الجزائر وشركاء المستقبل.. قراءة في خريطة صراع القوى الكبرى
المحتويات
تمهيد
روسيا والجزائر
الصين والجزائر
الولايات المتحدة
الجزائر بين تركيا وفرنسا
خاتمة
تمهيد
لا تبالغ هذه الورقة إن تحدثت عن تصارع القوى العالمية على الجزائر، وعن مغازلتها لهذه الدولة بالاستثمارات والسلاح، ومحاولات عرض استضافة النفوذ من أجل مواجهة تغول نفوذ الآخرين، فيما تنتقي الجزائر السلاح الفعال من بين هذه القوى، وترفض الاستسلام لعروض القوى العالمية بإنشاء قواعد، سواء أكانت لأغراض إستراتيجية على أرضية تقاسم النفوذ العالمي أو على أرضية تكتيكية لمواجهة شبح ما يسمى بالإرهاب، أو الهجرة غير النظامية وأمراء تجارتها.
ربما لا تطمح الجزائر لحرب، ولا ترغب في أن تنحاز، أو تكون مسرحا لمواجهة بين القوى الكبرى، لكن تفتق ملفات الذاكرة فيها يدفعها باتجاه تحسين أوراق تفاوضها لتحصيل حصة من كعكة تحضر لإتاحتها أمام السوق العالمي للبضائع المحلية والعالمية، وخلال سعيها لتحسين أوراق تفاوضها، تتخير الجزائر شريكا يقبل القسمة العادلة للكعكة.
كيف تتحرك الجزائر على هذا المسرح العالمي شديد التعقيد؟ وكيف تتجاوز الضغوط التي تدفعها مجددا للتبعية والانحياز؟ وكيف تختار شركاء المستقبل؟ هذه الورقة تجتهد في تقديم إجابة.
روسيا والجزائر
نفوذ موسكو في الجزائر يعد أحد أهم أعمدة الحضور الروسي بمنطقة الشرق الأوسط، حتى وإن رفضت الجزائر وجود قاعدة عسكرية روسية على ترابها، وهو ما سبق أن لمح له مراقبون أمنيون لموقع "بيزنس إنسايدر"، ضمن محاولات روسية لإقامة قواعد في 6 دول إفريقية من بين 21 دولة تقيم علاقات تعاون عسكري وثيق معها في القارة السمراء. وبرغم هذا الرفض، زودت موسكو الجيش الجزائري، بين عامَي 2014 و2018، بما نسبته 66 في المئة من الأسلحة المملوكة منه، وكانت الجزائر المستورِد الأكبر للسلاح الروسي في القارة الإفريقية.
ووفقاً لتقديرات السفير الروسي لدى الجزائر، "إيجور بلاييف"، بلغت حصّة الجزائر، في يوليو/ تموز 2018، نصف مبيعات الأسلحة الروسية إلى إفريقيا.
ومنذ العام 2017، تعاونت شركتا الطاقة الأبرز في روسيا، "روزنفط" و"ترانسنفط"، مع شركة "سوناتراك" للمواد الهيدروكربونية المملوكة من الدولة الجزائرية في مشاريع لإنشاء خطوط أنابيب.
كذلك ناقشت وزارة الطاقة الروسية إمكانية إنتاج سيارات "لادا" في الجزائر، بعد الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" في يناير الماضي/كانون الثاني 2019.
دعا نسق المصالح العسكرية هذا عددا من المراقبين لتقييم التوازن الدقيق الذي عبرت عنه تصريحات الخارجية الروسية حيال حراك الجزائر، وما بدا منه أن روسيا تلعب بحذر لإمساك عصا الجزائر من المنتصف، بالرغم من أنها دأبت من قبل - والنموذج السوري ما زال ماثلا في الأذهان، على دعم حلفائها المستبدين في مواجهة الاحتجاجات الشعبية التي تعصف بهم وبمستقبل وجودهم في السلطة.
يضاف لذلك - بطبيعة الحال - تخوفات الروس المتزايدة من أن تؤدي ثورة شعبية ناجحة وانتخابات حرة في الجزائر إلى توطيد العلاقات الجزائرية مع الديمقراطيات الليبرالية، على غرار الولايات المتحدة التي كانت قد أبدت دعمها للحراك، ودافعت عن حق الشعب الجزائري في التظاهر.
