سياسات حزب مودي القومية تلحق أضرارا كبيرة بمصالح الهند الخارجية.. كيف؟
"لا تزال الهند بعيدة عن هذا المستوى من الثقل والنفوذ العالميين"
في حديثه أمام حشد من مؤيدي حزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم، قال وزير الداخلية الهندي أميت شاه المقرب لرئيس الوزراء ناريندرا مودي، إن الحزب هو وحده القادر على تمكين "عامل صغير في الحزب" مثله، و"بائع شاي من عائلة فقيرة" مثل مودي، من أن يصبحا أقوى الرجال في البلاد.
وأضاف في 15 مارس/آذار 2024 بخطاب بحملة إعادة انتخابه بولاية "غوجارات" شمال غربي البلاد، أن مودي وحده هو القادر على جعل الهند آمنة ومزدهرة، والوقوف في وجه الصين، وجلب التقدير العالمي لبلاده.
في هذا السياق، نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأميركية مقالا لأستاذ العلاقات الدولية بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، روهان موخيرجي، أكد فيه أن "هناك سببا وراء حرص شاه على الخلط بين العلاقات الخارجية والسياسة الداخلية في خطابه".
وتبدأ الانتخابات التشريعية في الهند على سبع مراحل بدءا من يوم 19 أبريل/ نيسان 2024 حين سيتوجه قرابة مليار ناخب إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الدولة “الديمقراطية” الأكثر تعدادا للسكان في العالم.
ويسعى رئيس الوزراء مودي (73 عاما) للفوز بولاية ثالثة بعد فوزه الساحق في انتخابات عامَي 2014 و2019.
قضية مركزية
وذكر الخبير السياسي موخيرجي، أنه خلافا للحملات الانتخابية السابقة، أصبح الدور العالمي الذي تلعبه الهند الآن قضية مركزية في السياسة الداخلية.
وأوضح أن اليوم، أصبح عدد الهنود الذين يهتمون بمكانة بلادهم في العالم أكبر من عددهم قبل عقد من الزمن.
واستخدم حزب بهاراتيا جاناتا هذا الاهتمام الجديد لصياغة رسالة مفادها أنه إذا كان الحزب قادرا على دفع "مواطن عادي" مثل مودي إلى الشهرة العالمية، فإنه يستطيع أن يفعل الشيء نفسه بالنسبة لبلد يرزح تحت وطأة الفقر والضعف.
وأرجع مراقبون الترويج الشامل للسياسة الخارجية إلى الكاريزما التي يتمتع بها مودي، والإستراتيجية السياسية التي ينتهجها حزب بهاراتيا جاناتا.
فباستثناء بعض اللحظات -كما حدث عندما أبرمت الهند والولايات المتحدة اتفاقا نوويا في عام 2008- كانت الحكومات السابقة تتعامل مع السياسة الخارجية بوصفها مجالا متخصصا ومعزولا إلى حد كبير عن المخاوف المجتمعية.
لكن على النقيض من ذلك، غرس حكم حزب بهاراتيا جاناتا السياسة الخارجية في الشعور الوطني، وحولها إلى واحد من الأبعاد الرئيسة التي يقيّم المواطنون حكومتهم على أساسها، بحسب موخيرجي.
وذكر أن توسع الاهتمام بالعلاقات الدولية من النخب إلى الجماهير له أسباب أعمق، فكلما تزايدت قوة الهند، عبّر شعبها أكثر فأكثر عن اهتمامه بالشؤون الدولية وعن رغبته في الاحترام والتقدير العالميين.
ولهذا، يرى موخيرجي أن "قدرة مودي على فهم طموحات الهنود المتزايدة وتوجيهها، يدل على ذكائه كسياسي".
"ومع ذلك، فإن السياسة الخارجية القومية لا تخدم دائما المصلحة الوطنية"، وفق الأكاديمي.
فعندما تسعى الدول الصاعدة إلى التقدير العالمي، فإنها غالبا ما تنخرط في دبلوماسية حازمة، وسلوك دولي يثير ردود فعل عكسية ويعرقل مسار صعودها.
ويرى موخيرجي أنه مع اكتساب نيودلهي نفوذا، ستبدأ مصالحها في التعارض بشكل خطير مع مصالح الدول الأكثر قوة، بما في ذلك مصالح واشنطن.
وبالتالي، من الممكن أن يصبح الجمهور المفرط في ثقته بنفسه عائقا أمام القيادة السياسية في الهند.
