إسرائيل في ورطة كبيرة.. لماذا تمثل حرب غزة خطرا على المشروع الصهيوني؟
سلوك إسرائيل أخيرا ألحق ضررا خطيرا بصورتها العالمية، وأصبحت منبوذة بشكل لم يكن أحد يتخيله في السابق
تمر الإستراتيجية الإسرائيلية بحالة خطيرة من التدهور، وأن المشروع الصهيوني يزداد سوءا في الدفاع عن نفسه خلال الـ 50 عاما الأخيرة.
هذا ما خلص إليه المنظّر الواقعي الأميركي، ستيفن والت، في مقاله بمجلة "فورين بوليسي" الأميركية مؤكدا أن "إسرائيل في ورطة كبيرة، وتعاني من انقسامات حادة، ومن غير المرجح أن يتحسن وضعها".
واستطرد: "فهي غارقة في حرب غزة التي لا يمكن لها أن تنتصر فيها، وجيشها تظهر عليه علامات الإرهاق، ولا يزال احتمال نشوب حرب واسعة بينها وبين حزب الله أو إيران احتمالا قائما".
كما يعاني الاقتصاد الإسرائيلي بشدة، وذكرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أخيرا أن ما يصل إلى 60 ألف شركة قد تغلق أبوابها هذا العام.
أضرار خطيرة
وعلاوة على ذلك، أشار "والت" إلى أن "سلوك إسرائيل أخيرا ألحق ضررا خطيرا بصورتها العالمية، وأصبحت منبوذة بشكل لم يكن أحد يتخيله في السابق".
وقال والت: "بعد هجمات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تلقت إسرائيل قدرا كبيرا من التعاطف من مختلف أنحاء العالم".
"ولكن بعد أكثر من 10 أشهر، فإن حملة الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة، وتزايد عنف المستوطنين في الضفة الغربية، أهدرا تلك الموجة الأولية من الدعم".
وتقدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بطلب إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وأصدرت محكمة العدل الدولية حكما أوليا يصف الحرب الإسرائيلية على غزة بأنها إبادة جماعية في طبيعتها ونيتها، وأعلنت المحكمة أخيرا أن احتلال إسرائيل واستعمارها للضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية يشكل انتهاكا واضحا للقانون الدولي.
ويؤكد "والت" أن "فقط المدافعين عن الصهيونية الذين يدفنون رؤوسهم في الرمال هم من يمكنهم النظر إلى ما يحدث في غزة دون أن يشعروا بقلق عميق، إن لم يكن بالرعب".
وأضاف: "يتراجع الدعم في الولايات المتحدة لإجراءات إسرائيل بشكل ملحوظ، فيما يعارض العديد من الأميركيين الشباب -بمن فيهم عدد كبير من الشباب اليهود الأميركيين- رد فعل إدارة بايدن المتخاذل على أفعال إسرائيل".
وأوضح أن "من السهل إلقاء كل اللوم على نتنياهو، وهو بلا شك يستحق الانتقادات الموجهة إليه في الداخل والخارج".
تآكل مستمر
واستدرك: "لكن التركيز فقط على "بيبي" يتجاهل مشكلة أعمق، وهي التآكل المستمر في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي على مدار الخمسين عاما الماضية".
وأردف: "إن إنجازات إسرائيل وبراعتها التكتيكية خلال عقديها الأولين، غالبا ما تَحجب، خاصة في أعين الأجيال الأكبر سنا، مدى تأثير القرارات الإستراتيجية التي اتخذتها إسرائيل منذ عام 1967، وتسببها في تقويض أمنها بشكل تدريجي".
وكانت نقطة التحول -بحسب والت- هي "الانتصار المذهل الذي حققته إسرائيل في الحرب العربية- الإسرائيلية عام 1967"، وفق تعبيره.
ولم تكن النتيجة معجزة كما بدت في ذلك الوقت، فعلى سبيل المثال، تنبأت الاستخبارات الأميركية بأن إسرائيل ستنتصر بسهولة.
"ولكن سرعة ونطاق هذا الانتصار فاجأت الكثيرين، وساعدت في تعزيز الشعور الإسرائيلي بالغطرسة، الأمر الذي قوض التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي منذ ذلك الحين"، وفق المقال.
