"لا يفهم برازيل اليوم".. لماذا تتحول الطبقة الوسطى عن داسيلفا إلى اليمين؟
"من المفارقات أنه يُنسب إلى لُولا الفضل في خلق هذه الطبقة المتوسطة الدنيا الجديدة"
مع خروج مظاهرات فئوية في البرازيل ضد سياسات الرئيس اليساري لُولا دا سيلفا، تتصاعد تساؤلات بشأن هذه الهوة التي باتت واضحة بين فئات عريضة من الشعب الكادح والقيادات اليسارية المعروفة بدعمها التاريخي للعمال.
في هذا السياق، نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية مقالا للدبلوماسي السابق في وزارة الخارجية البرازيلية، فيليبي كراوس، ادعى فيه أن "لُولا لم يعد يفهم برازيل اليوم".
تحولات ديموغرافية
واستهل الكاتب مقاله بالقول: لا يبدو أن حزب العمال (حزب لولا) ولا حلفاءه في اليسار قد فهموا بشكل كامل التحولات الديموغرافية الهائلة التي حدثت على مدى العقدين الماضيين في البرازيل.
ففي 4 مارس/آذار 2024، أرسل دا سيلفا، مشروع قانون طموحا إلى المجلس الوطني البرازيلي (الكونغرس)، يهدف إلى تنظيم عمل التطبيقات المختصة بنقل الركاب.
وتضمّن مشروع القانون الحد الأدنى للأجور وساعات العمل، بالإضافة إلى انضمام السائقين إلى النقابات ومساهمات المعاشات التقاعدية الإجبارية.
وأثناء الإعلان عن مشروع القانون، صرح وزير العمل البرازيلي، لويز مارينيو، أن السائقين مازالوا يعانون حتى الآن من "شعور زائف بالحرية"؛ لأن "العمال كانوا مستعبدين لساعات العمل الطويلة والأجور المنخفضة".
وأشار الكاتب إلى أن "رد الفعل الشعبي على مشروع القانون يصور واقعا أكثر تعقيدا". فقد نظم السائقون احتجاجات في جميع أنحاء البلاد، في وقت يواجه فيه مشروع القانون معركة شاقة في الكونغرس البرازيلي.
ويرى المتظاهرون أن الإجراءات الجديدة غير مفيدة، بل ربما تكون ضارة. وكما أشارت إحدى السائقات، فهي تكسب أموالها على أساس عدد الكيلومترات التي تقطعها، وليس ساعات العمل.
وقال الدبلوماسي السابق: "على الرغم من أنهم لا ينكرون بالتأكيد أنهم يواجهون ظروف عمل صعبة، فإن السائقين يشككون بشدة في مشروع القانون، ويشعرون أنه قد يؤثر على أرباحهم".
وبعيدا عن مجرد الأبوية العتيقة والمتعالية، يعكس مشروع القانون قناعات عميقة الجذور لدى زعماء “حزب العمال” وأغلبهم من كبار السن والذكور، بحسب المقال.
"فقد نشأ حزب العمال في بوتقة الإضرابات الضخمة لعمال المعادن في أواخر السبعينيات، عندما كان النظام العسكري في البلاد يخفف القيود المفروضة على التعبئة الشعبية، وبدأ عمال المصانع في ساو باولو في استعراض عضلاتهم".
وتابع: "كما أدت هذه التجارب الناجحة إلى ترسيخ أحد أشكال الوساطة الرئيسة بين قادة حزب العمال وأنصاره، حتى مع نمو الحزب إلى ما هو أبعد من منطقة ساو باولو الحضرية، التي تمثل اتحاد المصانع التقليدي".
والمشكلة -بحسب الكاتب- هي أنه لا يبدو أن حزب العمال ولا حلفاءه في اليسار قد فهموا بشكل كامل التحولات الديموغرافية الهائلة التي حدثت على مدى العقدين الماضيين.
