي لإسرائيل في ظل عدوانها على غزة.

وكان من المقرر أن يعقد المؤتمر الذي يمثل أكثر من ألف جالية يهودية أرثوذكسية رئيسة، اجتماع لجنته الدائمة نصف السنوي في سراييفو منتصف يونيو/حزيران 2025، لكنه ألغي بعد ردود فعل غاضبة من الرأي العام المحلي. 

على الصعيد الحكومي، اختلفت ردود الأفعال بين وزراء سراييفو نفسها، فضلا عن مواقف مخالفة من قبل الصرب والكروات.

فقد رفض وزير العمل والسياسة الاجتماعية عدنان ديليتش عقد المؤتمر قائلا: "سراييفو مدينة عانت من أطول حصار في التاريخ الأوروبي الحديث، وقُتل فيها الأطفال، واستُهدفت فيها المستشفيات وقُصفت الأسواق".

وأردف في 10 يونيو/حزيران: "لذلك، من غير المقبول على الإطلاق، بل ومن المهين أخلاقيا، أن يُعقد فيها مؤتمر تُرسل من خلاله رسائل دعم لمحتل يرتكب إبادة جماعية يوميا ضد سكان غزة المدنيين الأبرياء، وعلى مرأى العالم كله".

ودعا المنظمين إلى إلغاء المؤتمر فورا، وطالب جميع المؤسسات المعنية بمنع إقامته، مهيبا بالمواطنين ومنظمات المجتمع المدني عدم الصمت "في وجه محاولة إذلال عاصمتنا وبلدنا أخلاقيا". 

وبعد ساعات قليلة، كانت النتيجة أن ألغى فندق "سويس هوتيل" في سراييفو المستضيف للمؤتمر، حجوزات الحاخامات. وصرح الحاخام الأكبر بنحاس غولدشميت أن مسؤولا بوسنيا أخبره أنهم "غير مرحب بهم".

وأمام ذلك، دعا غولدشميت الاتحاد الأوروبي إلى إلغاء وضع البوسنة والهرسك كمرشح محتمل للانضمام إلى كتلة بروكسل، والذي حازت عليه نهاية عام 2022، قبل أن يقرر القادة الأوروبيين في مارس/آذار 2024 منح الضوء الأخضر لبدء مفاوضات انضمامها.

ويلعب سعي البوسنة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي دورا مهما في تشكيل خطابها الرسمي، إذ تميل بعض القوى السياسية لتبني مواقف أكثر حذرا تجاه إدانة إسرائيل تماشيا مع مواقف غربية مؤيدة لتل أبيب.

وأمام حالة الجدل التي خلقها إلغاء المؤتمر، حاول وزير خارجية البوسنة والهرسك، إلمدين كوناكوفيتش، توضيح ما جرى بلهجة فهم منها عدم معارضته انعقاده.

وقال خلال مؤتمر صحفي: إن مؤسسات البوسنة والهرسك لم تمنح ولم تسحب تصاريح مؤتمر الحاخامات الأوروبيين، وأن المنظمين ألغوه بأنفسهم "دون استشارتنا".

وأضاف أن الإعلان عن المؤتمر بحد ذاته أثار ردود فعل غير لائقة من بعض سياسيي البوسنة بمن فيهم وزير العمل الذي قال: "إنه أخطأ بطلبه حظره".

وأوضح أن "سويس هوتيل" تحدث عن وجود مخاطر أمنية على الحدث رغم أن مدير وكالة الأمن القومي ومفوض شرطة سراييفو نفيا ذلك.

وجاءت تصريحات وزير الخارجية بعد اتهام كبير الحاخامات سراييفو بانتهاك التزامات الاتحاد الأوروبي وقيمه بشأن معاداة السامية، وهي تهمة معلبة تطلقها إسرائيل على كل من ينتقد سياساتها العدوانية.

