"نيكاب".. فرقة فنية تحوّلت إلى صوت ثوري يصرخ ضد الإبادة في شوراع أيرلندا

ينظر إلى "نيكاب" على أنها ليست مجرد فرقة موسيقية، بل تيار احتجاجي ثقافي يعيد إحياء روح المقاومة الأيرلندية
بينما يقف العالم أمام مجازر غزة بصمت مطبق، أو تواطؤ فجّ، تصعد فرقة موسيقية من شوارع بلفاست الأيرلندية لتكسر هذا الصمت، وتطلق من على منصات المهرجانات الدولية صرخة مدوية: "لن نكون محايدين في وجه الإبادة".
"نيكاب" (Kneecap)، فرقة هيب هوب أيرلندية متمردة، لم تكتفِ بصياغة كلماتها بلغتها القومية، ولا بمقارعة السلطات البريطانية في أغانيها السياسية اللاذعة، بل قررت أن تمضي أبعد، إلى غزة المحاصرة؛ حيث تغني اليوم من أجل فلسطين، وتدين بلا مواربة إسرائيل، وتسميها بما يتردد كثيرون عن نطقه: "كيان استعماري يرتكب جرائم حرب".
في مهرجان "OFF" الموسيقي في بولندا، الذي عُقِد مطلع أغسطس/ آب 2025، وأمام جمهور عالمي، استخدمت "نيكاب" مساحتها الفنية لتعلن أنّ الحرب في غزة ليست وليدة السابع من أكتوبر، وأن الفلسطينيين يقتلون اليوم جوعا، بعدما قصفوا جوا، ويستهدفون بالرصاص أثناء بحثهم عن كسرة خبز أو شحنة دقيق.
لم تكتف الفرقة بالرثاء، بل حمّلت المسؤولية للغرب، وذكرت أوروبا، التي لا تزال تعيش آثار ماضيها الاستعماري، أن الصمت شراكة.
صوت ثوري
ففي واحد من أبرز مشاهد التضامن الثقافي العالمي مع الشعب الفلسطيني، خصصت "نيكاب" أداءها خلال مهرجان "OFF"، لإيصال رسالة صريحة وقوية ضد الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها سكان قطاع غزة، ولتأكيد تضامنهم اللامشروط مع الفلسطينيين في وجه الاحتلال والعدوان.
وبين مقاطع الأداء الصاخبة والنبض الموسيقي الثوري، خاطب أحد أعضاء الفرقة الجمهور قائلا: إن الحديث عن مأساة بهذا الحجم بينما نغني ونرقص "قد يبدو متناقضا"، لكنه شدد في الوقت ذاته على أن "الصمت لم يعد خيارا". وأضاف: الحرب في غزة تمثل امتدادا لعقود طويلة من الاستعمار والقمع الممنهج الذي يعانيه الفلسطينيون، في تشابه مؤلم مع الماضي الأيرلندي تحت وطأة الاستعمار البريطاني.
وأكّدت الفرقة أن هذا الواقع المأساوي في غزة لا يمكن تجاهله، ويستلزم من كل صاحب ضمير أن يقف علنا مع المظلومين.
وفي لفتة تقدير واضحة، أشاد أعضاء "نيكاب" بالشباب في أيرلندا وبولندا وحول العالم، ممن باتوا يدركون حقيقة ما يجري في فلسطين، ورفضوا الرضوخ للسردية الصهيونية المهيمنة أو الاكتفاء بالحياد، مقدرين أن جمهورهم الشاب أصبح أكثر وعيا وجسارة في رفض الصمت والتواطؤ.
واختتمت الفرقة رسالتها بالتعهد بمواصلة استخدام منصتهم الفنية، داخل وخارج أيرلندا، للتنديد بالإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، ولدعم النضال الفلسطيني، مؤكدين أن الفن يجب أن يكون أداة مقاومة، لا مجرد وسيلة ترفيه.