خيبة أمل
وكما لاحظ الرئيس البرازيلي السابق اليميني، جايير بولسونارو، قبل بضع سنوات، فبالإضافة إلى توجهها المحافظ القوي، باتت البرازيل دولة تنتمي باضطراد إلى الطبقة المتوسطة الدنيا، حيث يشعر فيها مواطنوها بخيبة الأمل من الفساد، وحالة الخدمات العامة، وبيئة الأعمال بشكل عام.
وعلى هذا النحو، يؤكد الكاتب أنه لابد من تجديد الرسائل السياسية لليسار البرازيلي بحيث تناسب ما يقرب من 100 مليون شخص يندرجون في هذه الفئة.
وأفاد بأنه "على عكس بولسونارو وغيره من القادة اليمينيين الذين ينجحون بشكل متزايد في الحصول على دعم تلك الفئات، فإن "لُولا" عانى لينال دعمها".
ويرى أنه "إلى حد ما، جاء فوز "لُولا" في عام 2022 نتيجة لرفض الناخبين لبولسونارو، أكثر من كونه نتيجة لتأييدهم لـ"لُولا"، واصفا الفوز بأنه كان "هامشيا بشكل لا يصدق".
والجدير بالذكر أن "لُولا" فاز على "بولسونارو" بـ 50.9 بالمئة من الأصوات في الجولة الثانية للانتخابات، التي عُقدت في أكتوبر/تشرين الأول 2022.
ويعتقد الكاتب أن "مع وجود مرشح أقل تصادمية وأكثر كفاءة على ما يبدو من الناحية الإدارية، مثل حاكم ساو باولو (والوزير السابق لبولسونارو)، تارسيسيو دي فريتاس، فيمكن لليمين المتطرف أن يهزم اليسار التقدمي مرة أخرى".
وأضاف "حزب العمال يدرك هذا جيدا، فقد كان المقصود من مشروع القانون -الذي صُمم بشكل سيئ- إغراء "العاملين على تلك المنصات" البالغ عددهم 1.5 مليون شخص في البلاد".
وهؤلاء هم الأشخاص الذين يأتي دخلهم في المقام الأول من الخدمات التي تسهلها المنصات الرقمية.
ويؤكد الكاتب أن المشكلة تكمن في أن حزب العمال –والنقابات المرتبطة به– غير قادر على رؤية هؤلاء العمال على أنهم مجرد عمالة مستغلة.
"هذا على الرغم من أنهم يقدّرون استقلال هؤلاء العمال، الذين يكسبون 5.4 بالمئة في المتوسط أكثر من المتوسط الوطني للأنواع الأخرى من العمال".
وتساءل عن الجهة التي صُمم مشروع القانون في الأصل لإفادتها: السائقون أم النقابات الصديقة لحزب العمال؟
مفارقات لولا
ومن عجيب المفارقات التي لاحظها الكاتب هنا هي أن لُولا نفسه، أثناء ولايته الأولى كرئيس، هو الذي يُنسب إليه الفضل إلى حد كبير في خلق هذه الطبقة المتوسطة الدنيا الجديدة، التي تحوز أهمية كبيرة في الوقت الراهن.
فقد أدى نجاح سياسات لُولا الاقتصادية والاجتماعية إلى تحقيق معدلات نمو غير عادية وتقليص فجوة التفاوت الاقتصادي بين عامي 2003 و2010.
ويقول اليمين البرازيلي إن لُولا لم يكن إلا محظوظا، صادف أنه قاد البلاد في وقت صنعت فيه الأسواق الناشئة طفرة عالمية في السلع الأساسية.
وكانت البرازيل على استعداد لاستغلال هذه الطفرة، فباعت سلعا مثل الحبوب وخام الحديد إلى آسيا التي تشهد نموا سريعا. "وعندما انحسرت الطفرة، انهار اقتصاد البرازيل"، هكذا يقول اليمين البرازيلي.
