الجزائر تطرد 12 دبلوماسيا فرنسيا وباريس تلوح بالرد.. ما القصة؟

منذ يومين

12

طباعة

مشاركة

ما إن بدأت علاقات الجزائر وفرنسا في الانفراج بعد اتصال مباشر بين رئيسي البلدين، عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون نهاية مارس/ آذار 2025، حتى عاد التوتر ليملأ المشهد من جديد، بعد تصعيد دبلوماسي متبادل بين الجانبين.

بداية هذا التوتر تعود إلى 11 أبريل/نيسان 2025؛ حيث أوقفت فرنسا موظفا في القنصلية الجزائرية يُشتبه في تورطه بحسب باريس في خطف المعارض الجزائري أمير بوخرص على الأراضي الفرنسية.

ووجه القضاء الفرنسي اتهامات إلى ثلاثة أشخاص، يعمل أحدهم في القنصلية الجزائرية بفرنسا، للاشتباه في ضلوعهم في اختطاف بوخرص نهاية أبريل/نيسان 2024، والذي طالبت الجزائر بتسليمه مرات عدة لمحاكمته.

طرد دبلوماسيين

وفي اليوم التالي، أي 12 أبريل 2025، استدعت الخارجية الجزائرية سفير باريس، وبلغته احتجاجها الشديد على قرار السلطات القضائية الفرنسية.

وأكد بيان للخارجية أن الجزائر "ترفض رفضا قاطعا، شكلا ومضمونا، الدوافع التي قدمها الادعاء العام الفرنسي المختص بقضايا الإرهاب لتبرير وضع موظفها القنصلي رهن الحبس المؤقت، باتهامه باختطاف المجرم المعروف باسم أمير بوخرص، الملقب بـ(أمير دي زاد)، عام 2024.

وتابع: "تذكر الجزائر أن الموظف القنصلي قد تم توقيفه في الطريق العام، ثم وُضع رهن الحجز دون إخطار مسبق عبر القنوات الدبلوماسية، في خرق صارخ للامتيازات والحصانات المرتبطة بمهامه لدى القنصلية الجزائرية".

وأشار إلى أن الجزائر ترى "أن الحجج المقدّمة من طرف أجهزة الأمن التابعة لوزارة الداخلية الفرنسية أثناء جلسات الاستماع هزيلة وغير مقنعة".

ودعت الجزائر إلى "الإفراج الفوري عن الموظف القنصلي المحتجز"، وطالبت "باحترام كامل للحقوق المرتبطة بمهامه"، مؤكدة أن "هذا المنعطف القضائي، غير المسبوق في تاريخ العلاقات الجزائرية الفرنسية، لا يُعدّ محض صدفة، بل جاء في سياق محدَّد وبدوافع تهدف إلى تقويض مسار إعادة بعث العلاقات الثنائية".

وأشارت إلى أن "هذا التطور المؤسف وغير المناسب يكشف أن بعض الأطراف الفرنسية لا تتقاسم نفس الإرادة السياسية في إعادة إنعاش العلاقات الثنائية".

وختم البيان بتأكيد أن "هذا التطور الجديد، غير المقبول وغير المبرر، سيُلحق ضررا بالغا بالعلاقات الجزائرية الفرنسية، ولن يسهم في التهدئة"، وأن "الجزائر لن تترك هذا الوضع دون تبعات، كما ستسهر بكل حزم على ضمان الحماية الكاملة لموظفها القنصلي المعني".

وأعلنت وزارة الخارجية الجزائرية في 14 أبريل 2025، طرد 12 موظفا تابعين لوزارة الداخلية الفرنسية، ومنحتهم 48 ساعة لمغادرة البلاد ردا على توقيف موظفها القنصلي.

وذكر بيان الخارجية أن الموظفين الـ12 “يعملون جميعا تحت وصاية وزارة الداخلية الفرنسية”.

وأشار إلى أن هذا الإجراء يأتي ردا على ما وصفته بـ"الاعتقال الاستعراضي والتشهيري في الطريق العام" من قبل هيئات تابعة لوزارة الداخلية الفرنسية في حق "موظف قنصلي جزائري" بباريس.

بدورها، أعلنت الرئاسة الفرنسية، في 15 أبريل، أن باريس ستطرد 12 موظفا يعملون في قنصلية الجزائر وسفارتها في فرنسا، بالإضافة إلى استدعاء سفيرها في الجزائر للتشاور.

