هتاف ضباط الكلية الحربية بتركيا "نحن جنود أتاتورك".. حنين للعلمانية أم رسالة تمرد؟

12

طباعة

مشاركة

أداء نحو 400 طالب عسكري تركي خلال حفل تخرجهم القسم لمؤسس الانقلاب على الهوية الإسلامية (مصطفى كمال أتاتورك) بعد القسم التقليدي للجيش، كشف وجود أوكار للعلمانية لم يقض عليها الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه بعد.

إذ إن "قسم العلمانية" لمؤسس تركيا العلمانية (أتاتورك)، الذي هتف به هؤلاء الخريجون وهم يرفعون سيوفهم، مخالف للقسم الجديد للجيش الذي بدأ العمل به منذ عام 2022 والذي لا يذكر أتاتورك.

ردود الفعل السياسية والحزبية المنقسمة إزاء هذا الفعل، وتهديد أردوغان بفصل هؤلاء الخريجين الذين أقسموا للعلمانية، وإعلان الجيش أنه بدأ التحقيق معهم، يؤشر إلى أن المعركة بين العلمانيين، وتيار عودة تركيا إلى تراثها الإسلامي لا تزال طويلة.

“جنود أتاتورك”

في 30 أغسطس/آب 2024 وعقب حفل تخرج في الأكاديمية العسكرية التركية لـ960 ضابطا من الخريجين الجدد، وتلاوة القسم العسكري الرسمي للدفاع عن تركيا، احتفل قرابة 400 منهم مجددا بالتخرج في الهواء الطلق وهم يهتفون: "نحن جنود مصطفى كمال أتاتورك، نحن حراس العلمانية".

وكانت الظاهرة اللافتة أن أوائل الدفعات الثلاث كن من الفتيات، ومن تقدمت لأداء قسم أتاتورك كانت الطالبة الأولى على الدفعة، إبرو إرأوغلو، وردد الضباط الصغار خلفها قسما ثانيا بعد القسم الرسمي، أعلنوا فيه الولاء لأتاتورك.

ساد الجدل في تركيا حول ما جرى بين من عدوا ذلك أمرا عاديا ونوعا من الحماسة من جانب الخريجين الجدد، وبين من عدوه "رسالة تمرد عسكرية" جديدة ربما يقف وراءها قادة علمانيون في الجيش دربوا هؤلاء الخريجين.

فريق كبير من الأتراك تفاعل عبر مواقع التواصل مع الواقعة وحذروا من عودة ظهور الفكر العلماني الذي وقف وراء محاولات انقلاب عدة في تركيا داخل الجيش.

أوساط علمانية وأحزاب المعارضة وعلى رأسها "حزب الشعب" الذي أسسه أتاتورك ورئيس بلدية إسطنبول، أعلنوا دعمهم لتصرف الضباط الخريجين الجدد، وحذروا من المساس بهم وأعلنوا بدورهم "نحن جنود أتاتورك".

رئيس بلدية إسطنبول المعارض، أكرم إمام أوغلو، انتقد موقف الرئيس التركي من الحادثة قائلا: "ولاء قواتنا المسلحة لمؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك هو فوق السياسة"، ودعا إلى "التخلي عن عادة استغلال كل حادثة على أنها انقلاب".

وانتقد رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل، تصريحات الرئيس التركي، حول عقاب هؤلاء الملازمين الجدد وأدان ما أسماه "استغلال الضباط الجدد الذين يحملون السيوف لأهداف سياسية".

ودعا لعدم "التضحية بمستقبل هؤلاء الشباب الموهوبين لخدمة سياسات أردوغان المتشددة".

لكن رموزا في حزب العدالة والتنمية، ورئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، عدوا ذلك تمردا عسكريا جديدا يعيد للأذهان آخر انقلاب للجيش عام 2016.

وقالوا إن هذه الهتافات تهديد ومحاولة لاستدعاء عصور الانقلابات المظلمة، ودعوا إلى إجراء تحقيق.

وعدوا الشعار الذي تم ترديده يحمل طابعا سياسيا، ويتبع أحد الأحزاب، وهو حزب أتاتورك (الشعب الجمهوري) وبدأ ترديده لأول مرة في 28 فبراير/شباط 1997 عقب انقلاب، وتم إلغاؤه في عام 2016، قبل أن يعود للظهور هذا العام.

