مصر وغزة.. جسور من الرحم تعبر الحدود وتتحدى جدران الأنظمة الصماء
مصر وغزة.. علاقة تاريخية تمثلت في شعار "هم منا ونحن منهم"
في الوقت الذي لا يمتلك فيه قطاع غزة الفلسطيني المحاصر حدودا خارج الأراضي المحتلة إلا مع مصر بطول 13 كيلو مترا، لكن على مدار 9 أشهر من العدوان الإسرائيلي، لم يجد القطاع نصرة من جاره المصري رغم الروابط التاريخية والجغرافية والسياسية.
إذ تحيط بغزة 8 معابر، 6 منها تصل القطاع بالأراضي المحتلة عام 1948، وتسيطر عليها سلطات الاحتلال، بينما تسيطر مصر على معبر "رفح" و"بوابة صلاح الدين".
معابر وحدود غزة وإن كانت شرايين إنسانية أغلقتها السياسة والمؤامرات الدولية، لكن للقطاع شرايين ورابطة دم عميقة مع مصر التي تجاهل نظامها برئاسة عبدالفتاح السيسي معاناتها منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ولا تحظى دولة أو شعب من شعوب العالم بالارتباط بغزة، كما الارتباط بينها وبين مصر، حيث تتكون بين الشعبين رابطة نسب وصهر، ومشتركات دينية وثقافية واجتماعية.
حتى إن غزة كانت تابعة إداريا للقاهرة، عندما تمكنت الحكومة المصرية من السيطرة على أراضي القطاع ومنع الاحتلال الإسرائيلي من الاستحواذ عليها عام 1948 خلال أحداث النكبة.
ثم أصبحت الحاكم الإداري المعترف به للقطاع بعد ذلك حتى نكسة 5 يونيو/ حزيران 1967، والتي فقدت فيها مصر كلا من غزة وسيناء.
ولا يمكن إغفال أنه لم يكن في الماضي إلا رفح واحدة بين الحدود المصرية مع فلسطين يسكنها عائلات معروفة تشترك في عاداتها وتقاليدها ويربطها علاقات قرابة ونسب منذ القدم.
لكن سلكا شائكا فصل المدينة إلى قسمين بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978، حيث أصبحت هناك رفح المصرية والفلسطينية.
تطور السلك الذي وضع عام 1982 ليصبح جدارا إسمنتيا هائلا على طول الحدود المصرية الفلسطينية ثم تطور الحائط لتصبح منطقة عازلة من الجانبين لتقطع ما تبقى من صلات جغرافية بينهما، لكن بقيت الصلة الأهم صلة الدم.
أنساب وعائلات
وتشترك عائلات سيناء وغزة في النسب والعلاقات الاجتماعية وصلات القرابة، فغالبية العائلات في رفح المصرية تنتمي إلى نظيرها في المدينة الفلسطينية.
حتى إن لهجة سكان رفح المصرية أقرب للهجة الفلسطينية.، ومن أبرز القبائل التي لها روابط مشتركة بين سيناء وغزة، هم "الترابين- السواركة- الرميلات".
وهناك كثير من العائلات في غزة جذورها مصرية منها عائلة المصري، وهي من العائلات الفلسطينية الممتدة بتاريخها إلى هجرة 5 أشقاء لأسرة واحدة، من مصر في القرن الثامن عشر.
وورد اسم عائلة المصري على لسان المؤرخين الذين زاروا خانيونس جنوب قطاع غزة، كالمستشرق النمساوي " ألويس موزيل"، الذي تجول بالمدينة في مطلع القرن العشرين، ونشر كتابه عنها عام 1908.
والمصري من العائلات ذات الحظوة العددية، التي يحترمها صندوق الانتخابات على أقل تقدير، وذلك في كل مدينة تسكن فيها، سواء نابلس أو خانيونس أو شمال غزة.
ومن أهم العائلات الغزاوية ذات الأصول المصرية "البراهمة- زعتر- أبو القمبز- الجبور- برهوم- أبو حلاوة- أبو عواد".
ويوجد أيضا عائلة أبو خضرة، وتعود إلى جد من أشراف بلبيس (بمحافظة الشرقية في مصر)، ومن ذريته من حمل اسم (الرفاعي).
وأيضا عائلة "أبو شعبان"، وتنتسب إلى جد جاء من مصر، ومنهم من حمل اسم “المصابني”.