وقال وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو: إن “السلطات الجزائرية اختارت التصعيد، ونحن نرد على قرارهم غير المبرر وغير المفهوم، فإننا نطرد 12 موظفا جزائريا ونستدعي سفيرنا للتشاور”.

وأضاف في تغريدة عبر منصة "إكس" في 15 أبريل أن "الحوار ليس دوما في اتجاه واحد".

مصالحة هشة

ويرى الكاتب والمحلل السياسي الجزائري محمد مسلم، في مقال تحليلي نشره موقع "الشروق" المحلي في 15 أبريل 2025، أن بوادر المصالحة الهشة بين الجزائر وفرنسا انهارت تماما، وانتكس أمل التقارب الذي كان منذ البداية غير جاد لا سيما من الجانب الفرنسي.

وأرجع مسلم ذلك إلى ما سماه “وجود جيوب مقاومة لهذا التقارب من داخل إدارة ماكرون، قادها وزير الداخلية، برونو روتايو، الذي اتخذ من الملف الجزائري، أداة لتعبيد طريقه نحو رئاسة حزبه اليميني (الجمهوريون)، تحسبا لما هو أكبر وهو السابق من أجل التربع على قصر الإيليزي”.

وقال: إن البيان الذي صدر عن وزارة الخارجية الفرنسية، في 15 أبريل، والذي جدد موقف باريس من قضية الصحراء، ودعمه لمقترح الحكم الذاتي المقدم من المغرب، "يعد آخر مسمار في نعش سياسة ماكرون تجاه الجزائر".

ورأى مسلم أن “فرنسا تدرك أن السبب الرئيس لتوتر علاقاتها مع الجزائر، إنما يرجع إلى موقف ماكرون من القضية الصحراوية، ومع ذلك يتأكد أن باريس لا تريد خفض منسوب استفزازها تجاه الجزائر”.

وذكر أن “زيارة وزير العدل الفرنسي، جيرالد موسى دارمانان إلى الجزائر، التي كانت مقررة مايو/ أيار 2025، باتت أمام مصير مجهول، مثلما غرقت قضية الكاتب الفرانكو جزائري، بوعلام صنصال، في وحل التصعيد الحاصل”.

واسترسل: "حيث تحوَّلت هذه القضية إلى ملف ثانوي في الآونة الأخيرة في أجندة الفرنسيين، ما يؤشر إلى أن هذا الملف كان مجرد ورقة لاستفزاز الجزائر فقط، بصفته ليس مواطنا فرنسيا من الدرجة الثانية".

من جانبه، قال الصحفي المختص في الشأن السياسي، محمد قادري، إن “تناقض التصريحات الفرنسية بشأن الأزمة، لأنها لم تعد قادرة على التحدث بصوت واحد، ولا تملك سياسة خارجية رشيدة تجاه الجزائر وحتى ملفات أخرى”.

وأوضح قادري في مقال نشره موقع "الجزائر الآن"، في 16 أبريل 2025، ما يبين هذا التناقض، أن الرئيس الفرنسي قرّر التصعيد، ووزير خارجية غيّر خطابه خلال 24 ساعة، ووزير عدل يلهب الأزمة بتصريحات استعمارية.

واسترسل، "في مقابل ذلك، تردّ الجزائر بهدوء وثبات، لا تنجرّ إلى المهاترات، ولا تستسلم للابتزاز، بل تفرض معادلة جديدة: الاحترام مقابل العلاقة، والسيادة مقابل الشراكة".

وشدد قادري على أن "فرنسا لم تُخفِ يوما عداءها، لكن ما لم تستوعبه بعد، هو أنّ الجزائر تغيّرت.. أما باريس، فلا تزال تراوح مكانها، تتخبّط في مواقفها، وتفشل في فهم أن زمن الإملاءات قد انتهى وأن اللغة الوحيدة التي تنفع البلدان هي لغة المصالح المتبادلة لا مصلحة بلد على حساب آخر".

أزمة ثقة

وقالت الباحثة الفرنسية في العلوم السياسية، خديجة محسن فنان: إن قرار الجزائر طرد 12 موظفا من القنصلية الفرنسية "يعكس وجود أزمة ثقة متفاقمة بين البلدين".

وأوضحت فنان لوكالة "الأناضول" التركية في 17 أبريل 2025، أن جذور الأزمة “أعمق من مجرد حادث دبلوماسي”. 