لكن الرئيس التركي حسم الأمر، وقال في 7 سبتمبر/آب 2024: "هؤلاء لا يمكن أن يكونوا جزءا من جيشنا"، ووعد بتطهير الجيش ممن يقفون وراء ذلك، وسط أنباء غير مؤكدة عن إبعاد 100 منهم على الأقل عن الجيش فورا، عقب تخرجهم.

أردوغان تعمد أن يقول، أمام حفل خريجي طلاب مدارس الأئمة والخطباء، لهؤلاء الخريجين العسكريين العلمانيين الذين أعلنوا ولاءهم لأتاتورك وهم يرفعون سيوفهم: “في وجه من ترفعون سيوفكم؟ ماذا كان قصدكم؟”

وقال: "سيتم تطهير وتنظيف الجيش من هؤلاء الانتهازيين"، وتعهد بتطهيره من "القلة الجاهلة المسؤولة عن ذلك القسم العلماني"، مؤكدا: "لن نسمح أبدا بإدخال الجيش في الحسابات السياسية، ولن نسمح بأي محاولة لتفتيت الجيش".

وفي كلمة أخرى له عقب اجتماع الحكومة في 9 سبتمبر 2024، قال أردوغان: "لن نسمح بإضعاف الجيش أو استخدامه في حسابات سياسية، ولن نسمح أيضا باستغلال اسم الغازي مصطفى كمال أتاتورك في حسابات سياسية".

وأضاف أنه تم إجراء اجتماعات مع مسؤولي الجامعة والقوات البرية لمناقشة الواقعة و"نحن ضد أي محاولة من شأنها أن تلقي بظلالها على انضباط جيشنا وانسجامه وسمعته".

وتوعد العلمانيين قائلا إن "الذين يحلمون بالسلطة من خلال عقد تحالفات مع الأجانب، يحاولون اليوم التلاعب بالأمة من خلال استغلال اسم الغازي مصطفى كمال أتاتورك".

ووجه رسالة للعلمانيين وأنصاره الإسلاميين بأن "مسألة وضع دستور مدني باتت أكثر من مجرد حاجة ملحة، صارت واجبا على الديمقراطية التركية لتصفية الحساب مع الانقلابات والعقلية الانقلابية".

وأكدت وزارة الدفاع أن التحقيق بدأ بالفعل، لكن صحيفة "حرييت" أكدت في 8 سبتمبر 2024 أن قائد سرية الضباط المتخرجين من الكلية الحربية البرية قدم استقالته، عقب ردود الفعل الواسعة التي طالت سريته.

دلالات وتداعيات

عقب تولي أردوغان رئاسة الوزراء ثم رئاسة تركيا، بدأت الدولة العلمانية تتبنى نهجا إسلاميا صريحا، والتخلي عن التقاليد العلمانية للجمهورية الكمالية التي نشأت مع تولي كمال أتاتورك رئاسة أول جمهورية في 23 أبريل/نيسان 1920 وإلغاء الخلافة.

بعد أتاتورك، ظل الجيش يعد نفسه ضامنا للعلمانية، مما أدى إلى سلسلة من الانقلابات منها 3 جرت بين عامي 1960 و1980، كما أطاح الجنرالات بحكومة نجم الدين أربكان "الإسلامية" عام 1997.

لكن في عام 2016، وعقب إحباط الشعب محاولة الانقلاب الأخيرة ضد أردوغان، تم تطهير الآلاف من القوات المسلحة والقضاء والمؤسسات العامة الأخرى، ومحاكمة جنرالات قاموا بانقلابات سابقة.

وحضر الرئيس التركي حفل تخرج الأكاديمية العسكرية في أنقرة يوم 30 أغسطس 2024، ولم يتم العلم بهذه الواقعة إلا لاحقا حين خرج هؤلاء الضباط للاحتفال مرة أخرى بتخرجهم وهم يرفعون السيوف ويهتفون لأتاتورك.

ولم يكن هذا الحفل الموازي مدرجا في برنامج الحفل الرسمي الذي أقيم للضباط خريجي كليات الحرب البرية والبحرية والجوية معا.

لذا قرأ كثير من الأتراك والمحللون هذه الواقعة الأخيرة، بقيام الخريجين بأداء قسم العلمانية لأتاتورك، كمؤشر خطير علي عودة نشاط العلمانيين والانقلابيين داخل الجيش وتخوفوا من ارتباط ذلك بالانقلابات العسكرية.

