حميدتي يظهر من دارفور بعد غياب طويل.. إعادة تموضع أم خطاب في الهواء؟

داود علي | منذ ٧ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في مشهد بدا وكأنه محاولة للرد على سلسلة الانتكاسات، ظهر قائد مليشيا “الدعم السريع”، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وسط حشد من مقاتليه، بعد غياب عن الظهور العلني لأكثر من عامين منذ خطابه الأخير أمام القصر الجمهوري بالخرطوم خلال اندلاع الحرب في يوليو/ تموز 2023.

لكن الظهور في 22 يونيو/ حزيران 2025، والذي تم توثيقه في منطقة خلوية شمال شرق مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور، لم يأت من باب استعراض القوة بقدر ما عكس مأزقا سياسيا وميدانيا تعيشه “الدعم السريع،” في ظل انكساراتها الأخيرة وتآكل جبهتها في كردفان ودارفور. 

خاصة بعد فشل هجومها على مدينة بابنوسة الإستراتيجية غرب كردفان، في 20 يونيو، أي قبل خطاب حميدتي بيومين فقط، حيث منيت بهزيمة ثقيلة علي يد الفرقة “22 مشاة”.

ويرى مراقبون أن حميدتي كان يمني النفس بنصر في بابنوسة يعوض به سلسلة التراجعات، ويستعيد شيئا من الزخم السياسي والميداني. 

إلا أن الفشل العسكري دفعه للظهور المفاجئ في دارفور، بهدف توجيه رسائل متعددة، وبدا مشهد حميدتي في خطابه، وكأنه “يحاول ترميم صورته المتآكلة، والتشبث بما تبقى له من أرض وسلاح وموالين”.

لكن الأسئلة التي تطرح نفسها في الوقت الراهن، أين الدولة التي يزعم حميدتي تمثيلها؟ وأين مشروعه السياسي والعسكري؟

وهل يكفي هذا الظهور المفاجئ في "الجنينة" لإعادة صياغة توازن القوى في الحرب السودانية؟ أم أنه مجرد ارتباك في المشهد الأخير لقائد فقد الكثير من أوراقه؟

رسائل حميدتي

وحرص زعيم الدعم السريع على إرسال مجموعة من الرسائل السياسية والعسكرية، في محاولة واضحة للخروج من حالة العزلة الطويلة، واستعادة صورته كقائد حاضر ومتماسك. 

وبدأ خطابه بإقرار نادر بالخسائر، معترفا بأن مليشياته "فقدت أراضي غالية وأرواحا عزيزة"، قبل أن يعاود تصدير نغمة التحدي، متعهدا بـ"العودة بعزة وكرامة".

ورغم عدم كشفه الصريح عن موقعه، ألمح حميدتي إلى أنه لا يزال داخل الأراضي السودانية، في إشارة ضمنية لوجوده داخل مناطق خاضعة لسيطرته في إقليم دارفور.

وكان هذا التلميح موجها بالدرجة الأولى إلى خصومه ومقاتليه على حد سواء، في وقت كثر فيه الحديث عن غيابه الميداني وشائعات خروجه من البلاد.

لكن الجانب الأبرز في خطابه كان تلك النبرة البراغماتية الجديدة في تعاطيه مع دول الجوار، وعلى رأسها مصر. 

ففي استدارة لافتة، أشار حميدتي إلى أن سيطرة قواته على منطقة "مثلث العوينات" الحدودي مع ليبيا ومصر يجب أن تفهم كإضافة إيجابية، من خلال تأمين طرق التهريب والهجرة، لا كتهديد إقليمي. 

وأكد أنه لا يحمل عداوات لأي من جيران السودان، ملمحا إلى أن الخلافات مع القاهرة تحديدا هي نتاج ما وصفهم بـ"المجرمين"، وأنها قابلة للحل بالحوار المباشر لا عبر التصعيد.

كما حاول طمأنة سكان شمال السودان، بالتأكيد على أن مليشياته "ليست من الناهبين"، وهو تصريح بدا موجها إلى النظام المصري أكثر من كونه تطمينا داخليا، في ظل المخاوف المتزايدة من زحف الدعم السريع نحو مناطق قريبة من الحدود المصرية.

تناقضات حميدتي

ورغم هذه الرسائل الهادئة مع دول الجوار، لم يخل الخطاب من تناقض، فالدعوة للحوار مع القاهرة جاءت في ذات الوقت الذي يتهم فيه حميدتي بالسعي لنشر الفوضى على الحدود عبر تحريك مليشياته شمالا، ما يهدد بإغلاق طرق التجارة ويوقف انسياب السلع باتجاه مصر.

داخليا، سعى حميدتي من خلال ظهوره الأخير إلى إعادة تأكيد هيمنته على قيادة مليشياته، في ظل الانتقادات المتصاعدة لأخيه ونائبه عبد الرحيم دقلو، بعد فشل مفاوضاته مع "تحالف تأسيس" لتشكيل حكومة موازية في مناطق السيطرة. 

وفي خلفية الخطاب، يبدو أن حميدتي لم يكن يخاطب خصومه فقط، بل يحاول أيضا طمأنة داعميه الذين بدأوا يفقدون الثقة، ويواجهون الانقسامات داخل معسكره.

