تشاد تطرد القوات الفرنسية والسنغال على خطاها.. كيف ينعكس ذلك على باريس؟

منذ ٥ أيام

12

طباعة

مشاركة

تواصل الدول الإفريقية تضييق الخناق على الوجود الفرنسي لديها، ومن ذلك قرارات جديدة صادرة عن تشاد والسنغال، مما يعكس توجها إفريقيا مناهضا لباريس ينتشر في القارة.

إذ أعلن وزير الخارجية التشادي عبد الرحمن كلام الله، أن بلاده ألغت اتفاقيات التعاون الأمني والدفاعي مع فرنسا، بعد ساعات قليلة على زيارة نظيره الفرنسي جان-نويل بارو لنجامينا.

وقال كلام الله، في بيان نشرته وزارته على صفحتها بموقع فيسبوك، 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، إن "حكومة تشاد تبلغ الرأي العام الوطني والدولي بقرارها إلغاء اتفاقية التعاون الدفاعي الموقعة مع الجمهورية الفرنسية".

ويتمركز نحو ألف جندي فرنسي في تشاد التي يحكمها الجنرال محمد إدريس ديبي منذ عام 2021، وهي واحدة من حلفاء فرنسا التاريخيين بإفريقيا.

ويأتي القرار التشادي، بعد أن طالبت كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر، فرنسا بسحب قواتها منها.

 ووصل الأمر أحيانا لقطع العلاقات الدبلوماسية، كما حدث بين النيجر وفرنسا، وذلك عقب تولي قيادات جديدة الحكم فيها.

تحرك سنغالي

في الاتجاه نفسه، أعلن الرئيس السنغالي باسيرو ديوماي فاي في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية، 28 نوفمبر 2024، أن فرنسا ستضطر إلى إغلاق قواعدها العسكرية في السنغال، قائلا إن وجودها يتعارض مع سيادة بلاده.

وأضاف فاي في المقابلة التي أجريت في القصر الرئاسي: "السنغال دولة مستقلة ذات سيادة، والسيادة لا تتفق مع وجود قواعد عسكرية (أجنبية) فيها".

وفاي الذي تولى منصبه في أبريل/نيسان 2024 بعد أن فاز في الانتخابات رافعا لواء السيادة وإنهاء الاعتماد على الخارج، أكد أن رفضه الوجود العسكري الفرنسي في بلاده لا يعني "قطيعة" بين دكار وباريس.

وأكد أنه تلقى من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون رسالة تعترف فيها باريس بمسؤوليتها عن "مجزرة" ارتكبتها قواتها الاستعمارية في ثياروي قرب دكار، في الأول من ديسمبر/كانون الأول 1944.

وأكد فاي مجددا رغبته في تنويع شركاء بلاده التي تسعى إلى أن تطور نفسها وتبقى محاورا لأكبر عدد من الدول، في وقت انفصلت دول في منطقة الساحل عن فرنسا فجأة وتحولت نحو روسيا.

وقال فاي "تظل فرنسا شريكا مهما للسنغال من ناحية الاستثمارات ووجود الشركات الفرنسية، وحتى المواطنين الفرنسيين الموجودين في السنغال".

لكن بعد مرور 64 سنة على استقلال السنغال عن فرنسا، يضيف فاي، "يتعين على باريس أن تفكر في إقامة شراكة مجردة من الوجود العسكري".

وبين أنها يجب أن تكون "شراكة غنية ومثمرة ومميزة وشاملة، كتلك التي تربطنا مع كثير من الدول الأخرى".

ونبه إلى أن بلاده تربطها علاقات وطيدة مع دول عدة مثل الصين وتركيا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، وكلها ليست لديها أي قواعد عسكرية في السنغال.

وأضاف "الصين اليوم هي شريكنا التجاري الأول من حيث حجم الاستثمارات والتجارة، هل لها وجود عسكري في السنغال؟ كلا، هل نتحدث عن قطيعة؟"، يتساءل الرئيس السنغالي.

وتحدث فاي عن تحديث مرتقب لعقيدة التعاون العسكري، مشددا أن هذا "يعني بوضوح أنه لن تكون هناك قواعد عسكرية في السنغال لأي بلد كان".

نكوص فرنسي

ووصف عضو البرلمان الأوروبي تييري مارياني، قرار تشاد والسنغال، بأنه "كارثة سياسية للخارجية الفرنسية".

وأشار مارياني في حديث لوكالة الأنباء الروسية نوفوستي، 20 ديسمبر 2024، إلى أن فرنسا فقدت خلال سبع سنوات من رئاسة إيمانويل ماكرون كل نفوذها في إفريقيا.