وأشارت إلى أن “العلاقات بين البلدين لم تتعافَ تماما منذ استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، وأنها ما زالت تتأثر بثقل التاريخ الاستعماري، خاصة في قضايا مثل حرية التنقل والذاكرة التاريخية”.

وأضافت: "بينما تحاول الجزائر إبقاء ملف الاستعمار حيا كجزء من هويتها الوطنية، تفضل فرنسا الصمت حول ماضيها الاستعماري".

وأوضحت أن التوتر الأخير سبقه توتر آخر في يوليو/تموز 2024، حين أعلنت باريس دعمها خطة المغرب بشأن الحكم الذاتي بإقليم الصحراء، ما دفع الجزائر إلى سحب سفيرها من باريس.

كما انتقدت فنان بعض التصريحات الصادرة عن مسؤولين فرنسيين، والتي “تخاطب الجزائر بذهنية استعمارية وتتعامل معها كدولة خاضعة”، مشيرة إلى أن هذا النوع من الخطاب “يزيد من تعقيد العلاقات ويغذي انعدام الثقة”.

وترى الباحثة أن “الأزمة الحالية قد تكون نتيجة صراع داخل الدولة الفرنسية نفسها، بين توجه دبلوماسي يسعى للتقارب وخطاب أمني وسياسي يُعيد العلاقات إلى مربع التوتر”.

فيما قالت مجلة "جون أفريك" الفرنسية: إن العلاقات الفرنسية- الجزائرية “تشبه قطار الملاهي، تتأرجح بسرعة من أقصى إلى أقصى”.

وأشارت إلى أنه “في 6 أبريل 2025، وفي ختام زيارة خاطفة إلى الجزائر لوزير الخارجية الفرنسي جان- نويل بارو، أعلن البلدان عن إنهاء أزمة خطيرة دامت أكثر من ثمانية أشهر، واتفقا على خارطة طريق لإعادة إطلاق التعاون الثنائي”.

واستدركت: "لكن في 16 أبريل، تم الابتعاد كثيرا عن خارطة الطريق التي كان من المفترض أن تضع حدا لتوتر بينهما، بل إن العلاقات بين البلدين دخلت في دورة جديدة من الاضطرابات، ولا أحد يعلم كيف سيتمكن الطرفان من تجاوزها ومحاولة ترميم ما تآكل من روابطهما".

وأوضحت المجلة أن "استدعاء السفير وطرد الدبلوماسيين، يدل على أن العلاقات الفرنسية الجزائرية دخلت في أزمة جديدة، تختلف عن الأزمات الدورية التي عرفتها هذه العلاقة".

ونبَّهت المجلة إلى أن “هذا الأمر يُعدّ سابقة في العلاقات بين البلدين خلال العقود الأربعة الماضية؛ حيث إنها المرة الأولى التي تستدعي فيها الرئاسة الفرنسية سفيرها في الجزائر للتعبير عن استيائها”.

وأردفت “صحيح أنه من المبكر الحكم على مدة هذا الغياب أو موعد عودة سفير باريس إلى منصبه، فإن مجرد استدعائه يُعدّ مؤشرا على أن الأزمة مرشحة للاستمرار”.

ومضت "جون أفريك" قائلة: إنه “في كل موجة توتر، وفي كل خلاف أو قطيعة، تتآكل الثقة بين البلدين، وتتشقق الروابط أكثر، وتبتعد قنوات التواصل، إلى حد أن الحوار ينقطع على جميع المستويات تقريبا”.

وأردفت: "فكل دورة أزمة تضيف مزيدا من التعقيد، وكل تعليق للحوار يزيد الطين بلّة، إلى درجة أن هناك من يدعو، من الجانبين، إلى قطع العلاقات تماما".

واليوم، تقول المجلة: "تبين بعد مكالمة الرئيس الفرنسي والجزائري في 31 مارس/آذار 2025، أن مجرد اتصال هاتفي جديد بين ماكرون وتبون لن يكون كافيا لتخفيف التوترات أو إطلاق مسار خفض التصعيد، الذي يبدو بعيد المنال".

أما صحيفة "لوموند" الفرنسية، فذكرت في تحليل بتاريخ 16 أبريل 2025، أن العلاقات الفرنسية الجزائرية تقلصت إلى أدنى حد لها؛ حيث لم تشهد العلاقات مثل هذا التدهور منذ عام 1962.

وأردفت: "وهو ما يشكل أحد أعراض الفجوة النفسية بين عاصمتين لم تعد تتفاهمان. وفي غضون ثمانٍ وأربعين ساعة، قامت باريس والجزائر بطرد أربعة وعشرين من وكلائهم الدبلوماسيين والقنصليين، اثني عشر من كل جانب".

