جدل واسع في موريتانيا بسبب الأنساب.. ضعف مجتمعي أم أهداف سياسية؟

12

طباعة

مشاركة

نقاش كبير تشهده وسائل التواصل الاجتماعي بموريتانيا حول الأنساب، بين متفاعل ومنتقد ومحذر من تبعات هذا الجدل على اللحمة الوطنية الموريتانية.

بداية هذا التفاعل انطلقت بعد تصريح أدلى به رئيس مركز تكوين العلماء بموريتانيا الشيخ محمد الحسن ولد الددو، قال فيه إن قبيلة "ازناكه" تطلق على من يقال لهم اليوم صنهاجة، أي أنها عربية، بخلاف الوصف القدحي الذي ينظر بها كثير من الموريتانيين إلى هذه القبيلة.

وذكر ولد الددو، في مقطع صوتي انتشر بشكل واسع في البلاد، نقلته صفحة "موريتانيا تجمعنا" على فيسبوك، 8 يونيو/حزيران 2023، أن أصل صنهاجة من اليمن، وعنها تفرعت قبائل أخرى، مشيرا إلى أن السنغال حاليا هي أيضا تعني في الأصل صنهاجة.

وأوضح أن اسم صنهاجة أطلق في الأصل أو أول الأمر على حملة السلاح والعلم والقيادة، والذين حكموا المغرب والجزائر والأندلس وغيرها، ثم أصبحت تقال الآن لقبائل لمتونة وكَداله وغيرهما.

تفاعلات واسعة

انتقد محمد جميل منصور، الرئيس السابق لحزب "تواصل" الإسلامي، التفاعل الكبير والانشغال العام بالحديث عن الأنساب وأصول القبائل الموريتانية في هذا التوقيت.

وأكد ولد منصور، وفق موقع "الوسط" المحلي، 9 يونيو 2023، أن الإسلام أرجع الجميع إلى آدم وهو من تراب، والقوانين الوضعية أرجعت الجميع لدولة وطنية يتساوى فيها الجميع بنفس الحقوق والواجبات بغض النظر عن أصلهم وعرقهم.

بدوره، قال الأستاذ الجامعي الشيخ أحمد البان، إن مرد هذا الجدل، أن الشعب الموريتاني مع كامل الأسف، عنده فراغ كبير في حياته، وليس أمامه إلا أن يشغل نفسه بطحن هذا الفراغ، ومنه موضوع الأنساب و"روايات الأصول".

وأضاف البان في تدوينة على فيسبوك، 9 يونيو 2023، "هذا مجتمع غريب فشلت الدولة في تحويله إلى مواطنين لأسباب عديدة، أهمها أنه يعيش 80 بالمئة؜ من حياته ويومياته دون أن يحتاج إليها، وفشل المجتمع نفسه في تصور الدولة وممارستها".

وشارك الشيخ محفوظ إبراهيم فال، نائب رئيس مركز تكوين العلماء، التدوينة السابقة، وأضاف قائلا عبر حسابه على فيسبوك، 9 يونيو 2023، "ما الذي سيطرأ على حياة أهل موريتانيا لو اكتشفوا جميعا أو بعضهم أن أنسابهم على ما يعتقدون أو خلاف" ذلك.

وأردف متسائلا: "هل سترتفع درجتهم عند الله جل جلاله؟ هل ستزداد منزلتهم في الحياة فيتغير حالهم من الفقر إلى الغنى ومن الجهل إلى العلم ومن التخلف إلى النهضة؟".

ليضيف الشيخ فال قائلا: "أيها الناس اتقوا الله في أنفسكم ومستقبل أبنائكم إن كنتم لا ترحمون أنفسكم، وتجاوزوا الاشتغال بما لا ينفع ويرفع، ووجهوا بوصلتكم وجهودكم إلى ما يصلحكم". 

ودافع عن ما ورد على لسان الددو عدد من المتفاعلين، ومنهم الكاتب الصحفي محمد نعمه عمر، عبر تدوينة نشرها بحسابه على فيسبوك، 9 يونيو 2023، والذي قال إن الشيخ لم يقل شيئا غير صحيح.

وذكر عمر أن تسجيل الشيخ استُخدم وشُرح على نحو مخل بالمعنى، موضحا أن "أزناكة" كانت تطلق على قبائل صنهاجة وهم عرب أقحاح، ولاحقا جرى تحوير المعنى وأطلق على ما يعرف عندنا بـ: (اللَّحمة).