وأضاف: "ما حدث لعلاقة فرنسا مع تشاد مأساوي، لقد انتهت صداقة استمرت 50 عاما، وينطبق نفس الأمر على السنغال".

وأردف: "ماكرون يتحمل مسؤولية ذلك، لقد أظهر باستمرار ازدرائه للزعماء الأفارقة - وهو نفس الاحتقار الذي يظهره للفرنسيين".

واسترسل: "تلاشت السياسة الفرنسية في إفريقيا، التي بناها لفترة طويلة شارل ديغول وجورج بومبيدو وجاك شيراك (زعماء فرنسيون سابقون)، فلم يتبق لدينا سوى دولة أو دولتين على الأكثر نقيم علاقات قوية معهم".

وأشار مارياني إلى الحادث الذي وقع خلال القمة الفرنكوفونية التي نظمتها فرنسا في أكتوبر/تشرين أول 2024، عندما رفض رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي عقد اجتماع مغلق بين الزعماء والرئيس ماكرون.

وتابع: "غادر الزعيم الإفريقي باريس لأن ماكرون، لم يذكر في خطاب افتتاح القمة، الصراع المسلح في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، أول دولة ناطقة بالفرنسية في إفريقيا".

وقال البرلماني الأوروبي: "ماكرون يسافر حول العالم ويلتقط الصور، في وقت تكون فيه فرنسا غارقة في الفوضى وتفقد كل نفوذها الدولي، حيث يتم طردها من إفريقيا وتشغل مكانها بعض الدول الأخرى".

ورأى مارياني أنه لم يجلب أحد الضرر لفرنسا خلال السنوات الأربعين الماضية مثلما فعل ماكرون، مسترسلا: "إذا كان يريد أن يقدم معروفا للبلاد فعليه أن يستقيل في أقرب وقت ممكن".

أكثر هشاشة

من جانبها، كتبت مجلة "لوبوان" الفرنسية في 29 نوفمبر 2024، مقالا حول ما تعانيه باريس جراء هذه التطورات السياسية بعنوان "رحيل الجيش الفرنسي من تشاد والسنغال: فرنسا أكثر هشاشة من أي وقت مضى".

وقال المقال، إنه "عمليا، أصبحت فرنسا ضعيفة وهشة في القارة السمراء. فقد أقدمت ثلاث دول ما بين 2020 و2023 على تحجيم الدور الفرنسي، ثم طرد قوات هذا البلد الأوروبي من أراضيها وهي مالي والنيجر وبوركينا فاسو".

واسترسلت المجلة: "جاءت هذه القرارات بعد الانقلابات العسكرية التي شهدتها هذه الدول، حيث انضمت تشاد إلى البلدان الثلاثة ضمن ما يتم تصنيفه بدول الساحل الإفريقي، ولحقت السنغال كدولة من إفريقيا الغربية بهذه الموجة".

وشدد المصدر ذاته أن "هذه التطورات تعد منعطفا حقيقيا في علاقة القارة السمراء بفرنسا التي كانت إلى جانب بريطانيا قوة كولونيالية رئيسة".

وتحمل هذه التطورات، انعكاسات سلبية على النفوذ الفرنسي للأسباب متعددة، منها أنها تحدث في وقت تتنافس فيه الدول الكبرى والمتوسطة على الوجود في القارة الإفريقية ومنها منطقة الساحل، وأبرزها روسيا والصين وتركيا.

والسبب الثاني، بحسب المقال، أن "الرؤية الجديدة السائدة تتلخص من جهة في أن فرنسا هي المسؤولة بقدر كبير عن تخلف وفقر هذه الدول وشعوبها بسبب تدخلها في الشؤون الداخلية لها وكذلك نهب ثرواتها".

ومن جهة أخرى أن باريس تورطت رفقة الغرب في تحريك الحركات الإرهابية لتعد ذلك مبررا لبقائها في المنطقة تحت عنوان "مواجهة الإرهاب". 

وكانت مالي قد شككت علانية في دور ما لباريس في تحريك هذه الجماعات.

وقالت المجلة إن هذه التطورات تتزامن مع قرار فرنسا خلال يونيو/حزيران 2024، إنشاء قيادة عسكرية خاصة بإفريقيا على شاكلة "أفريكوم" وهي القوات الأميركية الخاصة بهذه القارة.

لكنها الآن تتفاجأ بقرار السنغال الذي يشكل ضربة لمشروع القيادة العسكرية الفرنسية في إفريقيا.

