اتفاق الطاقة بين ليبيا وتركيا.. ما التحديات التي تهدد استمراره؟

منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

شهدت العلاقات الليبية–التركية تطورا جديدا مع توقيع اتفاقية تعاون بين المؤسسة الوطنية للنفط الليبية ومؤسسة البترول التركية؛ حيث تشمل الاتفاقية إجراء أبحاث جيولوجية في أربع مناطق بحرية.

ووفق مقال للكاتب التركي "كان ديفيجي أوغلو" نشره مركز "أورسام"، لا يقتصر هذا الاتفاق على كونه مشروعا تقنيا يهدف إلى استكشاف الموارد الطبيعية، بل يُجسد نقطة التقاء حيوية بين مساعي ليبيا لإعادة بناء اقتصادها المُنْهك بفعل سنوات الحرب، وطموحات تركيا في ترسيخ حضورها الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط وإفريقيا بما ينسجم مع رؤيتها الإستراتيجية الشاملة في مجال الطاقة.

شراكة إستراتيجية

واستدرك الكاتب التركي: تسعى ليبيا منذ سنوات لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتُعدّ موارد الطاقة حجر الزاوية في هذا المسعى. ومع إعلانها في عام 2024 عن هدفها بزيادة إنتاج النفط إلى مليوني برميل يوميا، أصبح من الواضح أن البلاد لا تركز فقط على زيادة الإنتاج كميا، بل على استخدام هذا الهدف كقاعدة اقتصادية لإعادة الإعمار. 

فإن مستويات الإنتاج الحالية، والتي تبلغ نحو 1.2 مليون برميل يوميا، لا تزال منخفضة مقارنة بفترة ما قبل الحرب، ولا يمكن تحقيق القفزة المنشودة من دون اكتشاف احتياطيات جديدة، خاصة في المناطق البحرية التي لم يُستغل جزء كبير من إمكاناتها بعد.

ويأتي الاتفاق مع مؤسسة البترول التركية في هذا السياق كاستجابة تقنية وعملية لحاجة ليبيا إلى شريك خارجي يتمتع بالقدرة والخبرة اللازمة لدعم إستراتيجيتها الوطنية في مجال الطاقة. كما يشكل خطوة نحو استعادة ثقة المجتمع الدولي وتأكيد جدية ليبيا في المضي قدما نحو الاستقرار والتنمية.

وتابع: بالنسبة لتركيا، يُعدّ هذا الاتفاق امتدادا طبيعيا لسياساتها الطاقوية التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الخارج وتنويع مصادر الإمداد. فقد بدأت تركيا خلال السنوات الأخيرة توسيع أنشطتها الخارجية في مجال الطاقة، بدءا من اكتشافات الغاز في البحر الأسود، مرورا بمشروعات التنقيب في الصومال، وصولا إلى ليبيا التي تشكل حلقة إستراتيجية في هذه السلسلة.

وأضاف: إن الطموح التركي في ترسيخ موقعه في شرق المتوسط تجسد سابقا من خلال مذكرة التفاهم حول مناطق الصلاحية البحرية التي وُقعت مع ليبيا عام 2019. واليوم، تُكمل أنشطة شركة النفط التركية هذا التوجه عبر إجراءات ميدانية تُضفي طابعا واقعيا على الطموحات الجيوسياسية.

وتشير التقديرات إلى أن الأبحاث الزلزالية وأعمال الحفر المرتقبة في المياه الليبية ليست مجرد مساعٍ اقتصادية، بل تحمل أبعادا إستراتيجية قد تعزز من عمق النفوذ التركي في منطقة بالغة الحساسية.

ولفت الكاتب النظر إلى أن أهمية هذه الشراكة تتجاوز حدود العلاقات الثنائية، فهي تدخل أيضا ضمن الرؤية التركية الموسعة للطاقة في القارة الإفريقية؛ إذ يشهد الطلب على الطاقة في إفريقيا نموا متسارعا، ما أعاد تشكيل اهتمام القوى الدولية مثل الصين وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة بمصادر النفط والغاز في القارة.

في هذا السياق، تسعى تركيا إلى فرض نفسها كلاعب فاعل من خلال شراكات تقنية واستثمارية تتيح لها تأمين إمدادات الطاقة وتنويع مسارات سياساتها الخارجية. وبذلك فإن ليبيا، بحكم موقعها الجغرافي ومواردها الكبيرة، تشكّل بوابة مهمة لتركيا نحو إفريقيا، كما تُضفي هذه الشراكة بين البلدين عمقا اقتصاديا على الدور التركي في معادلة شرق المتوسط الجيوسياسية.