وكذلك "أبو عاصي" التي تنتسب إلى جد نجار مصري، و"الأسطل" من جد من الجند الكردي الذين جاءوا من مصر، وعين بوظيفة آمر قلعة خانيونس وخلف ذرية كبيرة في غزة.
وهناك عائلة "البيطار" تنتسب إلى جد صنعته بيطار (الشخص المتخصص في إعداد وصيانة حدوات حوافر الخيل) أصله من مصر، وهم فرع من عائلة الدالي المصرية.
وتوجد عائلات "البيبي" نسبة إلى مدينة ببا في صعيد مصر، و"الجرجاوي" نسبة لمدينة جرجا في صعيد مصر، حتى إنه توجد قرية اسمها بيت جرجا شمال شرق غزة.
ومن ضمن العائلات ذات الأصل المصري في غزة "الجيار" التي تنتسب إلى جد كان بائع جير وأصله من الإسماعيلية، وهناك عائلة "الخراشي" من "أبو خراش" في مصر "منهم إمام الأزهر السادس عشر الشيخ محمد الخراشي".
وعائلة "الشوبكي" من قرية شوبك في مصر، ومنها تفرعت عائلة حرز، عطا الله، الشايب، حسان، حمدوقة، الهندي.
وهناك عائلة "شحاتة" لجد صنعته البناء وكان لقبه الشواربي الذهبي، وهو من قليوب في مصر جاء مع جيش إبراهيم باشا خلال حكم محمد علي باشا لمصر (1805 - 1848).
ويوجد عدد كبير آخر من البيوت والعائلات التي لها امتدادات في مصر منها (الفيومي- القولق- الصعيدي- المناوي- نافع- الشربيني- البسيوني- القريني).
سبب الانتشار
أما عن سبب انتشار تلك العائلات ذات الأصول المصرية في غزة، فقد علله الباحث المصري حسن سليم أبو لمظي في كتابه "عائلات أردنية وفلسطينية من أصول مصرية" الذي جرى إصداره في 15 يونيو/ حزيران 2015.
وقال فيه: "إن الخشية والخوف من قوات الحملة الفرنسية، كانت أول أسباب هجرة المصريين في أواخر القرن الـ18 إلى بلاد الشام".
وأكمل: “البطل حسن طوبار، شيخ إقليم المَنزلة بمحافظة الدقهلية الذي قاوم قوات المحتل الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت اضطر للهجرة مع رجاله إلى مدينة غزة".
وأضاف الباحث المصري، أنه بعدها بدأ سيل من هجرات العوائل المصرية نحو غزة، لأسباب متعددة منها الهروب من السخرة والضرائب والتجنيد الإجباري الذي فرضه الوالي محمد علي عليهم.
وضرب مثلا بـ 6 آلاف مصري من محافظة الشرقية جمعوا أشياءهم ورحلوا نحو غزة، و"كان هذا رقما مخيفا".
وتابع "واستمرت هجرة المصريين في السنوات التي تلتها، ففي العام 1860، ترك آلاف المصريين وطنهم هربا من نظام السخرة في حفر قناة السويس، الذي وقع ضحيته الآلاف الآخرين وبعضهم استقر في غزة".
وأورد: "قدر عدد العائلات المصرية التي استوطنت غزة في القرن الثامن عشر بنحو 71 عائلة".
ومن جهة أخرى، هناك شخصيات مؤثرة في تاريخ غزة والقضية الفلسطينية عموما، كان لها مع مصر رباط وثيق.
ومن أبرز هؤلاء مؤسس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” الشيخ الراحل أحمد ياسين، الذي التحق في سنوات شبابه بقسم اللغة الإنجليزية جامعة عين شمس (لم يكمل لأسباب سياسية).
وكذلك عبد العزيز الرنتيسي، أحد أبرز مؤسسي حماس وقادتها التاريخيين، إذ إنه خريج كلية الطب جامعة الإسكندرية.
وكذلك القيادي البارز في الحركة محمود الزهار، فوالدته مصرية، وقد حصل على بكالوريوس الطب في جامعة عين شمس بالقاهرة.
وللمفارقة فإن محمد دحلان، القيادي الفلسطيني المفصول من حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، والذي يعيش في الإمارات، درس في كلية التربية الرياضية جامعة حلوان (لم يكمل تعليمه هناك).
وأكثر من ذلك أن رجل الأعمال المصري المثير للجدل إبراهيم العرجاني، المتورط بابتزاز أهالي غزة على معبر رفح، والدته هي صبيحة الشاعر من خانيونس، فيما تقول تقارير إنه ولد داخل القطاع.
