سحب ودائع بالقوة.. ماذا يعني لجوء اللبنانيين إلى انتزاع حقوقهم المادية بأنفسهم؟
ينحدر لبنان شيئا فشيئا نحو دخول مرحلة العصيان المدني، في ظل لجوء المؤسسات الحكومية، والمواطنين إلى الإضرابات، وتطبيق العنف لتحصيل حقوقهم من الدولة بأنفسهم.
وباتت الأزمة الاقتصادية في لبنان التي دخل فيها منذ عام 2019، تأكل جسد الدولة، وتنذر بتفككها، إن لم تتحرك الطبقة السياسية لتطبيق الإصلاحات العاجلة التي يطلبها الشارع لمنع الانهيار الكامل.
عنف وإضرابات
وخلق مشهد عدم إنجاز الاستحقاقات المطلوبة لإنقاذ البلاد من الانهيار الشامل، حالة من عدم اليقين لدى المواطن اللبناني، الذي لجأ في ظل ذلك، إلى تحصيل حقوقه المادية بمفرده، أو عبر دخول مؤسسات حكومية في إضرابات حتى انتزاع مطالبها من الدولة.
وفي أحدث صور ذلك، قرر 400 قاض لبناني من أصل 550، في 23 أغسطس/آب 2022، الاستمرار في إضرابهم عن العمل للأسبوع الثاني على التوالي للمطالبة بزيادة رواتبهم في ظل تدني قيمة الليرة أمام الدولار.
ويفرض إضراب القضاة الذي نجم عن تعطيل العمل في دوائر التحقيق ومعظم المحاكم وبالتالي توقف سير العدالة في لبنان، أن تبادر الحكومة لمعالجة مطالب هؤلاء، بعد أن فقدت رواتبهم قيمتها جراء انهيار العملة.
ولا يتجاوز راتب القاضي 8 ملايين ليرة، أي ما يعادل 250 دولارا وفق سعر الصرف في السوق السوداء الذي يبلغ 34 ألف ليرة للدولار الواحد.
وفقدت الليرة اللبنانية نحو 90 بالمئة من قيمتها أمام الدولار، ما تسبب في تدني قيمة الرواتب في لبنان.
وذلك بالتوازي مع دخول لبنان أزمة اقتصادية حادة منذ عام 2019 صنفها البنك الدولي واحدة من أسوأ ثلاث أزمات في العالم منذ أواسط القرن التاسع عشر.
وليست الإضرابات وسيلة وحيدة لمجابهة الدولة اللبنانية التي تشهد حالة عدم استقرار سياسي، بل تكرر للمرة الثانية خلال عام 2022 مشهد احتجاز رهائن داخل أحد البنوك سعيا، للوصول إلى المدخرات التي جُمدت بعد الانهيار المالي للبلاد في 2019.
إذ احتجز مودع مسلح في 11 أغسطس 2022 "رهائن" في أحد مصارف بيروت لتحصيل وديعته التي تفوق قيمتها مئتي ألف دولار، قبل أن يتمكن من الحصول على مبلغ معين لقاء تسليم نفسه للشرطة.
وفي ظل وجود آلاف المودعين اللبنانيين منذ الأزمة الاقتصادية، نبهت تلك الواقعة، إلى الخشية من لجوء هؤلاء، لارتكاب أفعال تضر بالأمن العام، طالما أنها ناجحة وتفضي إلى استرداد الأموال المجمدة داخل البنوك.
ولا سيما أن تلك الحوادث ناجمة عن عدم اتخاذ الحكومة اللبنانية، خطوات بناءة لضبط حالة التمرد لدى المواطنين، من أجل انتزاع حقوقهم بأنفسهم، عبر الإسراع بتشكيل الحكومة الجديدة، وانتخاب رئيس جمهورية جديد.
فراغ سياسي
وبعد فراغ دام 13 شهرا، ترأس نجيب ميقاتي الحكومة الحالية منذ سبتمبر/أيلول 2021، وتحولت إلى حكومة تصريف أعمال في مايو/أيار 2022 عقب الانتخابات البرلمانية.
وبذلك تبدأ المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد مطلع سبتمبر/أيلول 2022، تلافيا للوصول إلى فراغ رئاسي يحذر منه المجتمعان المحلي والدولي، في ظل استمرار الأزمة المعيشية والانهيار الاقتصادي.
