مصفاة الجيلي نموذجا.. لماذا يدمر "الدعم السريع" مشاريع السودان الكبرى؟
"مصفاة الجيلي العمود الفقري للاقتصاد السوداني"
في فصل مأساوي جديد من فصول الأزمة السودانية المستمرة بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، تعرضت مصفاة الجيلي، أكبر منشأة لتكرير النفط في البلاد، لدمار واسع في 15 يناير/ كانون الثاني 2025.
واتهم الجيش السوداني، في بيان الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” بإحراق مصفاة الخرطوم لتكرير النفط في منطقة الجيلي شمال العاصمة.
وقال الجيش: "إن قوات الدعم السريع تحاول تدمير البنية التحتية للبلاد بعد يأسها من الاستيلاء على مقدرات البلاد".
وتمثل مصفاة "الجيلي" رافدا حيويا للاقتصاد السوداني؛ إذ تزود السودان بمعظم احتياجاته من الوقود، وهو ما يجعل استهدافها ضربة قاسية للبنية التحتية ولحياة المواطنين، الذين يواجهون بالفعل أزمة مأساوية منذ بداية الحرب.
والهجوم على "الجيلي" يمثل أيضا تحولا في طبيعة الصراع الداخلي؛ حيث لم تعد الأضرار تقتصر على الأهداف العسكرية، بل امتدت لتضرب العمود الفقري للاقتصاد الوطني.
وتثير هذه الحادثة تساؤلات حول دوافع قوات الدعم السريع وراء استهداف منشأة بهذا الحجم، وعن ضربهم لمشروعات وطنية من قبل مثل مشروع الجزيرة الزراعي بولاية الجزيرة.
فهل الهدف هو جزء من إستراتيجية مرسومة لتقويض الدولة وإثارة الفوضى؟ وذلك في أعقاب الهزائم التي لحقت بهم في عدد من المناطق المحورية، آخرها مدينة "ود مدني".
يشار إلى أن جبهات القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع كانت تتركز في الأجزاء الشرقية من الخرطوم بحري، غير أن الجيش السوداني ركز في الأيام الأخيرة قصفه على المناطق الغربية من المدينة.
ويخوض الجيش والدعم السريع حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 14 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدر بحث لجامعات أميركية عدد القتلى بنحو 130 ألفا.
ما مصفاة الجيلي؟
مصفاة الجيلي هي نفسها مصفاة الخرطوم الشهيرة في السودان، وسميت بـ"الجيلي"؛ لأنها تقع بمنطقة الجيلي، على بعد 70 كيلومترا شمال الخرطوم بحري.
وافتتحت رسميا عام 1997، لكن بدأت عملياتها خلال عام 2000، وكانت تعد واحدة من أهم إنجازات نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير.
والجيلي مملوكة بنسبة 50 بالمئة من قبل وزارة الطاقة والتعدين التابعة للحكومة السودانية (MEM)، و50 بالمئة لشركة البترول الوطنية الصينية (CNPC).
والجيلي أهم منشأة نفطية وأكبر مصفاة لتكرير البترول في السودان، ويتم تصدير الفائض منها عبر ميناء بشائر على ساحل البحر الأحمر.
كما ترتبط بآبار النفط في ولايات غرب وجنوب كردفان، ويغطي إنتاج المصفاة نحو 60 بالمئة من احتياجات السودان من البنزين، وقرابة 48 بالمئة من احتياجات الجازولين أو "الديزل"، و50 بالمئة من احتياجات غاز الطهي.
حيث تنتج المصفاة في الظروف الطبيعية نحو 10 آلاف طن من الجازولين و4500 طن بنزين و800 ألف طن من غاز الطهي.
وإن كانت المصفاة تعمل بأقل من طاقتها القصوى والبالغة 100 ألف برميل في اليوم، فتوفر 45 بالمئة من احتياجات البلاد من المنتجات النفطية.
والتي تعد الوقود الحيوي والمحرك الأساسي لقطاعات الزراعة، الصناعة، توليد الكهرباء، النقل والمخابز.
إضافة إلى ذلك، فإن للجيلي أهمية كبرى في تغذية مصنع البتروكيماويات الملحق بالمصفاة، بالغازات البترولية لإنتاج حبيبات البلاستيك.
تلك التي ترفد الصناعات البلاستيكية بالبلاد بالمادة الخام وترتبط بآبار النفط في الولايات الأخرى.
وبحسب جريدة "الشعب" السودانية، في 23 يناير 2025، فإن تقييم المصفاة بتكلفة اليوم لا تقل عن 7 مليارات دولار.
وكانت تكلفتها عند توقيع عقدها في حدود المليار دولار، وكان إنتاج المرحلة الأولى 100 ألف برميل في اليوم، وتكلفتها قدرت بـ 650 مليون دولار .
أما المرحلة الثانية فبلغ إنتاجها 50 ألف برميل في اليوم وتكلفتها قدرت بـ 350 مليون دولار.