واسترسل: وعليه، لم تعد كلمة "أزناكة" ترمز لصنهاجة - لمتونة الصحراء، إلخ - وأسقَطت السردية الشفاهية ما تحمله من معاني الفتوة والعلم والنبل.

ودعا من وصفهم بمتعهدي الصيد في الماء العكر إلى التوقف عن شحن الفضاء الاجتماعي بأفكار لا تستقيم ولا تنفع الناس ولا تمكث في الأرض.

وبخلاف هذا الرأي، رأى الناشط السياسي مصطفى عبدي، في تدوينة نشرها بحسابه على فيسبوك، 9 يونيو 2023، أن جدل الأنساب في موريتانيا عقيم ورجوع إلى الوراء.

وشدد عبدي على أنه "ينبغي للعلماء التركيز على الأمور العلمية الخادمة التي تنير الرأي العام وتنهض به فكريا".

نقاش ضروري

يرى المعلوم أوبك، الناشط الحقوقي، والمنسق العام لهيئة الساحل للدفاع عن حقوق الإنسان ودعم التعليم والسلم الاجتماعي، أن النقاش حول الأنساب في موريتانيا محتدم عبر تاريخ البلد.

وأضاف أوبك لـ "الاستقلال"، هذا الجدل يأتي نتيجة احتلال التمييز بين الأصول العربية والبربرية مكانته الكبيرة في التصنيف الاجتماعي والمنزلاتي للشعوب التي توجد في شمال إفريقيا بوصفها بربرا أو عربا في بعض الأحيان.

وشدد المتحدث ذاته، أن عودة النقاش اليوم تقتضي فهم طبيعة مجتمع البيظان المنتشر في حيز جغرافي محدد في منطقة غرب الصحراء، مقدرا أنه دون تتبع تاريخ هذا الشعب لا يمكن أن نفهم كنه عودة النقاش حول الأنساب.

من جانب آخر، رأى أوبك أن النقاش الحالي في جزء منه، يعكس محاولة من الزوايا لعودة سطوة سلطتهم على المجتمع الموريتاني كمرجعية لتحديد طبيعة الأصول.

وتابع: "لذا إشكال النقاش حول النسب من المهم نقاشه والعودة لجذوره، حتى نحطم بعض التابوهات التي يريد البعض أن يصنعها ويمجد بها نفسه".

وبشكل عام، يقول الناشط الحقوقي إن الإنشاءات الجينيالوجية (علم الأنساب) بموريتانيا ظلت مسكونة بنسبتها لأصول يمنية كلمتونه، أو لأصول أنصارية وقرشية وأخرى شريفة، حيث تضاعف الأخيرة في فترة توغل بني حسان في الصحراء.

وشدد أوبك أن النقاش الدائر اليوم في موريتانيا يفرض إعادة التساؤل عن نسبة الحقيقة التاريخية في الانتسابات الجينيالوجية للموريتانيين، وتوسيع النقاش بشكل أوسع، كما يجعلنا نعيد التساؤل أي الانتسابات اليوم هي الصحيحة.

واسترسل: "هو نقاش مهم لأنه يميط اللثام عن موروث مهم للشخصية الثقافية الموريتانية وتراثها"، مؤكدا أنه "آن الوقت لنقاش الهوية البربرية كمكون من مكونات جذور ثقافتنا".

بدوره، أكد رئيس حركة "كفانا" الحقوقية يعقوب أحمد لمرابط، أن هذا الانتشار الواسع للحديث عن الأنساب في البلاد، وما جرى بخصوصه في هذه الأيام، مظهر من مظاهر ضعف الدولة.

وشدد لمرابط لـ "الاستقلال"، أن من شأن اتساع الجدل المرافق لهذا الموضوع، أن يهدد الوحدة الوطنية، موضحا أن السلطة السياسية تسعى لاستمرار هذا الجدل بغية لفت النظر عن الواقع.

وأردف، إننا نعيش في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية واسعة، ولذلك يسعى البعض إلى إشغال الرأي العام بمثل هذه القضية، دون الالتفات لما هو أخطر منها وأولى.

وعد لمرابط أن تشجيع الجدل والخلاف في الموضوع فيه تحريض على العنف، ويتعارض مع دولة القانون، والدولة المدنية، كما ينعش رغبة النظام الحالي في تعزيز الوضع القبلي والجهوي الحالي بما يخدم مصالحه.