عدوا هذه الواقعة "رسالة سياسية" و"بوادر تمرد" ضد الحكومة"، وبدأت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي تضج بعدها بالنقاشات حول ما جرى، بين من يحذر من تداعياتها وبين من يقلل من شأنها ويصفها بالأمر العادي.

بعض المعلقين المؤيدين للحكومة انتقدوا بشدة أفعال الضباط الخريجين العسكريين، مشيرين إلى أنها قد تشكل تحديا لحكومة أردوغان.

وأشاد آخرون من العلمانيين، عبر الإنترنت، بها بصفتها علامة على أن "الجيش التركي سيظل علمانيا بغض النظر عن الحزب الحاكم" ذي التوجه الإسلامي.

العلمانية داخل الجيش

أعادت هذه الواقعة للأذهان، واقعة أخرى، جرت في 3 أبريل/ نيسان 2021، وأظهرت استمرار تمرد العلمانيين على سلطة أردوغان وتوجهات حزبه الحاكم بالعودة للتراث الإسلامي لتركيا، بصفته مصدر تفردها وقوتها.

وذلك حين أصدر 103 من جنرالات (أدميرالات) البحرية المتقاعدين "مذكرة عسكرية"، تنتقد مشروع أردوغان الخاص بشق قناة جديدة هي "إسطنبول"، ما عده بوادر محاولة انقلاب.

بيان الأدميرالات الـ103 المتقاعدين كان هدفه المعلن "قناة إسطنبول"، لكن هدفه الحقيقي كان رفض تغيير أردوغان الدستور العلماني، وفق تقرير سابق لـ"الاستقلال".

إذ إن قضية البيان الأساسية، التي تعمد تأخيرها وراء مطلب رفضه قناة إسطنبول، كانت "تغيير الدستور" أو ما أسموه الخروج عن "الخط الذي رسمه أتاتورك مؤسس الجمهورية".

حينئذ أعرب الجنرالات عن عدم ارتياحهم من "مناقشات تغيير الدستور"، وأكدوا رفض الجيش تغيير الدستور، أو التفكير في كتابة دستور جديد".

ومنها قانون يوفر للنساء ضمانات دستورية لارتداء الحجاب، وافق عليه البرلمان لاحقا 25 يناير/كانون الثاني 2023.

ما أزعج أردوغان حينئذ هو سعي الأدميرالات المتقاعدين للتركيز في بيانهم على استرجاع فكرة أن "الجيش هو حامي حمي العلمانية وتعاليم أتاتورك"، التي هدمها الأتراك بالانتفاضة ضد انقلاب يوليو 2016.

وظل جنرالات الجيش خلفاء أتاتورك يرون أن لهم -وحدهم- حق وضع الدستور وتغييره، كأنه "ملكية عسكرية"، في محاولة لإنقاذ ما تبقي من نفوذ العلمانيين أتباع أتاتورك.

وهذا ما دفع أردوغان وأركان حزبه وحكومته لوصف مذكرة هؤلاء الأدميرالات المتقاعدين بأن "له تداعيات انقلابية خبيثة"، وأن مذكرتهم العسكرية التي تمنع تعديل الدستور بدون الجيش "تذكير بزمن الانقلابات، و"أسلوبا يستحضر انقلابا". 

خاصة أن خلفية جميع الأميرالات الموقعين على الاتفاقية من "اليسار الأتاتوركي"، وهو تيار قوي جدا في الجيش والخارجية التركية، لكنه ضعيف في أجهزة الدولة الأخرى، بحسب الصحفي التركي "محمد أونالمش" عبر حسابه على تويتر.

لكن تكرار هذه الوقائع، بواقعة "قسم العلمانية" لخريجي الأكاديمية العسكرية يوم 30 أغسطس 2024، طرح مخاوف ليس من هؤلاء الضباط الخريجين الجدد، ولكن من الجنرالات الذين دربوهم ويحملون نفس العقلية العلمانية الأتاتوركية الانقلابية.

تغييرات ضد العلمانية

ربما لهذا طرح الرئيس أردوغان في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2022، "رؤية قرن تركيا" لحزبه العدالة والتنمية، والمتعلقة بالبرامج وأهداف الجمهورية في مئويتها الجديدة.