لكن رغم ذلك، لا تزال مشاورات تأليف الحكومة تراوح مكانها في ظل الخلاف المستمر حول توزيع الوزارات.
فإضراب القضاة واستمرار شلل القطاع العام، هو دليل وتعبير عن عمق وعنف الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي طالت كل شيء في لبنان.
ويحذر مختصون في الشأن اللبناني، من أن تراكم الأزمات وبقاء الانسداد السياسي، وعدم تنازل الطبقة الحاكمة عن مصالحها الشخصية خدمة لبلدهم، سيجرها إلى "العصيان المدني الاضطراري".
ولا سيما أن دخل المواطنين لم يعد يتناسب مع احتياجاتهم اليومية، في ظل انهيار الليرة، وعزوف المانحين الدوليين والعرب عن انتشال لبنان من أزمته، قبل تشكيل الحكومة.
وإذ يبدو المشهد في لبنان معقدا، يؤكد وزير العدل هنري الخوري، أن "القضاة ليسوا هواة اعتكاف، فالقضاء يخوض معارك وجود منذ الاستقلال وحتى اليوم".
ومضى يقول: "أنا مع مطالب القضاة ففي الظروف الاستثنائية التي نعيشها لست ضد أن يأخذ كل ذي حق حقه".
ويحمل كلام الخوري، دعما لتحصيل اللبنانيين حقوقهم، دون انتظار حكومة لبنانية جديدة، قال رئيس مجلس النواب نبيه بري إن تشكيلها سيكون "معجزة".
ويعد التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي السبيل الوحيد أمام لبنان للتعافي من الانهيار المالي، الذي لم تشهده البلاد منذ الحرب الأهلية (1975 - 1990).
إذ يقع على عاتق الحكومة الجديدة استكمال الجهود لإخراج البلاد من دوامة الانهيار الاقتصادي، والبدء بتنفيذ إجراءات وضعها صندوق النقد الدولي شرطا لتقديم مساعدة للبنان.
وتوصلت حكومة ميقاتي إلى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي، في أبريل/نيسان 2022، تشمل خطة مساعدة بقيمة 3 مليارات دولار على 4 سنوات، لكنها تبقى رهن تنفيذ إصلاحات مسبقة، لم يجر تنفيذها بعد.
غياب الهيبة
ويبلغ عدد سكان لبنان 6.7 مليون نسمة، منهم حوالي 1.7 مليون لاجئ سوري وفلسطيني.
ووفقا للأمم المتحدة، يعيش حوالي 80 بالمئة من اللبنانيين تحت خط الفقر. أما أولئك الذين كانوا فقراء قبل الأزمة، فأصبحوا يعيشون في فقر مدقع.
ويبلغ المعدل الوسطي لرواتب الموظفين في القطاع العام 1.5 مليون ليرة، وهو ما كانت قيمته تعادل 1000 دولار حتى منتصف 2019، وكان سعره الرسمي مثبتاً عند 1500 ليرة.
ومنذ 13 يونيو/حزيران 2022 ينفذ حوالي 30 ألف موظف إضرابا مفتوحا للمطالبة بتصحيح رواتب القطاع العام وزيادة قيمة التقديمات الاجتماعية.
ويبلغ عدد موظفي القطاع العام حوالي 300 ألف موزعين على الوزارات والمستشفيات الحكومية والجامعة اللبنانية والمؤسسات العسكرية والأمنية.
وأمام هذا التضخم الحاصل وانهيار القدرة الشرائية، يطالب الموظفون بزيادة رواتبهم بمقدار 5 أمثال على الأقل.
ويسهم هذا التدهور في تراجع القدرة الشرائية للمواطن، وهروب المستثمرين، ولا سيما أن معدل البطالة في لبنان ارتفع من 11.4 بالمئة في الفترة الممتدة بين عامي 2018 و2019 إلى 29.6 بالمئة في يناير/كانون الثاني 2022، أي زاد بنحو ثلاثة أضعاف، بحسب إدارة الإحصاء المركزية ومنظمة العمل الدولية.