وهذه التهمة ثقيلة بالنسبة لسراييفو التي تحتضن مسجدا وكنيسة كاثوليكية وأخرى أرثوذكسية وكنيسا يهوديا في شارع واحد وسط المدينة.

وعلى إثر ذلك، انتقد وزير الخارجية البوسني هذه الاتهامات، قائلا إن هناك حملة منظمة تُشن ضد البلاد لتصويرها على أنها متعصبة، "وهو أمر لم تكن عليه يوما"، رافضا محاولات ربط البوسنيين بحركة المقاومة الإسلامية حماس.

وذكر أنه سيشرح موقف البوسنة "بجدية وحزم"، كما أكد أن "الجميع مُرحّب بهم هنا". وتشير التصريحات المتباينة من وزيري الخارجية والعمل إلى وجود انقسام داخل مؤسسات سراييفو نفسها.

ولم يقف الجدل هنا، فقد أدان ستاشا كوشاراتش، نائب رئيس مجلس وزراء صرب البوسنة إلغاء مؤتمر الحاخامات، وقال: إن ذلك "يكشف كل الأكاذيب حول سراييفو الأوروبية المنفتحة متعددة الثقافات".

كما حاول الصرب والكروات استضافة المؤتمر في موستار، المدينة ذات الأغلبية الكرواتية، وبانيا لوكا، المركز الإداري لصرب البوسنة، الأمر الذي رفضه الحاخام غولدشميت. 

وتسلط محاولة استضافة المؤتمر من قبل الطرفين الضوء بشكل متزايد على كيفية استغلال الأزمة لتحقيق مصالح سياسة، وتظهر وجود صراع داخلي عميق بشأن العلاقة مع إسرائيل. 

المواقف من فلسطين

ورغم الاختلاف الذي ظهر بين الوزيرين أخيرا، فبالنسبة لسراييفو، تُجسّد لافتة كُتب عليها "أمس سربرينيتسا.. واليوم غزة" من احتجاجٍ نُظّم في سراييفو في ديسمبر/كانون الأول 2023، طبيعة دعم العاصمة البوسنية لفلسطين.

وشبه رئيس حزب العمل الديمقراطي في البوسنة والهرسك، بكر عزت بيغوفيتش، في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2024، محنة البوسنيين بما يمر به الفلسطينيون.

ويحرص السياسيون في سراييفو على توجيه إدانة عامة للحرب والعنف، مؤكدين على حق كل من الإسرائيليين والفلسطينيين في دولتهم الخاصة.

غير أن هذا لم يمنع بعض المسؤولين مثل رئيسة مجلس وزراء البوسنة، الكرواتية بوريانا كريستو من إدانة هجوم حماس في 7 أكتوبر.

لكن بالعموم، تسمح سراييفو بإقامة فعاليات وتنظيم مظاهرات تضامنية مع فلسطين، كما يمكن رؤية أعلامها معلقة على نوافذ المنازل ومرسومة على الجدران. 

بيد أن القادة الصرب والكروات وخاصة القوميون منهم لا يشاركون سراييفو نفس الموقف.

ففي خضم العدوان الإسرائيلي على غزة، سافر رئيس جمهورية صرب البوسنة ميلوراد دوديك الذي ينكر حدوث إبادة جماعية في سربرينتسا إلى القدس المحتلة في 26 مارس/آذار 2025 للمشاركة في "المؤتمر الدولي لمكافحة معاداة السامية". 

وأثناء كلمة له باجتماعات المؤتمر الذي عقد في القدس، قال إنه "في بانيا لوكا، رفعنا في يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، علم إسرائيل لكن هكذا احتفلوا بالجانب الآخر في سراييفو"، رافعا بيده صورا تظهر البوسنيين المسلمين يحملون أعلام فلسطين.

وخلال الحرب على غزة، لم يتوقف دوديك عن محاولة ربط البوشناق المسلمين بحركة حماس ووصم الطرفين بـ"الإرهاب".

