في ظل غياب الحكومة وحضور الأزمات.. "حرب الغوريلا" تهدد وحدة السودان
قتلى بالجملة في إقليم دارفور غرب السودان، ودعوات انفصالية في شرقه، وانقلاب عسكري وتوافقات ومواءمات بين مدنيين وعسكريين في العاصمة الخرطوم، بينما المظاهرات مستمرة للمطالبة بإسقاط الانقلاب وتمكين الثوار مرة أخرى.
جانب من المسار المتأزم الذي يشهده السودان منذ الإطاحة بالرئيس المخلوع عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، عقب ثورة شعبية اندلعت في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018.
وبعد مرور 3 سنوات من الثورة، يدخل السودان في معضلات جديدة لسيناريوهات التغيير وطبيعته، ولمن الحكم، للمدني أم العسكري أم المسلح؟ وإلى أي سيناريو يمكن أن تصل الأوضاع المتقلبة في الدولة التي يسيطر على جزء من شعبها انتماء القبيلة وعصبيتها، للبناء كما يرجى، أو الانزلاق إلى الانفصال والحروب كما يحذر؟
"حرب الغوريلا"
يشهد إقليم دارفور اقتتالا دمويا بين القبائل العربية والإفريقية، ضمن صراعات على الأرض والموارد ومسارات الرعي، وسط فشل ملحوظ من الدولة على التدخل وحسم الصراع الآخذ في التصاعد.
وفي 18 ديسمبر/كانون الأول 2021، أعلنت لجنة أطباء السودان أن حصيلة الاقتتال القبلي في ولايات "غرب وجنوب ووسط" إقليم دارفور (غرب)، بلغت 248 قتيلا.
ودعا تطور الأحداث السلطات الأمنية في السودان إلى التصريح باعتزامها تشكيل قوة قوامها أكثر من 3 آلاف جندي؛ لحسم التفلتات الأمنية في دارفور، وهي خطوة تأتي متأخرة كون النزاع بدأ منذ أكتوبر/تشرين الأول 2021، وتطور تباعا حتى وصل إلى اشتباكات أهلية عارمة.
وفي 16 ديسمبر/كانون الأول 2021، أطلقت الأمم المتحدة بيانها عن أزمة دارفور، وقالت إن "أكثر من 83 ألف شخص نزحوا من إقليم دارفور جراء موجة العنف".
يذكر أنه في 22 ديسمبر/كانون الأول 2020، وقعت أيضا أحداث "الجنينة" الدموية بدارفور، والتي راح ضحيتها المئات، بعد أن أدت سلسلة من حوادث العنف بين قبيلة المساليت ورجال القبائل العربية إلى زيادة التوتر بين القبائل في منطقة الجنينة ما أنتج حينها انتشار العنف على نطاق واسع.
وفي 11 أبريل/نيسان 2021، تناولت صحيفة "ذا نيو هيومانتيريان" الحقوقية الأممية، أوضاع دارفور، وأرجعت بالقول أن تصاعد أعمال العنف بالإقليم السوداني، "مدفوع بخلفيات سياسية أكثر من كونها قبلية".
ويقف مخيم النزوح الواقع على مشارف الجنينة شاهدا على ماضي دارفور، حيث توجد منازل محروقة والشوارع الفارغة تمتد على مد البصر.
وتاريخيا، شهد إقليم دارفور عام 2003، نزاعا مسلحا بين القوات الحكومية وحركات متمردة، أودى بحياة نحو 300 ألف شخص، وشرد نحو 2.5 مليون آخرين، وفق الأمم المتحدة.
وعرفت أزمة ذلك الإقليم بـ"حرب الغوريلا"، ووقتها احتاجت القوات المسلحة إلى قوات مساندة لمكافحة التمرد، فأنشأت قوات شعبية من بعض القبائل الموالية للدولة لمكافحة التمرد، واشتهرت هذه القوات باسم قوات "الجنجويد".
ويخشى الجميع من تكرار هذا السيناريو على نحو أسوأ، خاصة وأن السودان يعاني غياب حكومة مركزية حقيقية قادرة على ضبط الأمور، إضافة إلى أزمات أشد في مناطق أخرى، لا تقل أهمية وخطورة عن دارفور.
شرق مشتعل
ومن اقتتال دارفور إلى اشتعال شرق السودان، ففي 16 ديسمبر/كانون الأول 2021، أعلن مجلس السيادة تعليق "مسار الشرق" في اتفاق جوبا للسلام، وتشكيل لجنة لجبر ضرر أهالي المنطقة.
و"مسار الشرق" هو اتفاق جرى بين الحكومة وفصيلين شرق السودان عام 2020، ينص على تمثيل الأخيرين بنسبة 30 بالمئة في السلطة التنفيذية والتشريعية بالإقليم، لكنه لم ينفذ بعد.
