"تعبئة ثانية".. هل تنجح روسيا في منع مواطنيها من الفرار إلى الخارج؟

12

طباعة

مشاركة

لا يجد المواطنون الروس بدّا من مغادرة بلدهم خشية عمليات التجنيد الاحتياطي للقتال في أوكرانيا المستعرة فيها الحرب منذ 24 فبراير/شباط 2022، إضافة لسوء الوضع الاقتصادي والتضييق الأمني عليهم.

وأمام ذلك، تبقي روسيا عينها الثانية مفتوحة على الشأن الداخلي لمنع تزايد أعداد المغادرين، وإن كان عبر وضع قيود على المواطنين الذين يحاولون الفرار بجلدهم من خلال تشريعات وقوانين صارمة.

تشريعات مقترحة

ومع غياب مؤشرات ركون موسكو للحل الدبلوماسي مع كييف، اقترح المشرعون الروس في 24 يناير/كانون الثاني 2023، وضع قيود على المواطنين الذين يحاولون مغادرة البلاد.

وقدم رئيس لجنة مجلس الدوما الروسية المعنية بتطوير النقل والبنية التحتية، يفغيني موسكفيتشيف، تعديلات على قانون النقل، من شأنها أن تجعل من واجب المواطنين وغيرهم حجز موعد ومكان مسبقا لعبور الحدود.

وورد في نسخة من التغييرات التشريعية التي اطلعت عليها وكالة الأنباء "تاس" الروسية، أنه "يجب على المركبات التابعة لشركات النقل الروسية وشركات النقل الأجنبية ومواطني الاتحاد الروسي والمواطنين الأجانب وعديمي الجنسية ومستخدمي الطرق الآخرين، حجز التاريخ والوقت لعبور حدود دولة الاتحاد الروسي".

وفي حال تمرير مشروع القانون من قبل مجلس الدوما (البرلمان)، فسيدخل حيز التنفيذ في 1 مارس/آذار 2023.

وسبق ذلك، اقتراح رئيس مجلس النواب، فياتشيسلاف فولودين، في 13 يناير 2023، مصادرة ممتلكات الروس الذين غادروا البلاد و"أهانوا" الدولة وقواتها المسلحة وهم بالخارج.

وقال فولودين البالغ من العمر 58 عاما والحليف المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين: "في الآونة الأخيرة، يرى بعض مواطنينا أنه يمكن إهانة روسيا وسكانها وجنودها وضباطها، ويدعمون الأشرار والنازيين والقتلة علنا".

وأضاف فولودين، أن الردود القانونية الحالية لمكافحة التطرف أو "استعادة النازية" أو تشويه سمعة القوات المسلحة، وهي أمور يعاقب عليها في روسيا بالغرامات والسجن، ليست كافية للتعامل مع "معدومي الضمير" المقيمين بالخارج.

وتابع: "وهم في الخارج، يؤجرون العقارات ويواصلون تلقي أموال على حساب المواطنين، وفي الوقت نفسه، يسمحون لأنفسهم بصب القذارة على روسيا، وإهانة جنودنا وضباطنا، يشعرون بأنهم سيفلتون من العقاب، ويعتقدون أن العدالة لا يمكنها أن تطالهم".

بالمقابل، فإن وسائل الإعلام الروسية الرسمية تزدري الفارين وتنتقص منهم، حيث نشرت بشكل مقصود في 18 يناير 2022، عن قتل جندي روسي يدعى ديميتري بيروف عقب فراره من وحدة عسكرية في منطقة ليبيتسك هربا من القتال في أوكرانيا.

وبعد بدء الهجوم على أوكرانيا، وقع الرئيس الروسي، على تعديلات تنص على عقوبة بالسجن لمدة تصل إلى 10 سنوات للجنود الذين يهربون أو يرفضون القتال.

مخاوف كبيرة

وكانت موسكو قد أعلنت تعبئة 300 ألف عنصر احتياط في 21 سبتمبر/أيلول 2022 لدعم القوات ميدانيا في أوكرانيا، ما دفع مئات الآلاف من الروس إلى مغادرة البلاد؛ لتجنب التجنيد.

وبحسب منظمة "أو في دي-إنفو" غير الحكومية المتخصصة في مراقبة التحركات المعارضة، فإن أكثر من 2300 شخص اعتقلوا خلال الاحتجاجات على التعبئة العسكرية، منذ الإعلان عنها.