وفي نهاية أبريل/نيسان 2024، أثار العديد من العواصف بوصفه اتحاد البوسنة والهرسك بـ"وكر المسلمين". وقال أيضا إنه "يجب علينا دعم إسرائيل" وأنه "لا فرق بين حماس ومسلمي البوسنة".

ويُصنّف دوديك ومن حوله دعمهم لحرب إسرائيل على غزة في سياق "مكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي"، وفق زعمه.

وينبع دعم صرب البوسنة لإسرائيل من حقيقة ارتباطهم ببلغراد الذين يودون معها تحقيق حلم "صربيا الكبرى"، إذ يهددون على الدوام بالانفصال عن البوسنة.

وتفاخر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش أخيرا بالقول: "أنا الوحيد في أوروبا الذي يتاجر بالذخيرة العسكرية مع إسرائيل، هذا يُعرّضني لانتقادات لكن سأبقى ثابتا في موقفي"، قبل أن يعلن في 23 يونيو/حزيران 2025 وقف تزويد تل أبيب بالذخيرة بعد انتقادات ومظاهرات متصاعدة في بلغراد.

وبالحديث عن كروات البوسنة، فإن علاقتهم بإسرائيل أحدث نسبيا من الصرب، لكنها آخذة في التعمق.

ويلعب رجل الأعمال الإسرائيلي أمير غروس كابيري الذي يقيم في مدينة موستار جنوب البوسنة دورا في هذه العلاقة، إذ يرتبط برابطة الحاخامات الأوروبيين ومنظمة أيباك في الولايات المتحدة.

وبدأ كابيري توسيع علاقاته واستثماراته في عام 2019، عندما أعلنت شركة "ألوميني" للألمونيوم إفلاسها، ليستأجر في العام التالي، ممتلكات المصنع ويعيد تشغيله، وذلك عبر مجموعة "إم. تي. أبراهام" التابعة له.

وفي عام 2021، أصبح كابيري نائب رئيس نادي "زرينيسكي" لكرة القدم، الذي يُعد رمزا للنزعة القومية الكرواتية في موستار.

وفي العام التالي، بات زعيما للطائفة اليهودية في موستار (تضم نحو 30 عضوا فقط)، ولعب دورا محوريا في فتح مكتب غرفة التجارة الإسرائيلية في هذه المدينة بدلا من سراييفو، مما عمّق الروابط بين إسرائيل والكروات هناك. 

وفي خضم هذه التحركات، يُنظر إلى كابيري على أنه مقرب من حزب الاتحاد الديمقراطي الكرواتي في البوسنة (داعم لإسرائيل)، بل يقول البوسنيون إنه عضو فيه.

حرب أعلام

ولم يظهر الانقسام الحالي بشأن فلسطين حديثا؛ إذ شهد عام 2021 حرب أعلام أكدت عمق الخلافات بين السياسيين في الأعراق المختلفة.

في مدينة موستار الجنوبية وحدها، أصبحت الانقسامات التي كانت ملموسة خلال حرب البوسنة والهرسك في التسعينيات واضحة الآن.

فبينما رفرف العلم الفلسطيني فوق الجسر القديم في الجزء الشرقي ذي الأغلبية المسلمة من المدينة، فإن الدعم لإسرائيل أكثر انتشارا في الجزء الغربي ذي الأغلبية الكرواتية.

وعندما اندلع العدوان على غزة في مايو/أيار 2021، أضاء البوشناق العلم الفلسطيني على مبنى بلدية سراييفو الأيقوني وعلى جسر موستار الشهير.

وردّ الكروات برفع علم إسرائيل وعلم "هيرتسغ-بوسنا" (الكيان الكرواتي الانفصالي خلال التسعينيات) مع لافتة كتب عليها: "متحدون ضد الإرهاب". 