ولم تتمكن خليفة لُولا التي اختارها بنفسه -الرئيسة ديلما روسيف، وهي أيضا من حزب العمال- من عكس دوامة الهبوط، الأمر الذي قدم دليلا -بحسب البعض- على عدم الكفاءة الاقتصادية لحزب العمال.
واستدرك الدبلوماسي السابق أنه "إذا كان منتقدو "لُولا" على حق، وكان كل ما فعله هو مجرد ركوب موجة من الطلب العالمي دون إرساء أسس النمو المستدام، فهو على الأقل نجح في ركوب تلك الموجة بشكل مذهل".
فقد نجح "لُولا" وإدارته في حزب العمال في انتشال 20 مليون شخص من الفقر المدقع. وأوصلت إدارته الكهرباء إلى المناطق النائية لأول مرة، وبنت ملايين المنازل، ووضعت الأموال في أيدي الناس حتى يتمكنوا من شراء الأجهزة المنزلية التي لم يكن من الممكن تصورها في السابق.
وأصبح من الأسهل الحصول على خدمات الصحة العامة، والذهاب إلى المدارس، والحصول على شهادة جامعية. كما أصبح الوصول إلى الإنترنت واسع الانتشار، وسافر الكثير من البرازيليين إلى الخارج لأول مرة في حياتهم.
وكانت السمة المميزة لهذا النجاح هي برنامج "بولسا فاميليا"، المختص بالتحويلات النقدية المشروطة والذي نال استحسانا كبيرا.
ووُضع هذا البرنامج في الأساس على فرضية مفادها أن الفقراء يحتاجون إلى الدعم، وأنهم -وليس كبار الشخصيات في الحزب- أفضل مَن يعرفون كيف يستخدمون هذا الدعم.
طبقة متوسطة ناشئة
واستدرك الكاتب: "لكن بعيدا عن الحد من الفقر، كانت نتيجة هذه السياسات توسع الطبقة المتوسطة من أصحاب المشاريع الصغيرة والمهنيين الشباب".
وأوضح أن "اليسار، بعد أن خلق هذه الطبقة المتوسطة الناشئة، تخلى عنها إلى حد كبير".
وأشار إلى أن "حزب العمال لم يتمكن من معالجة اللغز المتمثل في أن العديد من المستفيدين السابقين من السياسات الاجتماعية التقدمية هم أشخاص لديهم قيم محافظة نسبيا".
"فهم يذهبون إلى الكنيسة، ويعملون في ورديتين أو ثلاث ورديات يوميا، وغالبا ما يدرسون في المساء ليحصلوا على درجة علمية".
وقال الكاتب: "إنهم يعدون أنفسهم عصاميين لا يحتاجون إلى الدعم بقدر ما يحتاجون إلى تمهيد الطريق أمامهم".
وأوضح أنهم "لا يشعرون بأن إستراتيجية حزب العمال المزدوجة الطويلة الأمد تمثلهم، تلك الإستراتيجية القائمة على سياسات اجتماعية قوية لصالح الشرائح الأكثر فقرا، إلى جانب تقديم إعانات سخية".
"كما أن هذه الفئة تشعر بالهجوم الشخصي عندما يوبخ المثقفون اليساريون السياسيين اليمينيين وقادة الكنيسة بسبب وجهات نظرهم المحافظة".
وقال الكاتب: "لم تعد هناك وسطية في الطرح"، مؤكدا أن الأمور يجب ألا تسير بهذه الطريقة.
واستدرك بأن "هذا لا يعني أن اليسار يجب أن يتخلى عن إدانته لخطاب الكراهية الشعبوي"، وأنه "لا ينبغي لليسار أن يتوقف عن دعم أولئك الذين هم في أمس الحاجة إلى المساعدة".
لكنه يختم بالتشديد على أنه "إذا كان لليسار أن يظل مهيمنا على المستوى الانتخابي، فسيتعين عليه أن يقدم برنامجا للطبقة الوسطى الناشئة حديثا".