وتشكل هذه التحركات الرسمية الروسية مخاوف لدى المواطنين من أن التغييرات الجديدة إذ أصبحت نافذة، فقد تجعل من الصعب عليهم الخروج من بلدهم، لا سيما أن الاقتصاد يتعرض لضربة قوية؛ بسبب سلسلة من العقوبات الغربية غير المسبوقة حيث بلغ معدل التضخم 11.9 بالمئة في ديسمبر/كانون الأول 2022 جراء غزو أوكرانيا.

كما أدى الارتفاع الحاد في قيمة الروبل الروسي مقابل الدولار الأميركي إلى ارتفاع أسعار السلع الروسية، مما أثقل كاهل المواطن وسط حرب تبدو أنها مفتوحة على كل الاحتمالات.

وأثار أمر التعبئة الجزئية، احتجاجات على مستوى البلاد، وسبب نزوح جماعي للروس عبر الحدود إلى الدول المجاورة، مثل جورجيا وفنلندا وكازاخستان ومنغوليا، لتجنب التجنيد الإجباري.

اللافت أن الهجرة الجماعية تضمنت مسؤولين يعملون في مكاتب حكومية، وفقا لوكالة الأنباء الروسية المستقلة (Nestka) التي وجدت في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2022، أن ما يقرب من ثلث مسؤولي موسكو في مكتب رئيس البلدية قد فروا من روسيا في غضون شهر.

وغادر الموظفون الذكور بشكل جماعي من بعض أكبر الإدارات، بما في ذلك الإسكان والخدمات المجتمعية والرعاية الصحية والتعليم والمتخصصين في تكنولوجيا المعلومات، وفقا للوكالة المذكورة، بعد أسابيع فقط من استقالة المسؤولين الحكوميين بأعداد كبيرة بعد وفاة زميل لهم جرى تجنيده في أوكرانيا.

خشية تعبئة ثانية

وبحسب تقرير لمعهد "دراسة الحرب"، وهو مركز أبحاث مقره الولايات المتحدة، نشره في يناير/كانون الثاني 2023، فإن بوتين ربما يستعد للإعلان عن "حملة تعبئة ثانية"، خاصة أن التعبئة الجزئية، قد أتت بنتائج عكسية حيث فر أكثر من 370 ألف مواطن من البلاد منذ صدور المرسوم.

وهذا الرقم هو أكثر من العدد الإجمالي الذي قال مسؤولو الدفاع الروسية إنه سيتم استدعاؤهم للتجنيد في الجيش والمحدد بـ300 ألف جندي احتياط.

وقال وزير الداخلية الكازاخستاني، في بيان 4 أكتوبر/تشرين الأول 2022، إن أكثر من 200 ألف روسي قدموا إلى الدولة المجاورة الواقعة في آسيا الوسطى منذ إعلان التعبئة الأولى.

ومن المرجح أن تؤدي العزلة المتزايدة إلى إثقال كاهل الذين يعتمدون على الدول الأجنبية من الناحية التكنولوجية، لا سيما أن الوعود بالمنتجات الروسية البديلة ماتزال محصورة بالمستوى النظري.

ومع تنبؤات العديد من الخبراء الماليين بحدوث كارثة اقتصادية في روسيا، هناك من لا يرغب بالتأقلم مع العقوبات الغربية الثقيلة على بلدهم ويفضل الخروج من البلد.

كما أن الانخفاض الملحوظ في إنفاق الأسرة الروسية، هو مؤشر حقيقي على كيفية تأثير الحرب والعقوبات على حياة الناس هناك، خاصة أن وسائل الإعلام الحكومية تروج لوجهة نظر مفادها أن العقوبات كانت فشلا مكلفا للغرب.

وفي هذا الصدد، قال الأستاذ المساعد للعلاقات الدولية بجامعة واترلو في جنوب غرب أونتاريو، ألكسندر لانوسكا: "لا أعتقد أن العقوبات الغربية ستجبر بالضرورة روسيا على التفاوض"، وفق حديثه لموقع "سي بي سي" في 31 ديسمبر/كانون الأول 2022.

ودفعت العقوبات المفروضة على روسيا واسعة النطاق، لإزالة البنوك الرئيسة من نظام التحويل الدولي (SWIFT)، وكان البنك المركزي الروسي محدودا في الوصول إلى 600 مليار دولار من الاحتياطيات التي تحتفظ بها البنوك الأجنبية.