ومن الأسباب أيضا، أن هذه الدول أصبحت تتفادى الدخول في صراعات ثنائية وإقليمية بين بعضها البعض، وتسعى إلى التكتل والتكامل على مختلف المستويات ومنها الأمني والعسكري لكي تفوت على القوى الاستعمارية العودة للتدخل في شؤونها الداخلية.

وقالت المجلة إنه في هذا الصدد، كانت الدول الثلاث وهي مالي والنيجر وبوركينا فاسو قد أعلنت في 6 يوليو/تموز 2024 تأسيس كونفدرالية ثلاثية في نيامي تحمل اسم "كونفدرالية دول الساحل".

رغبة فرنسية

وتزامنا مع قرار تشاد والسنغال، كشف تقرير سلمه مبعوث فرنسي من ماكرون، عن مقترحات بشأن كيفية خفض فرنسا وجودها العسكري في غرب إفريقيا ووسطها.

ونقل موقع "مونتي كارلو الدولية"، 30 نوفمبر 2024، عن مصدرين أن التقرير -الذي لم تنشر تفاصيله- يتضمن مقترحات عن كيفية خفض فرنسا وجودها العسكري في تشاد والغابون وساحل العاج حيث تنتشر قوات لها منذ عقود.

ويقول المصدران إن الخطة الفرنسية تقوم على خفض عدد القوات إلى 600 من نحو 2200 الآن، وإن تشاد ستحتفظ بأكبر عدد بواقع 300 نزولا من ألف.

ويأتي قرار فرنسا مراجعة وجودها في غرب إفريقيا بعدما اضطر جنودها للانسحاب من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، عقب انقلابات عسكرية في الدول الثلاث وانتشار المشاعر المناهضة لفرنسا.

وقال الموقع إن تلك أيضا إحدى التبعات لتحويل باريس مزيدا من اهتمامها إلى أوروبا وسط الحرب في أوكرانيا وتزايد القيود على الميزانية.

وذكر المصدران أن المراجعة تحمل تصورا بأن يركز الجنود الفرنسيون في المنطقة على التدريب وتبادل معلومات المخابرات والاستجابة لطلبات الدول من أجل المساعدة، بناء على احتياجاتهم.

وشددا على أن تشاد لم تناقش مع فرنسا من قبل، تحركها لإنهاء اتفاق التعاون معها، لذا باغتها القرار، في حين لم تصدر باريس بعد أي تعليق علني.

وتريد فرنسا الحفاظ على وجودها في تشاد لأسباب منها عملها على المساعدة في تخفيف واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية العالمية في السودان، وفق الفرنسيين.

وقال أحد المصدرين، وهو مسؤول فرنسي مطلع على شؤون تشاد، إن حكومة الأخيرة تعد فيما يبدو قرار فرنسا خفض وجودها العسكري بأكثر من النصف هناك استخفافا بها.

وأضاف المصدر أن تشاد تشعر أيضا أن الفرنسيين لم يعودوا في موقع يسمح لهم بضمان أمن النظام العسكري الذي يقوده محمد إدريس ديبي.

ويأتي الانسحاب الفرنسي والأميركي من إفريقيا مع تزايد نفوذ روسيا ودول أخرى، في القارة، حيث يسهم مرتزقة روس في دعم الحكومات العسكرية في النيجر ومالي وبوركينا فاسو، بالإضافة إلى مساعدتهم في قتال من تصفهم بالمتشددين.

لكن مسؤولين فرنسيين قللوا وفق المصدر، من قدرة روسيا على استغلال تراجع دور فرنسا في تشاد، على الأقل في الأمد القصير.

فشل واضح

غير أن الصحفي الفرنسي نيكولا تيلارد، يرى أن بلاده تفاجأت بتزامن قرار كل من تشاد والسنغال، وإن جاءا في سيناريوهين مختلفين.

وأضاف تيلارد في مقال رأي نشره عبر "راديو فرنسا"، 29 نوفمبر 2024، "وكذلك تفاجأت فرنسا بالمصطلحات المستخدمة، التي تصر على الدفاع عن السيادة في مواجهة الوجود الفرنسي الذي يعد غازيا، حيث تبتعد الدولتان بشكل تدريجي عن باريس".

وقال الكاتب إن هذين الإعلانين شكلا جزءا من استمرارية التساؤل العميق حول الوجود الفرنسي في غرب إفريقيا، حيث يشجع ماضيها الاستعماري القوى الجديدة، العسكرية أو الديمقراطية، على تبادل فكرة طي الصفحة الفرنسية.