وهذا من شأنه أن يضطر الهند إلى تضخيم الخلافات البسيطة مع الدول الأخرى، ويدفعها نحو إستراتيجيات أكثر خطورة ومواقف أكثر تشددا.
ويهتم الهنود، خاصة الشباب وسكان المناطق الحضرية، بمكانة بلادهم في العالم.
ففي استطلاع للرأي في 2023، شمل 5 آلاف شخص تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاما في 19 مدينة، قال 88 بالمئة منهم إن من المهم للهند أن تحصل على مقعد دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وعلى نحو مماثل، يعتقد 83 بالمئة أن الهند يجب أن تصبح جزءا دائما من مجموعة السبع.
وتظهر الاستطلاعات أيضا أن الهنود يدعمون السياسات الخارجية للحكومة، ففي استطلاع أجراه مركز "بيو" الأميركي عام 2022، يعتقد 68 بالمئة من المشاركين الهنود أن النفوذ العالمي لبلادهم في تزايد.
ويوضح موخيرجي أنه رغم صعوبة قياس إذا ما كانت هذه الاستطلاعات سوف تترجم إلى أصوات في الانتخابات، فإن الساسة الهنود يتصرفون وفقا لذلك.
إذ تعمل الأحزاب الهندية حاليا وبشكل روتيني على إدراج السياسة الخارجية والفخر القومي المرتبط بها في إستراتيجياتها للانتخابات العامة والمحلية.
انفتاح على العالم
ويشدد الأكاديمي على أن المحللين ينبغي ألا يندهشوا من إيلاء الهنود مزيدا من الاهتمام للسياسات الدولية.
وبرر ذلك بأن "الليبرالية الاقتصادية في الهند جعلت المواطنين أكثر ثراء، وعادة يميل الأشخاص الأكثر ثراء إلى الاهتمام بشكل أكبر بالشؤون الدولية".
فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة استقصائية أجريت على مواقف السياسة الخارجية لأكثر من 200 ألف أسرة هندية في عامي 2005 و2006 أن 82 بالمئة من أفراد أدنى طبقة اجتماعية واقتصادية في الهند لا يعرفون أو لا يستطيعون الإجابة على أسئلة حول السياسة الخارجية.
وذلك مقارنة بـ 29 بالمئة بين أعلى المجموعات الاجتماعية والاقتصادية.
وأفاد موخيرجي بأن "في ذلك الوقت، كان أعضاء الطبقة الأولى يشكلون 30 بالمئة من سكان البلاد، في حين أن الطبقة الأخيرة كانت تمثل 1 بالمئة فقط".
ورغم أن الفئات الرسمية المستخدمة لتصنيف المجموعات الاجتماعية والاقتصادية تغيرت منذ ذلك الحين، فإن نصيب الفرد في الدخل في الهند تضاعف منذ عام 2005، مما يشير إلى أن الهنود أصبحوا أكثر ثراء في المتوسط.
فالسكان الأكثر ثراء يكونون أكثر اهتماما بالشؤون العالمية، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنهم أكثر ميلا للسفر إلى الخارج، والهنود ليسوا استثناء.
ومع ازدهار البلاد، زار مواطنوها بلدانا أخرى بأعداد قياسية، ففي العقد الذي سبق تولي مودي رئاسة الوزراء في عام 2014، ارتفع العدد السنوي للسائحين الهنود الذين يزورون دولا في الخارج بنسبة 300 بالمئة تقريبا، ليصل إلى 18 مليونا.
وخلال الفترة نفسها، ارتفع عدد الأشخاص المولودين في الهند الذين يعيشون في الولايات المتحدة بنسبة 55 بالمئة، ليصل إلى 2.2 مليون شخص.
واستمر هذا الاتجاه في التصاعد، إذ سافر ما يقرب من 27 مليون سائح هندي إلى الخارج في عام 2019، قبل جائحة كورونا مباشرة، وارتفع مواليد الهند الذين يعيشون في الولايات المتحدة إلى ما يقرب من 2.7 مليون.
علاوة على ذلك، ألمح الكاتب إلى أن الهند أصبحت الآن أكثر ارتباطا بالعالم بطرق أخرى أيضا.
ففي عام 2018، كان 20 بالمئة من السكان يستخدمون الإنترنت. وفي عام 2021، بلغ هذا الرقم 46 بالمئة، ما أدى إلى تزايد الوعي وانتشار الروابط مع البلدان الأخرى.