وبهذا الخطاب، بدا حميدتي وكأنه يعيد تموضعه، رجل حرب يصدر نفسه كمبعوث سلام، وقائد مليشيا يسعى لتلميع صورته كزعيم دولة. 

لكن، إلى أي مدى تنجح اللغة الناعمة في إنقاذ واقع يتآكل عسكريا وسياسيا؟ خاصة أن مسألة ظهور حميدتي ثم انزواءه، جعلته محل شك ومسار جدل.

وكان لافتا أن الظهور الأخير الموثق لحميدتي قبل خطابه في الجنينة لم يكن على منصة أو أمام حشد، بل عبر فيديو مسجل بثه في 13 مارس/ آذار 2025؛ حيث أقر فيه لأول مرة بخسارة قواته مواقع إستراتيجية في الخرطوم لصالح الجيش.

في ذلك التسجيل، حاول أيضا طمأنة مليشياته، قائلا: إن خسارة القيادة العامة وسلاح الإشارة في بحري وبلدة الجيلي، وحتى مدينة ود مدني، يجب ألا تضعف معنوياتهم. 

وأفاد بأن قواته لن تخرج من الخرطوم، وأنها قادرة على استعادة هذه المناطق كما فعلت سابقا، على حد تعبيره.

وكان من المثير، كما أوردت وسائل إعلام سودانية وعربية، هو غياب حميدتي العلني التام منذ ذلك التسجيل وحتى ظهوره الأخير، ما أثار تكهنات واسعة آنذاك حول مكان وجوده وحالته. 

وتسبب هذا الغياب آنذاك في هبوط حاد في معنويات مقاتليه، وأدى إلى انسحاب المئات منهم من الخرطوم وعودتهم إلى ديارهم في دارفور، بحسب ما نقل نشطاء ومسؤولون ميدانيون.

خريطة السيطرة 

يذكر أنه منذ إعلان الجيش سيطرته الكاملة على ولاية الخرطوم في 20 مايو/ أيار 2025، بدت خريطة السيطرة العسكرية على امتداد السودان وكأنها تعيد رسم ملامح الصراع بوضوح غير مسبوق.

فالخرطوم، العاصمة الرمزية والسياسية، لم تعد ساحة للمعارك، بل تحولت إلى معقل خالص للجيش، ومعها اتسعت رقعة المناطق التي تقع تحت سيطرته بشكل كامل، لتمتد إلى عشر ولايات تشمل قلب البلاد وشرقها وشمالها.

وبينما فرض الجيش قبضته على ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأزرق والنيل الأبيض، عزز من حضوره في الشرق بسيطرته على كسلا والقضارف والبحر الأحمر، وصولا إلى الشمال حيث باتت ولايتا نهر النيل والشمالية أيضا تحت سيطرته التامة.

هذا التمدد الإستراتيجي قلب موازين الأرض، ودفع بالدعم السريع إلى التراجع غربا، لتجد نفسها محاصرة جغرافيا داخل دارفور وكردفان.

في المقابل، لم يبق أمام مليشيا حميدتي سوى التشبث بإقليم دارفور؛ حيث ما تزال تسيطر بشكل كامل على ولاياته الأربع: شرق وجنوب ووسط وغرب دارفور، مع بقاء مدينة الفاشر، حاضرة شمال دارفور، تحت سيطرة الجيش، رغم استحواذ الدعم السريع على معظم الولاية.

إقليم كردفان، بدوره، بات مسرحا مفتوحا لتقاسم النفوذ بين الطرفين، ففي شمال كردفان، يحكم الجيش سيطرته على مدينة الأبيض، مركز الثقل السكاني والعسكري. 

وذلك إلى جانب مدن رئيسة كأم روابة والرهد وشيكان وأم دم حاج أحمد، بينما تحتفظ الدعم السريع بمواقع في مدن بارا والمزورب وأم سيالة وأم قرفة. 

وفي غرب كردفان، تتوزع السيطرة بين الطرفين بوضوح، الجيش يسيطر على بابنوسة والخوي وهجليج والميرام، بينما تظل النهود والفولة والمجلد وأبو زبد بقبضة الدعم السريع.

أما جنوب كردفان، فقد مالت الكفة فيها لصالح الجيش، الذي يسيطر على نحو 90 بالمئة من مدنها ومناطقها بما فيها كادوقلي، عاصمة الولاية، ومدن الدلنج وأبو جبيهة وهيبان وكوقلي، فيما تظل مدينة الدبيبات الاستثناء الوحيد الذي يرفع راية الدعم السريع.

هذا التحول الجغرافي الواضح، أدى إلى انحسار رقعة المعارك بشكل كامل من ولايات الشمال والشرق والوسط، ليتمركز القتال حاليا في مناطق دارفور وكردفان. 

وهكذا، يتضح أن الحرب، وإن ظلت مستعرة، إلا أنها باتت أكثر تحديدا في مواقعها، وأقرب إلى مرحلة الحسم الميداني؛ حيث يواصل الجيش الزحف في العمق، بينما تسعى الدعم السريع لتثبيت مواقعها فيما تبقى من جغرافيا مضطربة.