وتوقعت الصحيفة أن "تدخل العلاقات الثنائية في حالة طويلة من السُّبات، وهو شرط أساسي لإعادة تقييم العلاقات بين البلدين بشكل مضمون".

ونقلت الصحيفة تصريحات لأمير بوخرص قال فيها: إن محاولة اختطافه من باريس كانت مدبرة بهدف ترهيبه وإثنائه عن مواصلة كشفه عن فساد بعض دوائر النظام الجزائري.

وأوضحت أن التحقيق الذي أجرته الشرطة في هذه القضية ربيع عام 2024 تقدم بصعوبة في البداية، حتى تسارع في فبراير/شباط 2025 عندما أحال مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب الأمر إلى اللواء الجنائي.

وأشارت إلى أن التحقيق القضائي الذي فتح في 11 أبريل 2025 أفضى في اليوم التالي إلى توجيه الاتهام والاحتجاز المؤقت لثلاثة أشخاص، من بينهم وكيل القنصلية الجزائرية في مدينة كريتاي.

تقدير موقف

ويرى الكاتب والمحلل السياسي آدم شعبان، أن محاولات تبريد العلاقات الجزائرية الفرنسية لم تصمد طويلا؛ حيث أطاحت حادثة توقيف الدبلوماسي الجزائري بالانفراج الذي بدأت تباشيره قبل أسابيع فقط.

وأضاف شعبان لـ"الاستقلال"، أنه “تم استئناف حرب الطرد المتبادل بين البلدين، وتعود معها لغة التصعيد والاتهام، معززة المخاوف من بلوغ العلاقات المعقدة أصلا، مرحلة القطيعة”.

وأوضح أن التطورات المتسارعة في علاقات البلدين “تأتي بعد الاتفاق الثنائي على خارطة طريق شملت استئناف الزيارات الحكومية، وتعزيز التعاون في ملفات الهجرة والمبادلات الاقتصادية والتنسيق الأمني”.

وذكر شعبان أن التصريحات الرسمية الجزائرية “تُظهر أن الغضب لا يقتصر على الحادثة الأمنية الأخيرة، بل يتّسع إلى ملفات متشابكة، في وقت وضعت فيه الحكومة الجزائرية هذه الخطوة ضمن مسلسل من الممارسات العدائية الفرنسية”.

وأردف: "والتي تشمل السماح بنشاط منشقّين، بالإضافة إلى التحالف مع غريمها، المغرب، والتخلّي عن سياسة التوازن التي سارت عليها الحكومات الفرنسية في قضية الصحراء".

واسترسل: "وإلى جانب ذلك، يبرز تنامي قيود الهجرة التي تستهدف الرعايا الجزائريين، وسط إفراغ اتفاقية الهجرة لعام 1968 من مضمونها، والتي تمنح الرعايا الجزائريين امتيازات في الإقامة، فضلا عن حرمان عدد من المسؤولين السابقين، ممّن يحملون جوازات سفر دبلوماسية، وعائلاتهم، من دخول الأراضي الفرنسية".

وقال شعبان: إن "الجزائر كانت قد ضغطت، دون جدوى، لإبعاد وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، عن أيّ دور في إدارة ملف العلاقات الثنائية، على خلفية مواقفه المعادية للمصالح الجزائرية".

وأردف "غير أن ماكرون رفض الأمر، خشية إضعاف حكومته الهشّة، في ظلّ تحالفه مع اليمين التقليدي (حزب وزير الداخلية) الذي يُعدّ طرفا رئيسا في تحالف يمين الوسط الحاكم في فرنسا".

ورأى المحلل السياسي أنه “ورغم ما يجري، من المستبعد أن يمضي البلدان في خطوات تصعيد إضافية، ولا سيما الجانب الجزائري الذي يجد نفسه محاصرا بسياقات إقليمية ودولية غير مواتية، وسط تردّي العلاقات مع شركاء، من مثل روسيا وتحالف دول الساحل”.

وتابع: “وأيضا وسط غموض موقف الإدارة الأميركية الجديدة من الجزائر، مع إشارات غير مطمئنة، بدأت بفرض رسوم جمركية مرتفعة على الصادرات الجزائرية، ومنْحها مهلة لأطراف النزاع للتفاوض حول تسوية نزاع الصحراء الغربية وفق خطة الحكم الذاتي المغربية”.