ورغم ذلك، لم تجعل العولمةُ الهند أقل قومية، بحسب موخيرجي.
ففي استطلاع أجري في عامي 2019 و2020، اتفق 72 بالمئة من الهنود تماما على أن "الثقافة الهندية متفوقة على الثقافات الأخرى".
وقال الأكاديمي: "ليس من المستغرب إذن أن يستفيد حزب بهاراتيا جاناتا، وهو حزب قومي، من اهتمام الهنود المتزايد بالعلاقات الدولية، أو أن يوجه الحزب البلاد نحو سياسة خارجية أكثر حزما".
ويتجلى هذا بشكل أوضح في الرد الحكومة الحازم للحكومة الهندية على التهديدات والاستفزازات المحتملة من منافسيها التقليديين، الصين وباكستان.
ففي حين فضّلت الحكومات السابقة العمل من وراء الكواليس، عبَرت الهند في عهد مودي الحدود الدولية مع "بوتان" من جانب واحد؛ لردع بناء الطرق الصينية في الأراضي المتنازع عليها في عام 2017.
كما نفذت علنا غارات جوية على الأراضي الباكستانية في عام 2019.
وأقر موخيرجي أن "نزوح الهند نحو القومية ربما تستاء منه حكومات أجنبية"، لكنه أكد أنه "ليس تطورا صادما".
فتزايد الثقة بالنفس لدى الدبلوماسيين الهنود، وزيادة حساسية المواطنين الهنود تجاه الإهانات المتخلية ضد بلادهم، والشعور العام بين الجمهور الهندي بأن البلاد "وصلت" إلى المسرح العالمي، يذكّرنا بديمقراطية أخرى كانت صاعدة وفوضوية: الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر.
ونقل موخيرجي ما كتبه السفير البريطاني في واشنطن بشيء من السخط في خمسينيات القرن التاسع عشر، حين لاحظ اعتماد الأميركيين على "التبجح" واستخدامهم "لهجة تهديد للعالم أجمع"، على الرغم من عدم امتلاكهم القدرات العسكرية التي تتناسب مع خطابهم.
وقال السفير البريطاني حينها إن الديمقراطية الأميركية أصبحت "حساسة بشكل مَرََضي لأي هجوم أو إهانة تتخيل أنها موجهة لها"، في حين أنها أصبحت أيضا غير مبالية بأي نفحة من العدالة أو باللعب النظيف في تعاملاتها مع الآخرين.
وقال موخيرجي: "ربما تسمع اليوم شكوى مماثلة من أي عدد من الدبلوماسيين الغربيين الذين يتعاملون مع الهند".
وأكد على أن "القوى الصاعدة الأخرى ذات الأنظمة السياسية المختلفة تصرفت -ومازالت- على نحو مماثل".
فاليابان في أوائل القرن العشرين -التي حققت للتو نجاحات اقتصادية وعسكرية في عصر ميجي- استحوذت عليها الحماسة القومية والشعور العام بحقها في كسب مكانة متساوية مع القوى العظمى في ذلك العصر.
كما أصبحت الصين، منذ بداية صعودها السريع في سبعينيات القرن العشرين، أكثر قومية، وجاء تحولها إلى دبلوماسية "الذئب المحارب" القتالية نابعا من رغبة مماثلة في كسب الاحترام الدولي، وفق المقال.
وتابع أن "مع نمو قوتها، تتوقع الدول أن البلدان التي تحتل مرتبة أدنى منها سوف تذعن لها وأن البلدان التي تعلوها سوف تفسح المجال لاستمرار صعودها".
القومية مقابل الأممية
وقال موخيرجي: "إن مودي ليس أول زعيم هندي لديه طموحات عالمية".
إذ سعى أول رئيس وزراء للبلاد، جواهر لال نهرو، إلى أن تضطلع بلاده بدور قيادي، وعمل بنشاط من الأربعينيات إلى الستينيات من القرن الماضي لتعزيز سياسة خارجية متفردة، من خلال المؤسسات الدولية، تتمثل في عدم الانحياز إلى أي من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
لكن جهود نهرو لم تلق سوى صدى لدى نخبة محلية ضيقة، ذلك أن عامة الناس كانوا يعانون من الفقر لدرجة أنهم لم يهتموا بالمصالح غير المادية، مثل التقدير الدولي.
وأوضح أنه على النقيض من ذلك، أصبحت الهند اليوم قوة صاعدة، حيث أصبح سكانها مهيأين لزعامات تستثمر هذه التطلعات الوطنية؛ لتحقيق مكاسب محلية ودولية.