تاريخ نيكاب
ولم يكن موقف فرقة "نيكاب" تجاه القضية الفلسطينية طارئا أو نابعا من موجة تعاطف عابرة.
بل هو امتداد عضوي لجذورهم السياسية والثقافية المتأصلة في نضال أيرلندا ضد الاستعمار البريطاني، ولوعيهم الجمعي بتاريخ بلادهم من الاحتلال والتمييز العرقي والإبادة الثقافية.
وتتّخذ الفرقة التي تأسست عام 2027 من بلفاست، العاصمة الثقافية والسياسية لشمال أيرلندا، مقرا لها، وهي المدينة التي شكّلت لعقود طويلة مسرحا للمقاومة الأيرلندية ضد الهيمنة البريطانية، وكانت موطنا لحركات قومية ثورية مثل "الجيش الجمهوري الأيرلندي" (IRA).
ومن هذه البيئة، خرجت "نيكاب" حاملة خطابا فنيا مشحونا بالهوية، واللغة الثائرة والموقف الرافض للاستعمار بكل أشكاله.
لذلك فغالبا ما ينظر إلى "نيكاب" على أنها ليست مجرد فرقة موسيقية، بل تيار احتجاجي ثقافي يعيد إحياء روح المقاومة الأيرلندية، ويصوغها بأسلوب الهيب هوب العصري.
حيث تستخدم الموسيقى كأداة مواجهة ضد التهميش، والعنصرية، والأنظمة القمعية، ولهذا، لم يكن غريبا أن تنحاز الفرقة، بشكل واضح وصادم بالنسبة لبعض الأوساط الغربية، إلى الحق الفلسطيني، ضد ما تصفه بـ"الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي".
وفي تصريحاتهم وأغانيهم ومشاركاتهم بالمهرجانات الدولية، يربط أعضاء الفرقة بين النكبة الفلسطينية وتجربة أيرلندا في التقسيم والاضطهاد السياسي والثقافي.
كما يصرحون علنا بأنهم يرون في "إسرائيل" مشروعا استعماريا يشبه المشروع البريطاني الذي جثم على صدر أيرلندا لقرون.
وهو ما يفسر حجم الهجوم الإعلامي الذي تتعرّض له الفرقة في بريطانيا والولايات المتحدة، لا سيما بعد أن وصفت "إسرائيل" بأنها دولة ترتكب جرائم حرب ضد الفلسطينيين وتستحق المقاطعة الكاملة.

نيكاب والمجر
لا سيما أنه منذ أن بدأت فرقة "نيكاب" في رفع صوتها عاليا من أجل فلسطين، لم تمر مواقفها دون ثمن.
فقد تحوّلت إلى هدف لحملات تحريض متصاعدة في الإعلام البريطاني المؤيد لإسرائيل، ومراكز الضغط الصهيوني في أوروبا والولايات المتحدة، التي اتهمت الفرقة بـ"نشر الكراهية" و"التحريض على العنف" و"معاداة السامية"، وهي التهم الجاهزة التي تستخدم مرارا لإسكات الأصوات الداعمة لفلسطين.
وصلت الحملة ذروتها خلال مشاركة "نيكاب" في مهرجان "غلاستونبري" الشهير في بريطانيا، حين وصف قائد الفرقة (مو شارا) إسرائيل صراحة بأنها "كيان يرتكب جرائم حرب بحق شعب محاصر ومجوع".
هذا التصريح الذي قوبل بتصفيق واسع من الجمهور، أثار ردود فعل غاضبة من وسائل إعلام يمينية بريطانية ومنظمات مؤيدة لإسرائيل، طالبت بمنع الفرقة من الظهور مجددا في أي منصة ثقافية عامة.
كذلك وجدت فرقة نيكاب نفسها في قلب عاصفة سياسية وقانونية متصاعدة داخل أوروبا، بعدما قررت الحكومة المجرية، الحليفة الوثيقة لإسرائيل، حظر دخول أعضاء الفرقة الثلاثة إلى البلاد لمدة ثلاث سنوات.