تكاليف باهظة

وأردف ديفيجي أوغلو: إن إنتاج الطاقة البحرية يتطلب تقنيات متقدمة واستثمارات ضخمة، خصوصا في دولة مثل ليبيا، والتي عانت من حروب داخلية مزمنة وبنية تحتية متهالكة. 

وتشير التقديرات إلى أن تكلفة عملية حفر بحرية واحدة قد تتراوح بين 60 و120 مليون دولار، بينما قد تصل التكلفة الإجمالية لمشاريع الإنتاج الكامل، بما في ذلك منصات الحفر وخطوط النقل ومحطات المعالجة إلى 5 مليارات دولار. 

ومن غير الواقعي أن تتمكن ليبيا من تغطية هذه التكاليف بمفردها.

من هنا، تُعدّ الشراكة مع شركة النفط التركية خيارا إستراتيجياً لليبيا، وذلك نظرا لما تتمتع به الشركة التركية من خبرة تقنية، ودعم حكومي، وقدرة على التخطيط طويل المدى. كما تُشكل هذه الشراكات إشارة إيجابية للمستثمرين الدوليين، وتُسهم في دمج الحقول الليبية ضمن منظومة الأسواق العالمية للطاقة.

ورغم أن الاتفاق الحالي لا يُحقق مباشرة هدف ليبيا المعلن بإنتاج مليوني برميل يوميا، فإنه يُمثل المرحلة الأولى في سلسلة معقدة تبدأ بالاستكشاف ثم التقييم ولاحقا الاستثمار والإنتاج.

فالأبحاث الجيولوجية التي سيتم تنفيذها قادرة على كشف احتياطيات جديدة وإثبات جدواها الاقتصادية، ما يفتح الطريق أمام استثمارات أكبر ويعزز مكانة ليبيا كمصدر موثوق للنفط والغاز في الأسواق العالمية. كما يُسهم ذلك في رفع كفاءة المؤسسة الوطنية للنفط، ويُعيد بناء صورة ليبيا كدولة قادرة على جذب الشركاء الدوليين.

تحديات تهدد الاستدامة

إنّ كلَّ هذه الطموحات لا يمكن أن تتحقق من فراغ، إذ يواجه قطاع الطاقة الليبي جملة من التحديات البنيوية التي قد تُقوض أي إنجاز مستقبلي. وفي مقدمة هذه التحديات الانقسامات السياسية الحادة بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس ومجلس النواب في بنغازي، وهو ما يُعيق التوافق على آليات تقاسم عائدات النفط والسيطرة على الحقول.

في هذا السياق، تبرز أهمية السياسة التركية التي تقوم على دعم "ليبيا موحدة"، والتي سمحت لأنقرة بالحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف. ومن شأن هذا التوازن أن يوفّر مناخا أكثر ملاءمة لنجاح المشاريع المشتركة، خاصة في القطاعات الحيوية كقطاع الطاقة.

وإلى جانب التحديات السياسية، تُعاني ليبيا من ضعف كبير في البنية التحتية، بدءا من مصافٍ متهالكة وشبكات كهرباء غير منتظمة، وصولا إلى غياب الاستقرار الأمني. وتُشكل سيطرة الميليشيات على بعض المنشآت، واستخدامها كورقة ضغط سياسي، أحد أبرز أسباب تردد المستثمرين الأجانب.

ولهذا، فإن على تركيا أن تتجاوز الدعم الفني إلى المساهمة في تطوير القدرات المؤسسية الليبية، وإصلاح القطاع الأمني، وتحديث البنية التحتية للطاقة.

في المجمل، فإن الاتفاق بين مؤسسة البترول التركية والمؤسسة الوطنية للنفط الليبية لا يُعد مجرد شراكة فنية لاستكشاف موارد الطاقة، بل هو مشروع إستراتيجي متعدد الأبعاد يخدم أهدافا اقتصادية وسياسية لكلا البلدين. 

ففي الوقت الذي تسعى فيه ليبيا لإعادة بناء قطاعها النفطي واستعادة مكانتها العالمية، تجد تركيا في هذه الشراكة فرصة لتعزيز حضورها الإقليمي من خلال دبلوماسية الطاقة.

ومع ذلك، فإن نجاح هذه الشراكة يظل مشروطا بوجود رؤية شاملة تتعامل مع الجوانب الفنية والسياسية والأمنية والقانونية على حد سواء. إذ لا يمكن تحقيق المكاسب الإستراتيجية المنتظرة من البحر، ما لم تُعالج الاختلالات القائمة على اليابسة. وبالتالي، فإن استدامة التعاون الليبي–التركي في قطاع الطاقة تتطلب التزاما طويل الأمد وإرادة سياسية قوية من الجانبين.

الكلمات المفتاحية