وفي هذا الإطار يؤكد المحلل الاقتصادي اللبناني باسل الخطيب أن "هذه التصرفات والمشاغبات وتحصيل الحقوق بشكل فردي والإضرابات يدل على غياب هيبة الدولة والتفكك الحاصل في الدوائر الحكومية، فضلا عن التأكيد على مدى الإحباط الحاصل لدى الشعب اللبناني من فقدان ثقتهم بالدولة والسياسيين والقضاء اللبناني".
وبين الخطيب لـ "الاستقلال" أن "الإضراب ليس في كل الدوائر داخل لبنان لكن مع ذلك يعمل الموظفون في دائرة معينة عددا من الأيام ويضربون يوما أو يومين".
ورأى أن "عدم قيام السياسيين بأي دور لتحصيل حقوق المواطنين، هو ما يدفع البعض لتحصيل حقوقه بنفسه مثلما حصل مع الذي اقتحم البنك، إضافة إلى إضراب القضاة بسبب رواتبهم".
وألمح الخطيب إلى أن المطلوب هو أن "تستعيد الدولة اللبنانية الثقة من قبل المجتمع الدولي والجهات المانحة للبنان والمؤسسات الدولية ومن ثم من قبل الشعب لكي يعود الوضع إلى طبيعته قبل عام 2019".
ولفت إلى "أن غياب هيبة الدولة في لبنان دفع الموظف إلى عدم العمل كما ينبغي بمعنى أنه يعمل لساعات معينة في اليوم بسبب انخفاض راتبه من ألف إلى 90 دولار بعد انهيار الليرة المحلية وانهيار القدرة الشرائية".
وذهب الخطيب للقول: "إن السياسيين الفاسدين لا تهمهم الدولة وانهيارها ولا يكترثون للخسائر التي تتكبدها الخزينة جراء عدم عمل دوائر الدولة".
واستدرك قائلا: "بسبب الإضرابات في لبنان، هناك خسائر تقدر بـ 400 ألف دولار في الشهر الواحد تفقدها خزينة الدولة".
مزيد من الانهيار
وكان سعادة الشامي نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، حذر في 12 أغسطس 2022 من أن أي تأخير في المضي بالإصلاحات الاقتصادية سيدفع البلاد نحو مزيد من الانهيار وسيزيد من الوقت اللازم للخروج من الأزمة، وفق قوله.
وألمح الشامي، إلى أن لبنان على مفترق طرق، ويبرز أمامه مساران لا ثالث لهما إما الاعتراف بالواقع وبالأزمات العميقة التي يعاني منها أو ترك الأمور على حالها، مما سيدفعها إلى مزيد من الانهيار، حسب تعبيره.
ويحول الانقسام السياسي والخلافات في وجهات النظر دون إقرار إصلاحات مطلوبة، لا سيما مشروع قانون تقييد الودائع المعروف بـ"الكابيتال كونترول" (ضبط رأس المال)، الهادف إلى المحافظة على ما تبقى من عملة صعبة في البلد.
وبطالب بعض النواب اللبنانيين، بضرورة الاتفاق على صيغة نهائية لقانون "الكابيتل كونترول" والتمسك بعدم إقراره قبل باقي الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد ومنها إعادة هيكلة المصارف وتوحيد سعر الصرف.
وإلا "ستكون جريمة في حق المودعين وتشريعا لحجز أموالهم وإعطاء المصارف براءة ذمة عن ارتكاباتها في حال لم تطبق باقي الإصلاحات"، وفق ما كتب النائب ميشال ضاهر عبر حسابه في تويتر بتاريخ 29 أغسطس 2022.
وبالمحصلة، فإن تداعيات الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان باتت تتصاعد بشكل دراماتيكي، وسط غياب السلطة وعدم تطبيق القوانين، وإيجاد الحلول المبكرة.
وخاصة أن كثيرا من القطاعات اتجهت نحو الإضراب العام لحين تصحيح الأجور بما يتناسب مع الوضع المعيشي القائم وعجز المواطنين، عن توفير الحاجات الأساسية والملحة من مأكل ومشرب.
إضافة إلى تنامي حالة القلق مع ارتفاع فواتير الطبابة والاستشفاء، فضلا عن أقساط المدارس والجامعات المرتفعة.
ولا سيما عقب قرار الجامعات الخاصة تحصيل الأقساط بالدولار الأميركي، بدلا من الليرة اللبنانية، وبات على إثرها مصير الطلاب على المحك.