القرار الذي صدر 25 يوليو/ تموز 2025، جاء قبل أيام من مشاركة كانت مقررة للفرقة في مهرجان موسيقي شهير بالمجر.
لكن الحكومة سارعت إلى منعهم، بزعم "معاداة السامية والترويج للإرهاب"، كما أعلن المتحدث الرسمي باسم الحكومة، زولتان كوفاكس، عبر منشور في منصة "إكس".
ورأى كوفاكس أن إتاحة منصة لفرقة مثل نيكاب هو "تطبيع للكراهية والإرهاب"، وأن القرار يندرج ضمن "مسؤولية الدولة في حماية الجالية اليهودية في البلاد".
وذلك في تصريحات تعكس توظيفا سياسيا مباشرا للتهمة الجاهزة المتمثلة في "معاداة السامية" لقمع الأصوات المناهضة لإسرائيل، لكن نيكاب، المعروفة بمزجها الفريد بين اللغتين الإنجليزية والإيرلندية في أغاني الراب ذات المضمون الثوري، لم تقف مكتوفة اليدين.
وفي بيان شديد اللهجة نشر عبر حسابات الفرقة على مواقع التواصل الاجتماعي، وصفت قرار الحظر بأنه "فضيحة سياسية تفتقر لأي أساس قانوني"، واتهمت حكومة فيكتور أوربان بـ"الاستبداد" ومحاولة إسكات الأصوات التي تفضح الإبادة الجارية بحق الشعب الفلسطيني".

تصعيد متزامن
وجاءت هذه الخطوات ضمن سلسلة تصعيد متزامن في استهداف الفرقة داخل أوروبا؛ حيث يواجه عضو الفرقة ليام أوهانا، المعروف فنيا باسم مو شارا، محاكمة جنائية أمام القضاء البريطاني في 20 أغسطس 2025.
وذلك على خلفية رفعه علم حزب الله اللبناني خلال إحدى حفلات الفرقة في لندن عام 2024، وهو ما عدّته السلطات "جريمة إرهابية".
ورغم أنّ أعضاء الفرقة نفوا مرارا أي ارتباط تنظيمي بحزب الله، وأكدوا أن رفع العلم كان "تعبيرا عن تضامن سياسي ضد العدوان الإسرائيلي"، فإنّ الاتهامات الموجهة لهم تعكس مناخا أوروبيا متزايد القمع لكل أشكال التعبير المناهض للصهيونية، حتى وإن جاء من فنانين مستقلين.
ورغم هذه الضغوط، لم تتراجع "نيكاب" عن مواقفها، بل على العكس، ضاعفت من رسائلها التضامنية مع الشعب الفلسطيني، وأكدت أنها لن تصمت في وجه الإبادة، وأن الموسيقى يجب أن تستخدم لفضح الظلم لا لتزيينه.
وفي هذا السياق، قال أحد أعضاء الفرقة "موغولويا باب"، في مقابلة بإذاعة "RTE" الأيرلندية مطلع يونيو/حزيران 2025: “إذا كانت كلمة حق من فرقة موسيقية تزعج حكومات وأنظمة، فهذا يعني أننا نفعل شيئا صائبا".
في المقابل، حظيت الفرقة بتأييد واسع من جمهور شبابي أوروبي متزايد يتجه نحو مناهضة الصهيونية بشكل صريح، لا سيما في أوساط حركات العدالة الاجتماعية، وحملات المقاطعة (BDS)، والنقابات الطلابية.
وأشاد ناشطون فلسطينيون ومناصرون للقضية بالموقف الأخلاقي للفرقة، معتبرين أن أصواتا مثل "نيكاب" باتت أكثر فاعلية اليوم من بيانات حكومات متواطئة أو منظمات دولية صامتة.
ومع اتساع دائرة التضامن الثقافي العالمي مع فلسطين، تتحول "نيكاب" من مجرد فرقة موسيقية إلى أيقونة فنية مقاومة، تربط بين قضايا الشعوب المستعمرة، وتجدد مفاهيم الفن بوصفه ساحة اشتباك لا مسرحا للتسلية.