وقد سيطرت قوات الدعم السريع على المصفاة منذ الأيام الأولى للحرب، عندما كانت ضمن القوة التي تحرسها، وكان بالمصفاة عدد محدود من الجنود، تم الغدر بهم من قبل الدعم السريع.
ومع ذلك، فإن الإنتاج توقف في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد تراجع إنتاج الخام، وإيقاف القوات ضخ المشتقات عبر الأنابيب إلى ولاية الجزيرة وبورتسودان في ولاية البحر الأحمر بتقدير أن الحكومة هي المستفيدة من ذلك.
لماذا دمروا المصفاة؟
هنا يأتي السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا أقدمت مليشيا الدعم السريع على تدمير منشأة بهذه الأهمية؟
ذكرت مواقع محلية سودانية مثل "سودانيون" و"سودان تربيون" أن سبب تدمير الجيلي، يرجع إلى أن المصفاة منحت قوات الدعم السريع ميزة لوجستية هائلة.
حيث استغلت المرافق المحصنة ومخازن للأسلحة وقواعد للإمداد والتموين، وأنشأت منظومة اتصال وسيطرة، ونصبت مرصد مراقبة ومنصة لإطلاق الطائرات المسيرة نحو ولاية نهر النيل المتاخمة لها.
كما أن المنطقة المحيطة بالمصفاة لها أهمية جغرافية، حيث تشمل منطقة قري الحرة، والتصنيع الحربي، وقاعدة هيئة العمليات للتدريب التابعة لجهاز المخابرات، ومحطة قرى الغازية لتوليد الكهرباء، بجانب تلال جبلية.
لهذا السبب أرادت القوات المتمردة أن تحرم الجيش السوداني، الذي يخوض معارك متقدمة معهم من هذه المزايا.
وفي 23 يناير، أعلنت وزارة الخارجية السودانية في بيان لها أن "الجريمة الشنيعة التي ارتكبتها المليشيا، بإحراق مصفاة الخرطوم، تأتي بعد أن أيقنت أنها لن تقوى على البقاء فيها في ظل إحكام القوات المسلحة والقوات المساندة الحصار عليها، بعد أن تجاوزت حقول الألغام الهائلة التي زرعتها المليشيا حول المصفاة".
وأكملت: "هذه الجريمة الرعناء إضافة لكونها تعبيرا عن حالة اليأس والهزيمة التي تسيطر على المليشيا، هي جريمة حرب واضحة المعالم وأحد أسوأ ضروب الإرهاب".
واختتمت: "كما أنها تأكيد على أن المليشيا تستهدف بشكل منهجي مقصود ركائزَ التنمية والخدمات الأساسية والحياة العصرية في البلاد".
سيطرة الجيش
وفي 25 يناير 2025، قام رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، بزيارة تفقدية لمصفاة الجيلي.
وذلك بعد أن أعلن الجيش في وقت سابق استعادة السيطرة الكاملة عليها، بعد معارك شرسة مع قوات الدعم السريع استمرت عدة أيام.
وأعلن البرهان، خلال زيارته "أنه سيعمل على إعادة إعمار ما دمرته المليشيا؛ حتى تعود المصفاة للعمل بصورة طبيعية كأحد الموارد الاقتصادية الهامة في الدولة".
وشدد على أن "ما اقترفته يد المليشيا من دمار وتخريب لهذه المنشأة الوطنية لن يمر دون حساب".
وتابع: "عهدنا مع الشعب أن نستمر في دحر هذا التمرد حتى تطهير آخر شبر دنسته مليشيا آل دقلو (يقصد محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي) الإجرامية".
تحول مهم
وفي 26 يناير 2025، صرح الخبير العسكري السوداني العميد المتقاعد جمال الشهيد، لقناة "الحدث" السعودية، "أن سيطرة القوات المسلحة على الجيلي، انتصار عسكري واقتصادي مهم".
وتابع: "المصفاة كانت تستغلها قوات الدعم السريع لإمداد مركباتها القتالية في ولاية الخرطوم ثم ولايتي الجزيرة وسنار، بجانب بيع المحروقات للمواطنين، وحتى بعد توقفها عن الإنتاج لوجود مستودعات ضخمة كانت معبأة بالمشتقات مما وفر لها موارد مالية كبيرة".
وقال العسكري السوداني: "إن السيطرة على المصفاة لا يعني مجرد تحرير منشأة اقتصادية، بل تحول عسكري يؤمّن ولاية نهر النيل المتاخمة للمنطقة من أي تهديد محتمل بعدما كانت القوات المتمردة تنتشر في قرى بالولاية في محيط منطقة المصفاة، وتحرمها من نقطة ارتكاز لوجستية مهمة".
وأكمل: "أن هذا التحول المهم، جاء بالتزامن مع التحام قوات أم درمان مع سلاح الإشارة في الخرطوم بحري ومقر القيادة العامة للجيش في وسط الخرطوم، مما يعجل بتحرير أغلب مناطق العاصمة خلال فترة وجيزة بعد تقطيع أوصال قوات الدعم السريع وعزلها في جيوب صغيرة محاصرة".