وذكر الناشط الحقوقي، أن إعطاء هذه المساحة الواسعة لموضوع الأنساب فيه تعد حقيقي على حقوق الإنسان، كما أنه لا يخلو من تجييش وتلاعب بمشاعر مواطنين، وتجذير للتفاوت الطبقي.

وهذه التقديرات كلها، وفق لمرابط، تشكل أكبر خطر على حقوق الإنسان، وعلى الوحدة الوطنية الموريتانية، وكذا على الأمن الداخلي للبلاد.

نظرة مستقبلية

وسبق للقضاء الموريتاني أن حكم على شاب يدعى الخليل ولد خيري بالسجن أربع سنوات نصفها موقوفة التنفيذ، وغرامة قدرها 4 ملايين أوقية قديمة، في يونيو 2022، وذلك عقب انتشار تسجيلات صوتية له، يشكك من خلالها في انتساب بعض القبائل الموريتانية لذرية النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

ووفق موقع "تقدمي" المحلي، 25 يونيو 2022، جاء هذا الحكم، بعد رفع بعض المنتمين لهذه القبائل دعوى قضائية ضد ولد خيري، ليجري اعتقاله في مايو/أيار 2022 بتهمة المساس بالسلم الأهلي واللحمة الاجتماعية.

وذكر المصدر ذاته، أن هذا الحكم جاء تطبيقا لمقتضيات قانون حماية الرموز الوطنية في موريتانيا، والذي صدق عليه البرلمان الموريتاني، وأثار قبل ذلك جدلا كبيرا لدى الرأي العام، بصفته انتكاسة لحرية التعبير.

وسبق لولد خيري أن صدر له كتاب "تاريخ بني صالح شرفاء كومبي صالح"، عام 2014، طعن فيه في أنساب بعض القبائل الموريتانية.

وقد هاجم ولد خيري في مؤلفه ما أسماه ظاهرة الانتساب إلى قبائل بعينها دون دليل أو برهان، معتبرا أن هذه الظاهرة تفشت في المجتمع الموريتاني نتيجة لعدد من العوامل.

ووفق المصدر ذاته، من بين هذه العوامل "عدم معرفة بعض الأسر للقبيلة الحقيقية التي ينتمي إليها، بسبب الحاجة الماسة إلى الحماية في المجتمعات القبلية التي تسودها الصراعات، وعدم معرفة الجد الأعلى الذي تنتمي إليه".

وأورد ولد خيري في كتابه بعض الوثائق والمخطوطات، أكد أنها تدعم صحة ما يقول.

ويؤكد الناشط الحقوقي المعلوم أوبك، أن المطلوب الآن تعزيز الانتماء الوطني، الذي يجب أن يكون أعلى على ما سواه من الانتماءات الضيقة.

وأوضح لـ "الاستقلال"، أنه يجب على الجهات الحكومية والمجتمع المدني، إعطاء الاعتبار للانتماء الوطني على ما سواه من الانتماءات الضيقة، سواء كانت قبلية أو جهوياتية، وإعلاء شأن القيم والمبادئ الوطنية.

ويتطلب تعزيز اللحمة الوطنية وبناء دولة مشتركة، أن تعمل الدولة على تعزيز العدالة والمساواة بين جميع المواطنين، وخاصة تحسين جودة الخدمات العامة، وتوفير الفرص العادلة والمتساوية في مختلف المجالات بين المواطنين، بغض النظر عن لونهم أو عرقهم أو انتمائهم القبلي، كما قال.

ونبه الناشط الحقوقي إلى أن هذا المطلب مفقود الآن، قائلا: "نظرة وجولة في العاصمة تكشف البون (الاختلاف) الكبير بين ولايات نواكشوط نفسها".

فعلى مستوى بسيط، حينما تزور مقاطعة "تفرغ زينه" تجد الإنارة متوفرة، وحينما تتجه نحو أي مقاطعة أخرى كدار النعيم مثلا، لا تجد عمودا كهربائيا واحدا للإنارة فيه الضوء على الشارع، ناهيك عن توفر الإنارة في الأحياء، وفق تعبيره.

وشدد أوبك أنه على الجميع العمل بروح التعاون والتفاهم، لتحسين الوعي بالقضايا الوطنية والحقوق والواجبات، وتعزيز الانتماء الوطني.