فن المقاومة
وقال الناقد الفني المصري عبد الرحمن الشرقاوي لـ"الاستقلال": فرقة "نيكاب" الأيرلندية صفعت صمت الفنانين العرب ودافعت عن فلسطين نيابة عنهم.
وتابع: "إن الفرقة الأيرلندية باتت تمثل اليوم إحدى أبرز صور فن المقاومة العالمي، بعد أن حملت راية الدفاع عن القضية الفلسطينية في وجه العدوان الهمجي على غزة، ودافعت عنها بمواقف صلبة، رغم كلفة ذلك من حظر وتهديد وتضييق، لتؤكد أن الفن يمكن أن يكون سلاحا شريفا في وجه القهر والاحتلال".
وأضاف الشرقاوي أن الفرقة، وهي تتعرض للمنع والشيطنة في أكثر من دولة أوروبية، تثبت للعالم أنها صوت حر لا ينكسر، وأنها دفعت ثمن مواقفها من أجل الإنسانية والعدالة، في وقت تراجع فيه الفن العربي عن أداء هذا الدور التاريخي الذي لطالما تصدره، حتى في ظل الأنظمة المستبدة.
وأشار إلى أن المشهد المؤلم يتجلى أكثر في الغياب التام للمهرجانات والفعاليات الفنية العربية الداعمة لفلسطين، خاصة في مصر، التي كانت لعقود طويلة مهدا لفن المقاومة العربي، ومركزا ثقافيا حمل قضايا الأمة على خشبة المسرح وشاشة السينما وميكروفون الأغنية، لافتا إلى أن هذا الغياب اليوم يعبر عن انهيار أخلاقي وفني فادح.
وانتقد الشرقاوي بشدة ما وصفه بـ"العبث الفني" في بعض العواصم، قائلا: “كيف يمكن أن نفهم أن يقام موسم الرياض، برعاية تركي آل الشيخ، وسط حرب إبادة في غزة، دون أن تذكر كلمة فلسطين أو غزة؟ كيف يمنع رفع العلم الفلسطيني، بينما تستورد منتجات المقاطعة من مشروبات ووجبات وتروّج على مرأى من الجميع؟”
ورأى الشرقاوي أن ما يجري تحت مسمى "الترفيه" في هذه المواسم يمثل خيانة للضمير الجمعي للأمة، ووصمة عار لا يمحوها الزمن.
مضيفا: "الفن ليس فقط للفرح، بل هو رسالة حضارية تعبر عن مشاعر الشعوب، وفي لحظة المجازر والنكبات، فإن الفرح المصطنع يصبح خيانة كبرى، والرقص على أنقاض المجازر فعلا لا يغتفر".
وختم الناقد الفني تصريحه بالقول: "في الوقت الذي يصمت فيه كبار الفنانين العرب أو ينشغلون بالحفلات والمواسم، يقف فنانون أحرار من الغرب، مثل فرقة نيكاب وممثلين آخرين، ليقولوا: نحن بشر قبل كل شيء.. هؤلاء هم الأحرار، لا لأنهم يملكون منصة، بل لأنهم لا يساومون على إنسانيتهم".
المصادر
- فرقة نيكاب تجدّد انتقادها لإسرائيل في كوتشيلا رغم الغضب الأميركي
- المجر تمنع فرقة "نيكاب" الإيرلندية الداعمة لفلسطين من دخول البلاد وتتهمها بمعاداة السامية
- فرقة راب ايرلندية شمالية تتمسك بمواقف مناهضة لإسرائيل أطلقتها في “كوتشيلا”
- قضية بوب فيلان وفرقة نيكاب تظهر نفاق اليمين بشأن حرية التعبير
- فرقة نيكاب تحيي حفلة في مهرجان غلاستونبري وهتافات ضد إسرائيل تثير الجدل
- Who are KNEECAP? Everything you need to know about the Irish rappers in trouble with both BBC and RTÉ