قواسم مشتركة
وإذا ذهبنا إلى العادات والتقاليد، يشترك أهالي سيناء وغزة إلى اليوم في الكثير من التفاصيل، وقد تأثر جزء كبير من أهل القطاع ببعض الكلمات باللهجة المصرية تحديدا في منطقة رفح جنوب القطاع.
كما تأثر أهل رفح الفلسطينية بطريقة عمل الملوخية على الطريقة المصرية، المعروفة بكونها "ناعمة"، لا كما في بلاد الشام "ملوخية ورق".
ويحتفل أهل غزة بيوم شم النسيم، تماما مثل المصريين، ويأكلون أيضا الرنجة والفسيخ الغزاوي.
ومن المعروف أن "شم النسيم" عادة فرعونية مصرية، قد لا يحتفل بها في العالم إلا في مصر وغزة.
كما أن "الكشري" الطبق المصري الشعبي التقليدي المنتشر في شتى ربوع مصر، يطبخ في غزة.
وهناك أنواع من سيارات الأجرة التي توجد في رفح الفلسطينية، تشبه تلك التي توجد في نظيرتها المصرية ومصر عامة.
حتى إن نمط البيوت في رفح الفلسطينية تشبه كثيرا، تلك التي في نظيرتها الفلسطينية والشيخ زويد.
ومن المعروف أن الرياضة تمثل رسالة ترابط ومحبة بين الشعوب، تحديدا اللعبة الأكثر انتشارا في العالم "كرة القدم".
لكن بالنسبة للعلاقة الرياضية بين مصر وغزة فهناك حالة "توحد" مختلفة تماما.
فهناك في غزة روابط مشجعي للأندية الكبرى في مصر "الأهلي" و"الزمالك" بل وحتى النادي الإسماعيلي.
أكثر من ذلك توجد روابط للألتراس، سواء ألتراس أهلاوي ووايت نايتس الخاص بالزمالك.
ويوجد في غزة تجمع شبابي أطلق عليه اسم "مجموعة زمالك حي المحطة في خانيونس".
وبعد ارتداء لاعب كرة القدم المصري محمد أبو تريكة قميص "تعاطفا مع غزة" خلال بطولة الأمم الإفريقية عام 2008، تأسست رابطة محبي وعشاق النادي الأهلي في فلسطين.
كما لا يقتصر تشجيع أهل غزة على الأندية المصرية فقط، بل المنتخب المصري أيضا.
فمباريات منتخب مصر تعرض في شاشات كبرى داخل القطاع، وبعد صعود مصر لكأس العالم 2018 وزعت الحلوى في شوارع غزة.
ورغم ما تربطهما من علاقات، أغلق نظام السيسي معبر رفح الواصل بين الجانبين وسمح فقط بالخروج لمن يدفع أموالا طائلة تصل إلى 5000 دولار عن كل شخص يريد النجاة خلال العدوان الإسرائيلي.
كما كدس المئات من شاحنات المساعدات على الجانب الآخر من الحدود وأدخل القليل منها إلى قطاع غزة وسط مجاعة لم يشهد لها الغزيون مثيلا.
وفي حديثه لـ"الاستقلال" يعلق الصحفي الفلسطيني محمد حامد" بالقول “إن العلاقة بين أهل غزة ومصر علاقة مصير واحد مشترك، تجمعهم روابط الإسلام والعائلة والنسب”.
وتابع: "فكثير من أهل غزة متزوجون من مصر، حتى أنا أمي مصرية وأخوالي من محافظة الفيوم".
وأتبع: "هناك قصة مشهورة حدثت عام 1957 وتتناقلها الأجيال، للشاب الغزاوي محمد المشرف، الذي تسلق سارية علم السرايا الحكومية في غزة لينزل علم قوات الطوارئ الدولية ويرفع العلم المصري".
وأضاف: "كان سبب فعلته ردا على شائعات انتشرت آنذاك بشأن تدويل قطاع غزة، بعد هزيمة إسرائيل وفشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956".
وأتبع: "محمد المشرف قتل في ذلك اليوم، ودفع حياته ثمنا للدفاع عن غزة وعروبتها، وعمق ارتباطها بمصر".
وشدد على أن "علاقة المصريين بغزة، ستبقى حقيقة متجاوزة الجغرافيا والسياسة، ولن ينجح أي حدث طارئ في إلغائها، مهما طال الزمن".