مفوضية حوض النيل.. هل تكون أول طلقة في الحرب بين مصر وإثيوبيا؟
الاتفاق "غير ملزم ويخالف مبادئ القانون الدولي"
صبت إثيوبيا وقودا على نار الخلافات مع مصر والسودان، عبر خطوة جديدة تنذر بتصعيد النزاع والتوتر فيما يتعلق بالحقوق في مياه نهر النيل.
فكما كان متوقعا، أعلنت إثيوبيا في 13 أكتوبر/تشرين أول 2024 دخول اتفاقية الإطار التعاوني لحوض نهر النيل المعروفة باسم “عنتيبي” حيز التنفيذ.
وهو ما يعني إلغاء "مبادرة حوض النيل" بين الدول الـ 11 المطلة على هذا النهر، والتي يعود تاريخها إلى عام 1999.
وأيضا بدء العمل بإطار جديد يُسمى "مفوضية حوض النيل"، وهي بمثابة لجنة لإدارة النهر، لا تعترف بحقوق مصر والسودان المائية في اتفاقيات 1929 و1959.
شرعية الاتفاقية
ولأن هذه اللجنة لها تفويض وسلطة أوسع، واعتراف دولي، عدت الخارجية الإثيوبية، خطوة تدشينها "تصحيحا لأخطاء تاريخية"، لضمان "الاستخدام العادل"، للمياه.
فيما أكد بيان مصري سوداني 14 أكتوبر 2024 أن الاتفاق "غير ملزم ويخالف مبادئ القانون الدولي"، ما يعني دخول الصراع بين دول منابع النيل، خاصة إثيوبيا وأوغندا، ودول المصب (مصر والسودان) مرحلة الصدام المباشر وحروب المياه.
وبذلك تنتقل المعركة من صراع حول ملء سد النهضة بدون تنسيق واتفاق تنظيمي مع مصر يمنع عنها العطش وقت الجفاف، إلى سعي إثيوبيا لحرمان القاهرة حتى مما تأخذه من مياه النيل وإلغاء حصتها السنوية.
لذا يتوقع خبراء مياه أن تصبح "لجنة عنتيبي لإدارة نهر النيل" الطلقة الأولى في حرب مصرية إثيوبية، خاصة أن هناك تصعيدا فعليا بين البلدين، وأنباء عن محاولات مصرية لحصار إثيوبيا عبر اتفاقات مع الصومال وإريتريا والسودان.
ويبدأ تفعيل الاتفاقية ودخولها حيز التنفيذ بعد 60 يوما من إيداع وثيقة التصديق لدى الاتحاد الإفريقي.
وكان الخلاف بين دول المنابع والمصب، هو تحديد نسبة "الثلثين"، فحين طُرحت الاتفاقية لتصديق دول حوض النيل عام 2010، كان عدد دول النيل 10، ولاحقا تم عد جنوب السودان العضو رقم 11 بعد استقلالها عام 2011.
إذ تمسكت إثيوبيا ودول المصب الموقعة على الاتفاق بأن توقيع وتصديق جنوب السودان يعني 6 من 10 دول أي أغلبية الثلثين.
لكن دول المصب عدد العدد 6 أو حتى 7 لا يعادل الثلثين، وحتى لو وقعت أغلبية فلن تعترف باتفاقية تسلبها حقوقها في الحياة أي المياه.
الباحث في شؤون المياه "هاني إبراهيم" قال إن هذا يعني أن اتفاق عنتيبي "غير شرعي وغير قانوني" لأنه ينص على "قاعدة موافقة الثلثين" من دول حوض النيل، وهناك 6 دول فقط من أصل 11 وقعت.
أضاف أن المادة 43 في اتفاق عنتيبي اشترطت تصديق 6 بلدان، عندما كان عدد الدول في الحوض 10.
لكن لاحقا نشأت دولة جديدة، هي جنوب السودان، فأصبح العدد 11 وبالتالي قانونيا هناك خطأ في مادة تفعيل عنتيبي.
وذلك لأن ثلثي الأصوات في حالة 10 دول تعادل 6.6 وفي حالة 11 دولة تعادل 7.3، وحتى هذا سيكون مخالفا لقاعدة التصويت من جانبي ثلثي أعضاء دول النيل.
ويقول أستاذ الموارد المائية في مصر عباس شراقي، إن إعلان إثيوبيا دخول اتفاقية عنتيبي حيز التنفيذ لا يلزم مصر أو السودان بقرارات دول المنابع ولا يعطيها الشرعية الدولية.