علاوة على ذلك، نجح مودي في استخدام ثقة الهنود بأنفسهم في الداخل والخارج، لتعزيز الحظوظ السياسية لحزبه وتحسين مكانة الهند عالميا.
ويرى الكاتب أن الهند تعمل على خلق نموذج سياسي جديد يقوم على القيم الحضارية الهندوسية، والرغبة في استخدام القوة العسكرية أو التهديد باستخدامها، وفي تحمل المسؤوليات العالمية من خلال العمل مع بلدان أخرى.
ويتضح هذا في مجموعة متنوعة من المبادرات، منها على سبيل المثال، ترويج نيودلهي لليوم العالمي لليوجا، ورفضها الانحياز إلى أحد الجانبين في الحرب في أوكرانيا، واستخدامها الدبلوماسية القسرية ضد باكستان، ونهجها متعدد الأطراف في أزمة المناخ.
ويشير موخيرجي إلى أن هذه المبادرات ليست جديدة، فقد سعت الحكومات الهندية دائما إلى الترويج للثقافة الهندية، ومقاومة الهيمنة الغربية، وإكراه باكستان، وحل المشاكل العابرة للحدود الوطنية بشكل جماعي.
لكن حزب بهاراتيا جاناتا بزعامة مودي يَبرز في هذا السياق؛ بسبب تفسيره المتفرد للثقافة الهندية، واستعداده لخوض مخاطر دبلوماسية أكبر، مثل هجمات 2019 في باكستان.
كما يعتقد أنه مع تحول بكين إلى أن تكون تهديدا مستمرا لجيرانها في آسيا والغرب، ارتفعت أسهم الهند، حيث تعمل الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، على التودد إلى الهند في محاولة لتقييد طموحات الصين.
وما دامت نيودلهي قادرة على مساعدة البلدان على التنافس مع بكين، فسوف يكون لدى الهند الكثير من الشركاء الدوليين، مما يمنحها مجالا كبيرا للمناورة في علاقاتها الخارجية، وفق الكاتب.
وقال موخيرجي: لا شك في أن أغلب المجتمعات الحديثة تتسم بالقومية إلى حد ما، ولكن عندما تصبح السياسة الخارجية ذاتها ذات طابع قومي، فإنها تؤدي إلى ظهور مخاطر مدمرة للذات.
واليوم، الهند متورطة في جدالات حول تنفيذ اغتيالات خارج حدودها الإقليمية، وغدا قد تجد نفسها متورطة في جدالات تشكك في مؤهلاتها الديمقراطية، أو معاملتها في الخارج، أو تقارب الصين المتزايد مع جيران الهند الأصغر حجما.
وعلى سبيل المثال، قد تتدخل في السياسة الداخلية لدول أخرى لتقويض منتقديها، ويمكنها أن تتحرش اقتصاديا بالبلدان الصغيرة التي لا تتفق مع ذلك.
وأفاد الكاتب بأن "القوى العظمى -بما في ذلك الولايات المتحدة- تلجأ بشكل روتيني إلى مثل هذه التكتيكات، لكنهم أيضا في وضع جيد لإدارة العواقب".
وبوصفها قوة صاعدة، لا تزال الهند بعيدة عن هذا المستوى من الثقل والنفوذ العالميين.
وأضاف أن الدبلوماسية القومية المدعومة بجمهور لديه شعور متزايد بالثقة والحزم، من شأنها أن تجعل مثل هذه القضايا صعبة الحل من خلال الحد من نطاق التسوية.
على سبيل المثال، قد ينقلب الناخبون ضد الحكومة الهندية إذا تعثرت في حماية مصالح البلاد وهيبتها، بعد أن وضعت توقعات عالية.
وقال موخيرجي: "ربما لا يعرف الكبرياء الوطني حدودا، لكن السياسة الخارجية لابد أن تعمل في بيئة مقيدة للغاية".
وبالتالي، يتعين على القيادة السياسية في الهند -وفق المقال- أن تتعامل بحذر لضمان ألا تتسبب دبلوماسيتها القومية في تقويض أهدافها الوطنية.
"وفي الوقت نفسه، سيتعين على أصدقاء الهند وشركائها أن يتكيفوا جزئيا مع سلوكها الحازم، من خلال إفساح المجال لها أثناء صعودها في النظام الدولي"، يختم الكاتب.