وقبل أيام من تعليق المسار، وافق المجلس الأعلى لنظارات البجا" في بيان، على طلب حكومي بإرجاء إغلاق ميناء بورتسودان والطريق القومي الرابط بين الخرطوم ومدينة بورتسودان.
لكنه عاد ليهدد بعودة الإغلاقات، ما لم يتم الاستجابة لمطالب سكان الشرق.
وينفذ المجلس هذه الإغلاقات احتجاجا على ما يصفه بـ"تهميش تنموي" ورفض تنفيذ خطوات مسار الشرق ضمن اتفاق السلام الموقع في جوبا.
وكانت أزمة الشرق قد وصلت إلى ذروتها في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عندما توعد القيادي بالمجلس الأعلى للبجا والعموديات المستقلة، اللواء عثمان الباقر، بأن المجلس بصدد إعلان "دولة البجا" المستقلة عن السودان.
وقال في كلمة جماهيرية إنه "تم تجاوز أي تصعيد مدني في التعاطي مع الخرطوم والانتقال إلى التصعيد الثوري"، مضيفا "نحن في طور الدخول في عصيان مدني".
ويأتي التصعيد المستمر الذي يشهده شرق السودان، بين الحكومة المركزية في الخرطوم وقبائل "البجا" التي تهدد بإعلان دولة منفصلة في حال لم يتم الاستجابة لشروطها، مع استمرارها في إغلاق ميناء "بورتسودان" الإستراتيجي، وجميع الطرق الرئيسة المؤدية إلى العاصمة، كمشهد مؤثر على استقرار واستقلال الدولة.
وتبرز قبائل "البجا" وقائدها محمد الأمين ترك، في الحدث، كمحرك رئيس للمظاهرات، ما يجعل الوضع غير بسيط بسبب عدد وقوة القبيلة المسلحة وجذورها التاريخية العريضة، والتي تضم عشرات المكونات وتحكم قبضتها على شرق البلاد "الحيوي".
دولة غائبة
ووصف الصحفي السوداني محمد نصر، زعماء العملية السياسية في بلاده بـ"ملوك الطوائف في الأندلس"، نظرا لطبيعة الخصومة والاشتباكات المستمرة بينهم، وتبعات ذلك الوضع على الدولة نفسها ككيان ومؤسسات وعناصر إنسانية.
وقال نصر لـ"الاستقلال" إن "غياب الدولة القوية والحاكمة في السودان، لهو مغر لكل ذي مطمع أن يحتكم إلى أجندته الخاصة وتطلعاته أيا كانت، سواء إلى الحكم أو الانفراد والاستقلال بمقاطعته، مثلما يحدث في شرق السودان أو دارفور أو ولاية شمال كردفان".
واستدرك: "حتى وإن انخرطت حركات مسلحة في إطار المصالحة، فلا يوجد ما يضمن الاستمرار والاستقرار، لذا فإن الأمر أشبه بسقوط طبق من اليد ليتفتت إلى قطع صغيرة، ولو انتظرنا تفاقم الأزمات، سيتحول السودان إلى 4 دويلات، وسيحدث كما حدث سابقا مع الجنوب".
وفي 9 يوليو/تموز 2011، ولدت "جمهورية جنوب السودان" أحدث دولة في العالم، لكن لم يمض وقت طويل حتى توترت العلاقة بين الدولة الأم والوليدة، بسبب قضايا عالقة بين البلدين.
واستطرد نصر: "السودان بلد قبلي، يعلو فيه العرق على القومية، والقبيلة على الدولة، وكل يأوي إلى مرتكزه ويحميه، ولا بد إذا ما أردنا وحدته أن توجد قوة رادعة قادرة على ضبط الأمور وعدم التجاوز إلى ما هو أبعد من الولاء، ويظهر هذا أمام الدعوات الانفصالية، والقتالات الأهلية".
وشدد على أنه "يجب أن يعي الجميع أن سيناريو الحرب الأهلية ليس ببعيد عن السودان، وذلك نتيجة السيولة في كل شيء، بداية من الجيش وقوات الدعم السريع، ولجان مقاومة التمكين المسلحة التابعة للحكومة، وصولا إلى الحركات المسلحة ذات الجيوش المتعددة التي تحمل سلاحها منذ أمد بعيد وتراهن على المرحلة القادمة".
وتابع: "تخيل ونحن أمام هذا الكم من المعضلات والتساؤلات داخل دولة كبيرة ومعقدة بحجم السودان، سنكون بلا جدال أمام حرب عالمية مصغرة، ومشاهد تفوق سوريا وليبيا شراسة".
واختتم: "لذلك فإن السودان في حاجة إلى بناء دولة مؤسسية من جديد، وأن يقطع الطريق نحوها بسرعة وحسم أيا كانت العواقب، حتى لا ينفرط العقد مثلما حدث خلال حرب انفصال الجنوب، وبعدما أصبحت جموع المتمردين في جيش واحد، وهو ما قد يحدث اليوم أو غدا".