خطاب أجوف 

وقال عضو حزب المؤتمر الوطني سابقا، إبراهيم عبد الرازق، إن "خطاب دقلو (حميدتي) الأخير في غرب دارفور لم يكن سوى محاولة يائسة لارتداء عباءة رجل الدولة، بينما الواقع على الأرض يثبت عكس ذلك تماما". 

وأوضح عبد الرازق لـ"الاستقلال"، أن “حميدتي حاول من خلال خطابه الإيحاء بأنه بصدد إعادة تأهيل مجتمعي وتشكيل قوة نظامية جديدة، لكنه في الوقت ذاته انزلق إلى وصف 90 بالمئة من السودانيين بالمجرمين”. 

وأضاف “وهو ما يعكس تناقضا صارخا ومحاولة فاشلة لاستعادة شرعية مفقودة بالكلمات لا بالأفعال”. 

ورأى عبد الرازق أن “حميدتي ومليشياته يريدون احتكار الفضيلة في بلد دمرته هذه العقلية المليشياوية”. وفق تعبيره.

ولفت إلى أن حميدتي “كثف رسائله الخارجية في خطابه، خصوصا تجاه مصر، التي سبق أن اتهمها بقصف قواته عقب هزيمة جبل موية عام 2024، إلا أنه ظهر حاليا بمظهر المسالم الساعي للحوار”. 

وهو ما وصفه عبد الرازق بـ"المناورة البراغماتية المكشوفة"، مشيرا إلى أن "حميدتي يعلم أن مصر تمثل قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، لذا يحاول كسب ودها، خاصة في ظل تصاعد التوتر على الحدود الشمالية".

كما لفت إلى “مغازلة زعيم الجنجويد (الدعم السريع) للاتحاد الأوروبي عبر استحضار ملف مكافحة الهجرة غير الشرعية، وهو الدور الذي سبق أن أداه في صحراء السودان الغربية”. 

لكنه بحسب عبد الرازق "لم يعد ذا قيمة اليوم في ظل تدهور موقعه السياسي واتهام قواته بارتكاب جرائم واسعة النطاق".

ويرى أن "خطاب حميدتي لم يكن منعزلا عن حملات علاقات عامة منظمة، خاصة مع تزامنه مع جولات تحالف "صمود" بقيادة عبد الله حمدوك في إفريقيا، ما يطرح تساؤلات حول وجود تنسيق خلفي بين أطراف متباينة، يسعى كل منها لتسويق نفسه كبديل للسلطة المركزية".

واقع حميدتي

وأوضح السياسي السوداني، أن إدانة حميدتي للهجوم الإيراني على قاعدة العديد في قطر جاءت كمحاولة منه لتقديم نفسه كفاعل دولي مسؤول، رغم أن الدوحة تعد من أبرز الداعمين للحكومة السودانية، وهو ما يظهر ارتباكا في الاصطفاف الإقليمي وعدم امتلاك رؤية إستراتيجية واضحة".

وعن الواقع الداخلي للدعم السريع، قال عبد الرازق: إن "محاولات التجميل الخطابي لا تخفي الانهيار المتزايد في صفوف قوات حميدتي". 

وأشار إلى أن "المقاتلين يشتكون من غياب المرتبات والعلاج، وقد خرج الجرحى في مدينة نيالا بمظاهرات، ينددون بالتمييز المناطقي، ويتحملون تكاليف علاجهم من جيوبهم".

وأكد عبد الرازق أن "هناك حالات هروب جماعي في محاور عدة مثل الدبيبات وجبرة الشيخ وبارا، بسبب الخسائر المتلاحقة والضربات الجوية المركزة من قبل الجيش". 

وأضاف: "حتى المقطع الذي وثق لحظة ختام خطابه كان أشبه بمشهد عبثي؛ حيث انسحب المرتزقة وهم يرددون عبارات تعكس السخط: بصل بصل رااااقد.. قروش عجيبات"، وهي تعبيرات باللهجة المحلية تنم عن السخرية من الأوضاع.

كما أبدى عبد الرازق قلقه من ظهور أطفال بزي عسكري وسط الحشد، معتبرا أن "استمرار تجنيد القصر مؤشر خطير على انعدام الضوابط داخل هذه القوات، فيما أظهرت وجوه الحاضرين مشاعر توتر وحيرة أكثر من الحماسة أو الولاء".

وختم عبد الرازق تصريحه بالتأكيد على أن خطاب حميدتي "لم يكن أكثر من محاولة بائسة لترميم صورة متهالكة"، مضيفا: "الرجل ظهر، لكنه لم يقنع، الهوة بينه وبين الواقع تتسع، والشرعية لا تستعاد بخطاب بل بالفعل". 

ثم تساءل: " بعد كل ما رأينا هل ما زال حميدتي يملك ما يكفي من القوة والسيطرة ليكون جزءا من مستقبل السودان؟ أم أنه يقف على حافة السقوط الأخير؟"، معلقا: "أظن أنه للأخيرة أقرب وأن مشروعه عموما في الرمق الأخير".