من بوصاصو إلى دارفور.. كيف تدير أبوظبي حربا بالوكالة ضد الجيش السوداني؟

داود علي | منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في مطلع يوليو/ تموز 2025، نشرت مجلة "أفريكا إنتيليجنس" الفرنسية تحقيقا أعاد رسم خريطة الصراع في السودان، لم تكن فيها ساحات القتال بدارفور أو الخرطوم، بل كان مسرح العمليات مطارا صغيرا على الساحل الصومالي.

هذا المطار يقع في مدينة بوصاصو بأقصى شمال شرق الصومال في إقليم بونتلاند شبه المستقل. 

وهذا المطار ظل لسنوات بعين المدنيين مرفقا عاديا للنقل الجوي، لكنه في الحقيقة كان عقدة لوجستية سرية في شبكة تسليح معقدة تديرها الإمارات لصالح قوات الدعم السريع السودانية المتمردة بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي".

بحسب التحقيق الفرنسي، فإن مطار بوصاصو لم يعد مجرد مرفق للنقل المدني، بل تحول إلى حلقة مفصلية في جسر جوي ممتد من قواعد إماراتية إلى قلب دارفور. وفي ظله، تتحرك الطائرات، والمرتزقة، والأسلحة، بعيدا عن أعين الرقابة الدولية.

وتدفع كواليس تلك الشبكة المعقدة بتساؤلات من قبيل، من يديرها؟ وكيف تعمل؟ ولماذا باتت مدينة صومالية ساحلية قلبا نابضا لحرب تمزق أوصال السودان؟

منشأة مدنية بواجهة عسكرية

على سواحل خليج عدن، في مدينة بوصاصو الهادئة شمالي الصومال، لم يكن أحد يتخيل أن مطارها الصغير سيتحول إلى نقطة ارتكاز في واحدة من أكثر الشبكات العسكرية سرية وتعقيدا في المنطقة.

في عام 2021، تسلّمت شركة إماراتية تدعى "BIAC" إدارة المطار المدني في المدينة. 

ورغم أن الإعلان الرسمي ركز على تنمية البنية التحتية وخدمة الملاحة الجوية، فإن خلف الكواليس كانت هناك ترتيبات موازية جرت بهدوء.

"BIAC" مملوكة لمجموعة "Terminals Holding"، وهي شركة تابعة لصندوق أبوظبي التنموي الذي يرأسه مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد، أحد أبرز مهندسي الاستراتيجية الأمنية الإماراتية في إفريقيا.

خلال عامي 2023 و2024، رصدت أعمال بناء في جزء مغلق من المطار، لم يُسمح بدخوله سوى لعناصر إماراتية، حيث أنشئت حظائر للطائرات المسيرة وغرف عمليات. 

وبدأ يظهر نمط متكرر لحركة طائرات شحن عملاقة، أبرزها من طراز "Ilyushin IL-76"، التي حولت المدينة إلى نقطة توقف إستراتيجية في طريق عبور السلاح إلى السودان.

ومنذ اندلاع الحرب في السودان، تحول مطار بوصاصو إلى محطة مركزية في جسر جوي لوجستي يغذي مليشيا الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).

وبحسب مصادر استخباراتية ومراقبين جويين، لـ "أفريكا انتيليجنس"، تقلع طائرات الشحن من قواعد إماراتية كقاعدة الظفرة العسكرية في أبوظبي، وتمر عبر بوصاصو، ثم تواصل رحلتها إلى وجهات في تشاد أو السودان، مثل نجامينا ونيالا، أو عبر طرق التفافية نحو ليبيا.

اللافت أن شركتين هما "نيو واي كارغو" و"جيوان للطيران" تقفان في قلب هذه الشبكة.

"جيوان"، رغم تسجيلها في قيرغيزستان، مملوكة فعليا لمجموعة إماراتية مرتبطة بـ"إثمار الدولية القابضة"، التي يسيطر عليها حمدان بن زايد، شقيق ولي عهد أبوظبي. 

وتظهر بيانات الطيران أن هذه الطائرات تطفئ أجهزة التتبع بمجرد دخولها المجال السوداني.

وفي مايو/ أيار 2025، استقر معدل هذه الرحلات عند 15 رحلة شهريا، بعد أن بلغ ذروته مطلع 2024 خلال الحملة العسكرية الكبرى لقوات الدعم السريع على غرب السودان.