وقال والت: "كان الخطأ الرئيس -كما أكد مرارا باحثون إسرائيليون ذوو بصيرة- هو القرار بالاحتفاظ بالضفة الغربية وغزة واحتلالهما ثم استعمارهما تدريجيا، ضمن مسعى طويل الأمد لإنشاء "إسرائيل الكبرى".
وأوضح أن "رئيس الوزراء الأول لإسرائيل، بن غوريون، وأتباعه سعوا إلى تقليل عدد الفلسطينيين داخل الدولة اليهودية الجديدة، لكن الاحتفاظ بالضفة الغربية وغزة يعني أن إسرائيل أصبحت الآن تسيطر على عدد سكان فلسطينيين يتزايد سريعا، يقارب عدد السكان اليهود".
"هذه السيطرة، التي يُشار إليها عادةً بالاحتلال، خلقت توترا لا مفر منه بين الطابع اليهودي لإسرائيل ونظامها الديمقراطي".
وتابع والت: "بالتالي، يمكن لإسرائيل أن تحافظ على طابعها كدولة يهودية، فقط من خلال قمع الحقوق السياسية للفلسطينيين وإرساء نظام فصل عنصري، في زمن كانت فيه مثل هذه الأنظمة السياسية غير مقبولة من قبل عدد متزايد من الناس حول العالم".
وأضاف: "يمكن لإسرائيل أن تعالج هذه المشكلة عبر عمليات تطهير عرقي إضافية أو إبادة جماعية، لكن كلا الأمرين يُعدّان جرائم ضد الإنسانية لا يمكن لأي صديق حقيقي لإسرائيل أن يوافق عليهما".
غزو لبنان
وكانت الإشارة الواضحة التالية على تآكل التفكير الإستراتيجي هي الغزو الإسرائيلي المشؤوم للبنان في عام 1982، وفق والت.
هذا المخطط كان من بنات أفكار وزير الدفاع المتطرف، أرييل شارون، الذي أقنع رئيس وزراء إسرائيل حينها، مناحم بيغن، بأن الغزو العسكري للبنان من شأنه أن يبدد منظمة التحرير الفلسطينية (التي كان لها وجود كبير في لبنان).
"وبعدها يمكن لإسرائيل أن تنصّب حكومة موالية لها في بيروت، ويكون لها أيضا حرية التصرف في الضفة الغربية".
ويرى "والت" أن "الغزو نجح عسكريا على الأمد القريب، لكنه أدى إلى احتلال الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان، الأمر الذي أدى بدوره إلى تأسيس حزب الله، الذي أجبر إسرائيل في النهاية على الانسحاب من لبنان في عام 2000، بعد تزايد قوته".
واستطرد والت بأن "إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان لم يوقف المقاومة الفلسطينية، بل إنه مهد الطريق للانتفاضة الأولى في عام 1987، وهي إشارة واضحة أخرى إلى أن الفلسطينيين لن يتركوا وطنهم أو يخضعوا للاستعباد الإسرائيلي الدائم".
وتابع: "وبالرغم من وجود إسرائيليين تميزوا ببعد النظر أدركوا أن القضية الفلسطينية لن تختفي، فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ظلت تتصرف بطرق جعلت المشكلة أسوأ".
"على سبيل المثال، ورغم أن منظمة التحرير الفلسطينية قبلت وجود إسرائيل، بتوقيعها على اتفاقية أوسلو في عام 1993، فإن أي زعيم إسرائيلي لم يكن على استعداد قط لتقديم دولة للفلسطينيين خاصة بهم"، بحسب تأكيد "والت".
وقال: "كان أفضل عرض قدمته إسرائيل هو إنشاء كانتونين أو ثلاثة كانتونات منفصلة ومنزوعة السلاح في الضفة الغربية، مع احتفاظ إسرائيل بالسيطرة الكاملة على حدود الكيان الجديد ومجاله الجوي وموارده المائية".
وأردف: "لم تكن هذه لتكون دولة قابلة للحياة، ناهيك عن كونها دولة يمكن لأي زعيم فلسطيني شرعي أن يقبلها، ولا عجب أن يعترف وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، شلومو بن عامي، في وقت لاحق، قائلا: "لو كنت فلسطينيا، لكنت رفضت كامب ديفيد".