وفي عام 2022، أضاءت بلدية موستار (كرواتية) الجسر التاريخي للمدينة بألوان العلم الإسرائيلي بمناسبة "يوم ذكرى الجنود الإسرائيليين". وردّ البوشناق بتعليق علم فلسطين من فوق الجسر.

وفي الأول من مايو/أيار 2023، أُضيئت قاعة "كوساتشا"، أهم مبنى في موستار، بألوان العلم الإسرائيلي للاحتفال بدعم إسرائيل لمعرض الاقتصاد الدولي. 

كما عرضت جامعة موستار علم إسرائيل على أحد مبانيها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وردّ البوشناق بعد ثلاثة أيام برفع علم فلسطيني ضخم على الجسر القديم.

وعلى الجانب الصربي، أضاء صرب البوسنة علم إسرائيل على أهم المباني في بانيا لوكا، وأدان زعيمهم دوديك عملية طوفان الأقصى.

في مقابلة أجراها دوديك مع صحيفة جيروزالم بوست عام 2022، زعم أن "لا أحد يفهم اليهود مثل الصرب"، مبينا أن ما يربطهما هو "التطرف الإسلامي، الذي يحاول زعزعة استقرار إسرائيل، والذي حاربناه أيضًا في الحرب الأهلية في التسعينيات"، وفق تعبيره.

ويُؤطّر دوديك الصراعات في البوسنة وفي فلسطين المحتلة من منظور قومي إثني وديني، مساويا بين الصرب والإسرائيليين والبوشناق والفلسطينيين.

وفي مقابلة أخرى أجراها مع صحيفة إسرائيل اليوم خلال زيارته الأخيرة، قال دوديك: “لم ينتهِ الأمر برفع علم منظمة التحرير الفلسطينية على مبنى الحكومة في سراييفو، ولكن رفعت في المظاهرات أعلام حماس وحزب الله”.

وتابع: “في بانيا لوكا، وفي جميع أنحاء جمهورية صرب البوسنة، لا يمكن أن يحدث هذا. دعم إسرائيل مطلق”.

ودوديك نفسه حكمت عليه محكمة البوسنة في فبراير/شباط بالسجن لمدة عام ومنعه من تولي أي منصب رسمي أو سياسي لمدة ست سنوات، بعد إدانته بتهمة الاعتداء على النظام الدستوري وعرقلة تنفيذ قرارات الممثل السامي الدولي في سراييفو.

لكنه لم يسلّم نفسه للعدالة، بل زار علنًا مناطق صربية في سراييفو بعد صدور الحكم، فيما فشلت قوات الأمن في اعتقاله، بسبب تصدي قواته لنظرائهم في العاصمة البوسنية.

إذ إن لدى الطرفين في سراييفو وبانيا لوكا مؤسسات أمنية ووزارات مستقلة، ما يجعل عملية توقيفه محفوفة بمخاطر قد تعيد إشعال التوترات بين المكونات العرقية.

حالة دوديك نموذج لحالة الاستقطاب السياسي الحاد في البلاد، خاصة في الملفات الخارجية. فالخلاف حول فلسطين ليس استثناءً، بل يعكس انقسامًا بنيويًا في توجهات النخب السياسية.

وهو أمر ظهر عندما غزت روسيا أوكرانيا في خطوة دعمها الصرب حلفاء موسكو التاريخيين، وأدانها البوشناق والكروات.

كما تعد حرب قره باغ مثالا آخر على الانقسام، إذ دعم البوشناق والصرب أذربيجان، بينما وقف الكروات إلى جانب أرمينيا.

وفي قلب هذا التصدع، تختلف الرؤى بشأن مستقبل البوسنة نفسها، ففي حين ترى النخبة الحاكمة في سراييفو أن المسار الطبيعي للبلاد هو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يعارض الصرب هذا التوجه، ويفضلون تعزيز علاقاتهم مع موسكو على غرار حليفتهم الكبرى بلغراد.