كما جرى قطع روسيا عن الوصول إلى التكنولوجيا والإمدادات الغربية، وبات من الصعوبة أن يجرى استبدال العلامات التجارية الغربية بسلاسة بمكافئات محلية.

ولهذا فإن كبار المسؤولين الروس أقروا علانية بالتحديات الناجمة عن العقوبات، والتي تشجع الروس من أصحاب المهن والكفاءات العلمية للبحث عن بدائل عمل في الخارج.

كما تضرر الاقتصاد الروسي أيضا من خروج العديد من الشركات الغربية، حيث قلص أكثر من ألف منها بدرجات متفاوتة الأنشطة التجارية هناك.

وشمل هذا التراجع شركات متنوعة مثل سلاسل الوجبات السريعة وعلامات الموضة، وتجار التجزئة في المتاجر الصغيرة، وشركات التعدين وشركات صناعة السيارات.

لكن رغم ذلك يبقى الخشية من حدوث موجة تعبئة ثانية في روسيا تؤرق الكثير من الشباب والموظفين الراغبين في البقاء بعيدا عن المشاركة في الحرب.

خيار الفرار

وما يقلق الروس غير المؤهلين للقتال، هو قيام السلطات باستدعاء الطلاب وحتى كبار السن وذوي الحالات الطبية والإصابات للقتال في أوكرانيا.

وقال محللون عسكريون غربيون مرارا، إن روسيا تعاني نقصا بالغا في القوة البشرية بساحة المعركة في أوكرانيا؛ بسبب تكبدها خسائر فادحة.

ويدعو القوميون الروس عقب غزو أوكرانيا، إلى نوع من التعبئة لبث روح جديدة في حملة يصفونها بأنها متعثرة، بحسب تقرير لوكالة "رويترز" البريطانية في 22 سبتمبر 2022.

ويؤكد مراقبون، أنه من الصعب للغاية قياس عدد الأشخاص الذين يعارضون الحرب في روسيا، رغم تقدير استطلاعات الرأي الحكومية وتلك التي أجراها باحثون مستقلون مستوى التأييد الشعبي للحملة العسكرية بحوالي 70 بالمئة.

وفي السياق، أكد جويل هيكمان، نائب مدير برنامج الأمن والدفاع عبر المحيط الأطلسي في مركز تحليل السياسة الأوروبية (CEPA)، أن "التعبئة والمستوى العام للذعر الذي ينتشر  داخل روسيا، مع إخراج مئات الآلاف من الرجال من القوى العاملة، إما بالفرار أو القتال في أوكرانيا، لن يؤدي إلا إلى تفاقم المشاكل التي يواجهها بوتين الآن في خضم الحرب".

وأضاف هيكمان لمجلة "نيوزويك" وفق تقرير نشرته في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2022: "ما نراه حاليا هو جهود تعبئة فوضوية للغاية ولا تحظى بشعبية مضمونة إلى حد كبير بالفشل".

وتابع: "بينما يفر مئات الآلاف من الشبان الروس الأصحاء عبر الحدود، هناك تقارير عن آلاف الرجال المسنين الذين يعانون من مشاكل صحية عديدة يتم نقلهم إلى أقرب مراكز تجنيد".

واستطرد هيكمان: "يبدو أنه كلما زاد تعبئة بوتين، زاد عدد الرجال الذين سيغادرون البلاد، نفكر فقط في التأثير المدمر لهذا على كل قطاع من قطاعات الاقتصاد الروسي المتعثر".

وفي قصة تلخص مدى خشية الروس من زجهم في القتال في أوكرانيا، حتى لو ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة طالما أنهم بعيدون عن أعين السلطات المحلية، لجأ مواطن ثلاثيني إلى العيش في غابة متجمدة مغطاة بالثلوج، في درجات حرارة منخفضة تصل إلى 12 فهرنهايت، هربا من قرار التعبئة الجزئية.

وأشار المواطن إلى أنه يلتقي بزوجته وأصدقائه هناك.

وتمكن الرجل الذي يرفض الحرب ويفضل السلام وفق ما نقلت عنه مجلة "نيوزويك" في 27 يناير 2023، من الاحتفاظ بوظيفته كمطور برامج، وخلق تعريفا جديدا لـ"العمل عن بعد"، بعدما قام بربط الهوائي بشجرة للبقاء متصلا بالإنترنت كما استخدم الألواح الشمسية لتوليد الطاقة.