أكد لموقع "أفرو نيوز 24"، 13 أكتوبر 2024، أنها ببنودها الحالية التي لا تعترف بالاتفاقيات السابقة أو الاستخدامات التاريخية لمياه النيل، وتعطى دول المنابع الحق في إقامة مشروعات مائية دون الرجوع أو التشاور أو التنسيق مع دول المصب، اتفاقية غير شرعية.
أرجع ذلك إلى أن دول المنابع هي التي وضعت بنود الاتفاقية، وقررت بأن تدخل حيز التنفيذ بعد مرور 60 يوما من إيداع الدولة السادسة تصديقها لدى الاتحاد الإفريقي.
وبالتالي فهي لا تحظى بالشرعية الدولية، ولا يعطى هذا المؤسسات الدولية الحق في التعاون أو تقديم الدعم في مشروعات على نهر النيل من شأنها الإضرار مصر والسودان.
خلاف متعاظم
هذا الخلاف بشأن "عنتيبي" لم يكن الأول بين دول حوض النيل التي ترغب في حرمان مصر والسودان من حصصهما في الاتفاقيات التاريخية عامي 1929 و1959، بحجة أن من وقع الاتفاقيات هي بريطانيا، أي الاستعمار الذي كان يحتل تلك الدول.
فقد تفاقم اختلاف المواقف بين دول المنبع ودولتي المصب مصر والسودان مع تمسك الأخيرتين بما عدتاه "استخدامات تاريخية وحقوقا مكتسبة في مياه النيل".
وطالبتا بإشارة صريحة إلى تلك "الاستخدامات والحقوق"، التي أطلقتا عليها "الأمن المائي" في اتفاقية عنتيبي الإطار الشامل.
وهو الطلب الذي قوبل بالرفض الشديد من قبل دول حوض النهر الأخرى التي تمترست خلف شعار "الاستغلال المنصف"، أي تحديد نصيب كل دولة من الـ 11 وإلغاء "الحقوق المكتسبة" في نهر النيل.
واعترضت مصر والسودان على صياغة المادة 14 (ب)، التي تنص على اتفاق دول حوض النيل على "عدم التأثير بشكل كبير على الأمن المائي لأي دولة أخرى"، لأن هذه عبارة هلامية لا تضمن الحقوق التاريخية المكتسبة.
واقترحت الدولتان صياغة بديلة للمادة تنص على "عدم التأثير بشكل كبير على الأمن المائي والاستخدامات الحالية وحقوق أي دولة أخرى في حوض النيل"، وهو ما رفضته دول المنبع بدورها.
وذلك لأنه يبقي على نسب تحصل عليها مصر والسودان بموجب اتفاقيات 1929 و1959.
وتحول الصراع إلى تطبيق غير مباشر للاتفاق مع جمود اتفاق "عنتيبي" رغم توقيع 6 دول من أصل 11، وسعي إثيوبيا لفرض أمر واقع، بإرادة منفردة، على مصر والسودان، عبر إنشاء سد كبير هو "النهضة"، وحجز 72 مليار متر مكعب مياه فيه.
ورفضت إثيوبيا أي اتفاقات تجبرها على عدم حجز المياه في موسم الجفاف واستمرت في بناء السد وملئه.
وأكد مدير مشروع سد النهضة كيفلي هورو، أن السد اكتمل بنسبة 99,5 بالمئة، ووصل الملء لنسبة 100 بالمئة في سبتمبر/أيلول 2024.
وقد أكدت الهيئة الفنية الدائمة المشتركة لمياه النيل بين مصر والسودان في 12 أكتوبر 2024 أن "اتفاقية عنتيبي" غير ملزمة لأي من الدولتين، ليس فقط لعدم انضمامهما إليها، وإنما أيضا لمخالفتها مبادئ القانون الدولي العرفي والتعاقدي.
وشددتا على أن مفوضية الست دول الناشئة عن الاتفاق الإطاري غير المكتمل "لا تمثل حوض النيل في أي حال من الأحوال".
ورفضتا "اتخاذ إجراءات أحادية تسهم في الانقسام بين دول المنابع ودول المصب بحوض نهر النيل".
ويمنح الاتفاق القاهرة والخرطوم مهلة عام واحد للانضمام إلى المعاهدة.
ويستند الموقف القانوني المصري الرافض لـ "عنتيبي" لحكم قديم لمحكمة العدل الدولية، صدر عام 1989، ينص على أن اتفاقيات المياه لا تختلف عن اتفاقيات الحدود، وبالتالي لا يجوز تعديلها بشكل أحادي أو من دون موافقة الأطراف المعنية.