وهدف هذه "الرؤية" هو وضع دستور جديد غير الدستور الحالي الذي وضعه العسكر العلمانيون الانقلابيون.

ويشير تحليل لهذه البنود العامة الـ 16 لـ "رؤية القرن" إلى أن تركيا وضعت لنفسها ثلاثة أهداف عقب فوز أردوغان في انتخابات مايو/ أيار 2023 وهي: 

أولا، دستور مدني يحل مكان دستور 1982 المعمول به، إذ إن دستور 1982 (تم تعديله عدة مرات أخرها 2017) وضعه جنرالات الجيش عقب انقلاب 1980.

وأشرف عليه الجنرال الانقلابي كنعان إيفيرين، الذي تولى مهمة تسيير شؤون تركيا عقب الانقلاب، ثم تولي (على غرار انقلاب سيسي مصر 2013) إجراء انتخابات رئاسية مزورة أسفرت عن انتخابه رئيسا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1982 بنسبة 90 بالمئة من الأصوات.

وعزز هذا الدستور، الذي صاغه العسكر، دور الجيش في الحياة المدنية بذريعة حماية الجمهورية والعلمانية في المادتين 35 و85.

وأعطى حصانة لجنرالات الانقلاب من المحاكمة في المادة 15، وبعد مرور 30 عاما على الانقلاب تمكن حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان من تعديل عشرات المواد من ذلك الدستور، بما فيها حصانة العسكر، لكنه ظل مرقعا.

وخضع دستور 1982 إلى 19 تعديلا منذ ذلك الوقت، 10 منها في عهد العدالة والتنمية، لذلك، قال أردوغان إن أولوية بلاده في المئوية المقبلة ينبغي أن تكون صياغة دستور جديد.

ثانيا، السعي لـ "تركيا الجديدة" أو "تركيا القوية" وهي فكرة حاضرة دائما في خطاب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، بدلا من "تركيا القديمة" الضعيفة وغير الفاعلة والمنشغلة بأزمات عديدة داخليا وخارجيا، وضمنها إنتاج تركيا لسلاحها.

وهو ما عمل عليه أردوغان بتوفير كل عناصر القوة المادية من العلم والصناعة والصحة والسلاح وغير ذلك، وتحويل تركيا لدولة كبري مؤثرة.

ثالثا، التركيز على فكرة التفوق الأخلاقي، وانتصار "صاحب الحق"، وليس "صاحب القوة" في القرن المقبل.

وفي 7 يونيو/حزيران 2024، جرت مناوشات بين أردوغان والعلمانيين حول المناهج الدراسية الجديدة التي اشتكي العلمانيون من أنها تُضعف العلمانية، فيما أكد أردوغان أنها ضمن "رؤية القرن" الخاصة بالتعليم، بحسب وكالة "رويترز".

وأعرب حزب المعارضة الرئيس (الشعب الجمهوري) والنقابات التعليمية والمنظمات غير الحكومية عن مخاوفها بشأن مؤهلاتها الديمقراطية وانتقدت الخطوات الرامية إلى التأكيد على الدراسات الدينية على حساب الدراسات الأخرى.

لكن الرئيس التركي رفض الانتقادات الموجهة للمناهج التعليمية الجديدة وتعهد بإعطاء الأولوية "للقيم الوطنية"، في مواجهة مخاوف الأحزاب العلمانية من أن تؤدي هذه التغييرات إلى "تآكل الأسس العلمية والعلمانية للمدارس".

وقال أردوغان "لن نسمح لأحد بأن يحول بين أطفال هذا البلد والقيم الدينية، لقد ولت الفترة التي واجه فيها الأطفال التمييز لمجرد أنهم يصلون ويرتدون الحجاب".

وأواخر مايو 2024، وافقت حكومة أنقرة على المنهج الدراسي الذي أطلق عليه "نموذج التعليم التركي للقرن"، والذي بدأ طرحه تدريجيا من العام الدراسي الحالي.

وفتحت تركيا تحت إشراف أردوغان العديد من مدارس "إمام خطيب" الإسلامية بما يتماشى مع هدفه في خلق "جيل متدين". 

وكانت الخطوات التي اتخذت عام 2023 لتعزيز القيم الأخلاقية التقليدية بين الطلاب، وزيادة الدروس الإسلامية، وفتح غرف للصلاة في المدارس، سببا في تأجيج المخاوف العلمانية في تركيا بين الأحزاب العلمانية.