وأكد والت أن "تحقيق السلام مع الفلسطينيين يتطلب من إسرائيل أن تتوقف عن توسيع المستوطنات في الأراضي المحتلة، وأن تعمل مع الفلسطينيين على إنشاء حكومة كفء وفعّالة وشرعية، لكن زعماء إسرائيل -خاصة حكومات شارون ونتنياهو- فعلوا العكس".
قصر نظر
وهناك مثال أخير واضح على قصر النظر الإستراتيجي الإسرائيلي، بحسب والت، وهو معارضتها الشديدة للجهود الدولية للتفاوض على حدود البرنامج النووي الإيراني.
وقال: "لأسباب إستراتيجية وجيهة، تريد إسرائيل أن تظل الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك أسلحة نووية، ولا تريد أن ترى إيران، خصمها الإقليمي الأبرز، تمتلك قنبلة نووية".
ولذلك، يرى "والت" أنه كان ينبغي لنتنياهو وغيره من القادة الإسرائيليين أن يشعروا بالسعادة والارتياح عندما أقنعت الولايات المتحدة، والقوى الكبرى الأخرى في العالم، إيران بالتوقيع على الاتفاق النووي عام 2015.
وأرجع "والت" سبب ذلك إلى أن الاتفاق النووي يتطلب من طهران خفض قدرتها على التخصيب، وتقليص مخزونها من اليورانيوم المخصب، وقبول عمليات التفتيش شديدة التدخل من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبالتالي وضع القنبلة الإيرانية بعيدا عن متناول يد طهران لمدة عقد وربما لفترة أطول.
ولقد أيد العديد من كبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين الاتفاق بحكمة، لكن نتنياهو وأنصاره من المتشددين، إلى جانب لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك) والمجموعات الأكثر تشددا في اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، عارضوا الاتفاق بشدة.
وقال والت: "لعب هؤلاء المتشددون دورا رئيسا في إقناع الرئيس الأميركي آنذاك، دونالد ترامب، بالانسحاب من الاتفاق في عام 2018، واليوم أصبحت إيران أقرب إلى بناء قنبلة من أي وقت مضى".
ولذلك يرى "والت" أن "من الصعب أن نتخيل سياسة إسرائيلية في مثل هذا المستوى من قصر النظر".
الإفلات من العقاب
وتساءل: ما الذي يفسر التراجع الدراماتيكي في الحكمة الإستراتيجية الإسرائيلية؟ وأجاب بأن "أحد العوامل المهمة هنا هو الشعور بالغطرسة والإفلات من العقاب الذي ينبع من حماية الولايات المتحدة واحترامها لرغبات إسرائيل".
وأضاف: "إذا دعمتك أقوى دولة في العالم بغض النظر عما تفعله، فإن الحاجة إلى التفكير مليا في أفعالك سوف تتضاءل حتما".
وأردف بأن "ميل إسرائيل أيضا إلى النظر إلى نفسها بصفتها ضحية فحسب، ووصم كل معارضة لها بأنها معاداة للسامية، كل ذلك لا يساعدها على اتخاذ القرارات المثلى".
"أضف إلى ذلك النفوذ المتزايد لليمين الديني في إسرائيل، فعندما تبدأ أي دولة في اتخاذ قرارات إستراتيجية مستندة إلى نبوءات نهاية الزمان وتوقعات بالتدخل الإلهي، فإن ذلك ينذر بعواقب وخيمة"، وفق والت.
وأكد والت على أن "تصرفات إسرائيل تهدد مستقبلها في الأمد البعيد، لذا فإن أي شخص يريد لها مستقبلا مشرقا لابد وأن يشعر بالقلق الشديد إزاء تراجع تفكيرها الإستراتيجي".
وأضاف: "لقد ألحق سلوكها الانتقامي قصير النظر ضررا هائلا بالفلسطينيين الأبرياء لعقود من الزمان، وحتى اليوم، ومع ذلك فإن فرصها في إنهاء المقاومة الفلسطينية ضئيلة".
وختم بالإشارة إلى أن "أفضل ما يمكن أن يفعله مؤيدو إسرائيل في الولايات المتحدة هو الضغط على كل من الديمقراطيين والجمهوريين لتبني سياسة صارمة تجاه الدولة اليهودية، وذلك لكي تعيد النظر في مسارها الحالي".
لكنه يعتقد أنه "لا توجد أي إشارة على حدوث ذلك في أي وقت قريب، وهذه وصفة لمشاكل لا نهاية لها، إن لم تكن كارثة محققة".