وأضاف: "بعد أن طردت الطغمة العسكرية الحاكمة فرنسا من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ترى باريس أن وجودها العسكري قد انخفض إلى الحد الأدنى، في منطقة حشدت فيها آلاف الرجال لمواجهة التهديد الجهادي"، وفق وصفه.

ورأى تيلارد أنه "يتعين على باريس أن تتعامل مع صورتها المتضررة، التي يغذيها جزء من المعلومات المضللة على شبكات التواصل الاجتماعي، ومع المنافسة الجديدة، خاصة من روسيا والصين".

بدوره، وصف موقع "humanite" الفرنسي ما تعرضت له باريس بأنه "ازدراء إفريقي مزدوج خاصة وأنه يأتي بعد ساعات قليلة من زيارة وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، إلى نجامينا".

وذكر الموقع أن عمليات الانتشار العسكري هذه شكلت العمود الفقري للسياسة الاستعمارية الجديدة التي اتبعتها باريس لعقود من الزمن في إفريقيا، بعد الاستقلال.

وأضاف: "الحقيقة هي أن الحضور الفرنسي في القارة مستمر في التقلص"، مشددا أن "التعبير عن الهيمنة على أسس سياسية أو اقتصادية أو ثقافية تتخللها شبكة مهمة من القواعد العسكرية".

وأكد أن "هذه الإمبريالية ذات النمط الفرنسي التي سمحت للقوة الاستعمارية السابقة بضمان السيطرة على منطقة بأكملها، تمر بعملية تراجع في جميع المجالات".

وهي اليوم مضطرة إلى سحب جنودها من تشاد، التي كانت حتى الآن تعد إحدى ركائز وجودها العسكري على المسرح الإفريقي، فضلا عن دول أخرى أيضا تشهد إخفاقا فرنسيا متواصلا، وفق الموقع.

وذكر أن ما يجري "يوضح استمرار وعمق عدم فهم باريس للجذور الحقيقية للرفض الإفريقي لها، حيث أثبتت الطريقة الفرنسية، التي كرست في المقام الأول لتأمين مصالح فاعليها الاقتصاديين على الأرض، أنها كانت مخيبة للآمال للغاية، بل وأدت إلى نتائج عكسية".

نتائج الغطرسة

وقال موقع "ledjely" الغيني، إن القادة الفرنسيين في السنوات الأخيرة، من نيكولا ساركوزي إلى ماكرون على وجه الخصوص، وعدوا بإعادة النظر في العلاقات الفرنسية الإفريقية، لكن لم ينجح أي منهم في ترجمة هذا الالتزام إلى واقع ملموس.

وأضاف الموقع في مقال نشره بالثاني من ديسمبر 2024، أنه لم يتمكن أحد منهم من التحرر من هذا النهج المتغطرس الذي يميل إلى التصرف تجاه المستعمرات السابقة وكأنها لا تزال تملكها.

واسترسل: "منذ ما يقرب من عشر سنوات، نشأت ديناميكية جديدة، ولدت هذه المرة في قلب القارة الإفريقية، ويمكن أن تغير الوضع"، مقدرا أن قرار تشاد والسنغال مثال واضح على ذلك.

وشدد على أن "ما يحدث اليوم في العلاقات بين فرنسا والقارة الإفريقية هو خير مثال على أن الحرية والاستقلال لا يمنحان بل يكتسبان".

وبين أن الزعماء الأفارقة أنفسهم هم الذين عقدوا العزم على عدم السماح لأنفسهم بأن يُعامَلوا وكأنهم قادة من الدرجة الثانية، وقد بدأ هذا يتجسد على أرض الواقع.

وذكر الموقع الغيني أن هذا التطور الكبير يندرج في سياق عالمي لا يجب أن نستبعد منه تداعيات ظهور لاعبين دوليين جدد، بما في ذلك روسيا والصين وتركيا وإيران وغيرها، وكذا في ظل حرية التعبير التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي.

واسترسل، أن هذه الشبكات أصبحت أكثر من وسائل الإعلام التقليدية، والتي أظهرت بجلاء بعض الأخطاء الفادحة التي تعزى إلى ماكرون.

ونقل الموقع تحذير ناشطين من أن تفضي هذه التحولات إلى استبدال فرنسا بمستعمرين آخرين، موضحا أن رفض النهج الفرنسي تجاه إفريقيا يجب أن يكون مستمرا أيضا تجاه غيرها، سواء أكانوا من الغرب أو الشرق.