مخاطر جدية
خطورة تفعيل اتفاق عنتيبي ودخوله حيز التنفيذ هي أنه ينهي فعليا وقانونيا، الحصص التاريخية لمصر (55.5 مليار متر مكعب) والسودان (18.5 مليار متر مكعب) وفقا لاتفاقيات 1929 و1959، ويعد هذه الاتفاقيات "استعمارية" غير ملزمة، كما يصفها الإثيوبيون.
كما أن تفعيل الاتفاقية وبدء تنفيذها، معناه السماح لدول حوض النيل الأخرى، بخلاف إثيوبيا، ببناء سدود ومشاريع على طول النهر تحبس كميات من المياه عن دول المصب (مصر والسودان) وبدون موافقة الدولتين.
إذ سيلغي الاتفاق الحظر التاريخي على دول المنبع لإقامة منشآت على ضفاف النيل قد تعوق تدفق مياهه لدول المصب.
كما يلغي الفيتو المصري على تلك المشروعات، ويجعل شرط موافقة القاهرة للمضي قدما، لاغيا أيضا.
لذا يتركز الرفض المصري السوداني على ضرورة أن تتضمن مجموعة من المبادئ الأساسية، أبرزها، الاعتراف بالحقوق التاريخية لهما في مياه النيل، ووجوب الإخطار المسبق عن أي مشروعات تقام على النهر.
بجانب عدم تعديل أي من بنود الاتفاقية إلا بإجماع الدول الموقعة كافة، بما في ذلك دولتا المصب حتى لا تنفذ دول المنبع مشروعات مائية كبيرة تستهلك كميات كبيرة من مياه النيل، وتهدد نصيب مصر والسودان منها.
خطورة "عنتيبي" أيضا أنه سينقل النفوذ على نهر النيل من دولتي المصب إلى دول المنبع، بعد عدم الاعتراف بالحقوق ويفتح الباب لإعادة تقسيم حصص المياه بين دول الحوض بما يراعي نسبة إسهام كل منها.
كما سيجعل سد النهضة الإثيوبي شرعيا وقانونيا، وليس من حق مصر أن تعترض عليه أو تطلب من إثيوبيا توقيع اتفاق ضمانات لعدم تعرض القاهرة للجفاف وقت الفيضان الضعيف.
والأخطر أن "عنتيبي" سيجعل لدى إثيوبيا سلاحا آخرا تحارب به مصر، بخلاف سد النهضة، هو السعي لحرمانها من حصتها السنوية من مياه النيل، وعدها غير معترف بها من جانب لجنة إدارة النيل الجديدة.
وظهر هذا في تصريح استفزازي لوزير خارجية إثيوبيا تايي أتسقى سيلاسي عقب دخول "عنتيبي" حيز الاتفاق.
إذ ربط طلب مصر من إثيوبيا توقيع اتفاق بشأن ضمانات سد النهضة، "بانضمام القاهرة إلى اتفاقية عنتيبى أولا إذا أرادت توقيع اتفاقا قانونيا ملزما معنا".
وينص البند الأول في اتفاق عنتيبي والمرفوض من جانب مصر والسودان في "الحق بإقامة المشروعات، دون الرجوع للدول الأخرى، مما يتعارض مع الاتفاقيات الدولية لأن هناك دولا أخرى مشتركة في النهر".
أيضا لا تعترف "عنتيبي" بالاتفاقيات السابقة، سواء 1892، أو 1929 أو 1959، والتي تحدد حصصا مائية محددة لمصر وأخرى للسودان في النيل.
وفى عنتيبى أيضا جرى إلغاء حق الاعتراض لدولتي المصب على إنشاء السدود ونقل المياه، وإلغاء مبدأ الإخطار المسبق من دول المنابع لبناء السدود إلى الدول المحتمل تضررها من بنائها.
وذلك على الرغم من كونه مبدأ أمميًّا أقرته اتفاقية الأمم المتحدة للأنهار العابرة للحدود والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2007، بحسب ما قال أستاذ الموارد المائية المصري نادر نور الدين في مقال بصحيفة "المصري اليوم" 14 أكتوبر 2024.
إذ اشترطت هذه الاتفاقية الأممية، إخطار دول المصب بسدود دول المنابع وإعطاءها فترة ستة أشهر قابلة للتمديد إلى ستة أشهر أخرى.
وإذا رفضت، يجرى اللجوء إلى الأمم المتحدة. ولكن إثيوبيا ضربت بالقوانين الأممية عرض الحائط، وفق "نور الدين" الذي وصف الاتفاق بأنه "مؤامرة عنتيبي".
حرب قادمة؟
ويقول أستاذ الشؤون الإفريقية بجامعتي القاهرة وزايد "حمدي عبد الرحمن"، إن الاتفاقية ستحقق بذلك مقولة إن "الحرب القادمة ستكون على المياه".