وكانت الانتقادات الدولية المتزايدة قد أجبرت الإمارات على تقليص رحلاتها إلى مطار أم جرس شرق تشاد، ليحل محله مطار بوصاصو. 

كما واجهت صعوبات لوجستية وأمنية أعاقت استخدامها المنتظم لمطار نيالا، ما دفعها لتعزيز اعتمادها على مرفق بوصاصو كمركز بديل ومرن لا يخضع للرقابة الدولية الفعلية.

مرتزقة ورادارات

وكشفت صحيفة "لا سيلا فاسيا" الكولومبية أن شركة "GSSG" الأمنية الإماراتية أرسلت مئات المرتزقة الكولومبيين إلى السودان عبر معسكرات مؤقتة داخل مطار بوصاصو.

وأن بعض هؤلاء المرتزقة سبق لهم العمل ضمن قوات خفر السواحل المحلية التي أنشأتها الإمارات لتدريب شرطة بونتلاند البحرية منذ عام 2010، ما منحهم خبرة لوجستية محلية تسهل تحركاتهم دون إثارة الانتباه.

وفي 3 مايو 2025، قصفت طائرات سودانية من طراز "بيرقدار TB2" تركية الصنع، مطار نيالا في دارفور، مستهدفة طائرة يشتبه بأنها تقل مقاتلين كولومبيين، مما أدى إلى توتر بالغ بين أبوظبي والخرطوم.

الرد الإماراتي حينها لم يتأخر، حيث شنت أبوظبي، عبر وكلائها من قوات الدعم السريع، قصفا على منشآت عسكرية في بورتسودان، معقل الحكومة السودانية الرسمية، استمر لستة أيام متتالية. 

وتحدثت مصادر محلية سودانية حينها على مواقع التواصل الاجتماعي عن احتمال انطلاق الطائرات المسيرة من منشآت في شمال الصومال، يعتقد تحديدا أنها من مطار بوصاصو. 

وفي سياق متصل، كشف موقع "ميدل إيست آي" البريطاني في تقرير نشر بتاريخ 25 أبريل/ نيسان 2025، أن الإمارات قامت بنشر نظام رادار عسكري متقدم إسرائيلي الصنع من طراز "ELM-2084" في محيط مطار بوصاصو. وذلك بهدف توفير إنذار مبكر ضد التهديدات الجوية، وعلى وجه الخصوص الطائرات المسيرة والصواريخ التي قد تطلقها جماعة الحوثيين من اليمن.

وأظهرت صور أقمار صناعية التقطت في أوائل مارس/ آذار 2025، أن الرادار، وهو من نوع "3D AESA" الممسوح ضوئيا وإلكترونيا، قد جرى تركيبه على مقربة من المدرج الرئيس للمطار. 

وبحسب التقرير، جاء نشر الرادار مباشرة بعد فقدان قوات الدعم السريع سيطرتها على معظم العاصمة السودانية الخرطوم، ما دفع الإمارات إلى تعزيز إجراءاتها الدفاعية في بوصاصو خشية استهداف منشآتها هناك بهجمات انتقامية من خارج الحدود، خاصة من الحوثيين الذين سبق لهم استهداف منشآت في العمق الإماراتي.

ووفقًا لمصدر إقليمي تحدث للموقع، فإن عمليات نقل الأسلحة عبر مطار بوصاصو لم تتوقف، بل تسارعت خلال الأشهر الماضية. 

إذ تستخدم الطائرات الإماراتية لنقل شحنات كبيرة من الذخائر والمعدات العسكرية إلى قوات الدعم السريع، أحيانا بمعدل خمس شحنات دفعة واحدة، مما يعزز الترجيحات بأن المطار تحول فعليا إلى قاعدة عمليات لوجستية مفتوحة.

التقرير أشار أيضا إلى أن هذا التوسع العسكري يجري دون أي غطاء قانوني واضح. 

تحايل على السيادة

فقد أكد مصدران صوماليان للموقع البريطاني، أن رئيس إقليم بونتلاند، سعيد عبد الله ديني، لم يحصل على موافقة الحكومة الفيدرالية في مقديشو، ولا حتى من برلمان بونتلاند، بشأن السماح بنشر الرادار أو استخدام المطار لأغراض عسكرية.

ووصف أحد المصادر هذه الترتيبات بأنها "صفقة سرية" تتجاوز المؤسسات الرسمية، حتى داخل حكومة بونتلاند نفسها، مرجحًا أن تجرى إدارة التنسيق بشكل مباشر بين ديني والسلطات الإماراتية.