توقع، في مقال بموقع "قراءات إفريقية" 18 يوليو/تموز 2024، أن تؤدي الاتفاقية إلى توترات متزايدة بين دول حوض النيل، مما يزيد من احتمال حدوث نزاعات مائية حول الحقوق.
أشار إلى أن هذا الوضع قد يتفاقم بسبب التأثيرات الاقتصادية السلبية على الأنشطة الزراعية والصناعية في مصر والسودان، اللذين يعتمدان بشكل كبير على مياه النيل.
وكان رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، قال يوم 14 أكتوبر 2024، وعقب إعلان تفعيل اتفاق عنتيبي إن "سد النهضة يفقد مصر 15 بالمئة من رقعتها الزراعية"، ليبين التأثير السلبي للمشروعات المقامة على النيل بدون موافقة مصر.
وحذر مدبولي في افتتاح "أسبوع القاهرة للمياه"، من تداعيات سد النهضة الإثيوبي، قائلا: "قد يفقد أكثر من مليون ومائة ألف شخص سبل عيشهم، مع فقدان ما يقرب من 15 بالمئة من الرقعة الزراعية، ما يشكل تهديدا لزيادة التوترات الاجتماعية والاقتصادية".
ودعا وزير الري المصري هاني سويلم دول حوض النيل الموقعة على الاتفاقية إلى "مراجعة موقفها والتعاون بما لا يضر بأي من دول المنطقة".
أضاف، خلال "أسبوع القاهرة للمياه"، أن مصر "لن تتنازل عن متر مكعب واحد من مياه النيل وترفض بشدة اتفاقية عنتيبي بشكلها الحالي".
لكن مدير منصة نيلوتيك الإثيوبية "نور الدين عبدا"، نصح دولتي المصب أن تقبلا وتنضما لاتفاقية عنتيبي "اليوم قبل الغد".
وحذر من أن "ما هو معروض الآن لن تجدوه على الطاولة بعد عقد من الزمان"، ضاربا المثل بـ "قضية فلسطين التي نتباكى عليها اليوم بسبب قصر النظر"، وفق تعبيره.
وتتخوف مصر من بناء دول أخرى للسدود، حيث أعلنت أوغندا وجنوب السودان عن خطة مشتركة لبناء سدين على نهر نمور، أحد روافد النيل الأبيض، بميزانية قدرها 96 مليون دولار، لتوفير الري الزراعي وتنمية إمدادات المياه والموارد الحيوانية، بالإضافة إلى توليد الكهرباء.
أيضا تخطط كينيا لإنشاء شبكة من السدود ذات سعة تخزينية تتراوح بين 8 و14 مليار متر مكعب، بينما تخطط إثيوبيا لبناء ثلاثة سدود كبيرة على النيل الأزرق بالإضافة إلى سد النهضة، وفق ما قال موقع "atalayar" في 16 أكتوبر 2024.
ويتوقع الخبراء أن يؤدي تمرير اتفاق عنتيبي، إلى لجوء كل من مصر والسودان إلى التحكيم الدولي أو محكمة العدل الدولية لحل النزاعات المتعلقة بتوزيع المياه، خصوصا أن دخول الاتفاقية حيز التنفيذ سيجلب اعتراف منظمات مياه دولية به.
وقال السكرتير الدائم لوزارة الخارجية الأوغندية، فنسنت باجيري، لوكالة الأنباء الفرنسية 14 أكتوبر، إنه كان من المقرر عقد قمة لدول نهر النيل في أوغندا في 17 من نفس الشهر لكنها تأجلت إلى مطلع العام 2025، رافضا ذكر السبب.
لكن تقديرات خبراء مياه أشارت إلى أن القمة تأجلت بسبب خلافات بين الدول حوض النيل ورغبة في إعطاء فرصة أخيرة للوصول إلى حل قبل أن يتحول الصراع بعد عنتيبي إلى حرب مياه علنية، وصراعات مسلحة.
إلا أن الخبير الإثيوبي المتخصص في الشؤون الإفريقية ودول حوض النيل "عبد الشكور عبد الصمد"، قال لشبكة "بي بي سي" البريطانية 16 أكتوبر 2024 إن هذا الاجتماع ليس له علاقة بدخول الاتفاقية حيز التنفيذ.
أكد أنه "مجرد لقاء تشاوري"، لكن وفق الاتفاقية فإن الدول الموقعة عليها ستشرع بشكل فوري في إنشاء "مفوضية" خاصة بتنظيم استخدام مياه نهر النيل والمشروعات التي تقام عليه.