كما أكد المصدر ذاته ورود تقارير عن إعادة نشر مجموعات مرتزقة نقلوا جوا إلى مطار بوصاصو في طريقهم إلى السودان، وهو ما يعيد تسليط الضوء على نشاط شبكة المرتزقة التي تديرها الإمارات في القارة الإفريقية، وعلى استمرار تغييب مؤسسات الدولة الصومالية عن ترتيبات أمنية وعسكرية تجري على أراضيها.

ويشار إلى أن العلاقات بين الإمارات والصومال تشهد تاريخا من التداخل الأمني والاقتصادي، فقد سبق لأبوظبي أن مولت تدريب وحدات من الشرطة والجيش الصومالي. 

كما قدمت مساعدات مالية مباشرة لحكومات محلية في مقديشو وبونتلاند، قبل أن تتجه لاحقا إلى توظيف تلك العلاقات في شبكات نفوذ خارجة عن إطار الدولة.

وفي تطور لافت، سلط الكاتب التركي "تونتش دميرتاش" في مقال نشر بصحيفة صباح التركية بتاريخ 3 مايو 2025، الضوء على التحول الاستراتيجي الخطير الذي تشهده مدينة بوصاصو. 

وأشار إلى أن ساحة الصراع الجيوسياسي في المنطقة لم تعد تقتصر على العواصم، بل امتدت إلى الموانئ والمطارات الواقعة على أطراف المحيط الهندي والبحر الأحمر، حيث يجري إعادة رسم خرائط النفوذ بهدوء.

ورأى دميرتاش أن ما يحدث في بوصاصو لا يقل خطورة عما يدور في عواصم النزاع التقليدية، بل يمثل نموذجا لما وصفه بـ"التحايل على السيادة"، حيث تستغل المناطق الهشة والسلطات المحلية خارج إطار الدولة المركزية لإقامة بنى عسكرية واستخباراتية تخدم أجندات خارجية.

وأشار الكاتب إلى أن صور الأقمار الصناعية وسجلات الطيران الأخيرة كشفت وقائع لا يمكن تجاهلها أو التعامل معها كتفاصيل هامشية، من تركيب نظام رادار إسرائيلي الصنع إلى تسيير طائرات شحن عسكرية تنقل عبرها الأسلحة إلى مليشيا الدعم السريع في السودان. 

وكل ذلك يحدث دون علم أو موافقة الحكومة الفيدرالية الصومالية، في خرق واضح للسيادة الوطنية ولأحكام القانون الدولي.

وأكد أن ما يدار في بوصاصو ليس مجرد نشاط لوجستي محدود، بل "سلسلة عمليات استخباراتية وعسكرية ممنهجة" تتم برعاية إماراتية  إسرائيلية، وتستفيد من تسهيلات قدمتها سلطات إقليم بونتلاند. 

وهو ما يشكل وفق تعبيره، اختراقا مباشرا لكيان الدولة الصومالية وتحديا خطيرا لمبدأ وحدة أراضيها.

وشدد الكاتب التركي على أن القانون الدولي، وتحديدا ميثاق الأمم المتحدة، لا يترك مجالا للتأويل، لا يحق لأي دولة أن تنفذ عمليات عسكرية أو تنشر أنظمة دفاعية على أراضي دولة أخرى دون موافقة صريحة من سلطاتها السيادية. 

لكن ما يحدث في بوصاصو يكشف عن منهج جديد تعتمده بعض القوى الإقليمية لتجاوز العواصم الضعيفة والتفاوض مع الأطراف المحلية، ما يقوض الشرعية السياسية ويكرس الانقسامات الداخلية.

وأضاف محذرا: "الأكثر خطورة من كل ذلك أن هذه البنية العسكرية والاستخباراتية التي ترسخت في بوصاصو لا تستخدم للدفاع عن الصومال أو تعزيز استقراره، بل تسخر في حرب أهلية دامية في السودان عبر دعم مليشيا متهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية".

ليطرح في ختام مقاله تساؤلا لاذعا: “هل يعقل أن تتحول أرض صومالية إلى منصة لتصدير السلاح والمرتزقة إلى نزاعات إقليمية؟ وإذا جرى التغاضي عن ذلك اليوم، فما الذي يمنع تكرار السيناريو نفسه في مدن ساحلية أخرى تعاني من الهشاشة نفسها؟”