ولا يمكن في هذا الصدد تجاهل أهمية دور متوازن للجزائر حيال التدخل الروسي في ليبيا، ومستقبل الوجود العسكري هناك، في إطار التغيرات التي تعتري المشهد السياسي الأميركي، والذي قد يفضي إلى دور في الجزائر، ربما يكون أوسع من الدور الذي حاولت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب لعبه في الجزائر عبر وزير الدفاع مارك أسبر، والذي كان من أبرز ملامحه محاولة تأمين مستقبل المشهد السياسي الجزائري من انقلاب عسكري على الرئيس عبد المجيد تبون.
المتتبع للمشهد الجزائري يلحظ أن روسيا بوتين اتجهت منذ منتصف العقد الماضي باتجاه إستراتيجية جديدة تتجلى في تعزيز القدرات العسكرية لحلفائها، وبخاصة أولئك الذين يمتلكون موارد طاقية هائلة من الغاز والنفط. نجحت موسكو في تحويل فنزويلا، رغم الحصار الذي يعانيه هذا البلد، إلى قوة عسكرية حقيقية في أميركا اللاتينية تتمتع بأهم سلاح جوي في المنطقة، وهي نفس الإستراتيجية التي تطبقها مع الجزائر خلال السنوات الأخيرة. تجاوزت روسيا العلاقات العسكرية المحضة مع الجزائر باتجاه تعميق الروابط الاقتصادية والتجارية معها، وتبذل جهودا أكبر للفوز بسوق الحبوب الجزائري، الذي تهيمن عليه حاليا فرنسا، فيما يعد هذا السوق واحدا من الأسواق الرئيسة القليلة غير المتاحة للقمح الروسي. هذا بالإضافة للتعاون في عدة مجالات أخرى، كان آخرها التعاون في مجال إنتاج اللقاح الروسي لمواجهة فيروس كورونا في الجزائر.
ورغم الطموحات التجارية الروسية في الجزائر، تظل العلاقات العسكرية الأكثر تمتعا بقوة اندفاع ذاتية. فخلال 2020، اتجهت روسيا لبناء أكبر مركز عسكري في الجزائر ضمن مشروع شراكة وتعاون عسكريين بين روسيا وعدد من الدول بينها مصر والجزائر.
كما اتجهت روسيا لتحديث أسطول الجزائر من طائرات "سو 24" من طراز "إم 2" الموجه خصيصا للجيشين الروسي والجزائري، كما وافقت على تزويد الهند للجزائر بصواريخ "براهموس" الاعتراضية، وصواريخ "آكاش" أرض جو، التي تصنعها نيودلهي بعقد مع الشركة الروسية المنتجة لهما.
هذا علاوة على بيع طائرات "سو 35" المتقدمة للجزائر، وهي الطائرات التي واجهت الطلعات الفرنسية المحاذية للجزائر من مطارات دولة مالي، والذي قادت إليه تلك الاشتباكات "المشبوهة" على الحدود بين الجزائر ومالي.
كما اتفقت كل من روسيا والجزائر على تزويد الأولى للجزائر بطائرات "سو 57" القريبة في أدائها من طائرات "إف 35" الأميركية، وإن لم تنتم لطائرات الجيل الخامس، وتحسب على "الجيل الرابع ++"، علاوة على مسيرات "إس 70"، هذا بالإضافة إلى الاتفاق المبدئي على تجميع "ميج 35" بعد نجاحها في تجميع "ميج 29"، ومنظومة "إس 400" الروسية المتخصصة في الدفاع الجوي.
وإن لم يمنع هذا أن تناور الجزائر برفض استضافات منظومة رادارات "ياكروما" الروسية، وهو الرفض الذي أعقب زيارة وزير الدفاع الأميركي للجزائر، وربما بسبب رغبة الجزائر في تعكير علاقاتها مع تركيا بالنظر لرغبة روسيا في ضم الجزائر لمحور روسي يمتد من فنزويلا إلى الهند.
الصين والجزائر
ليست روسيا وحدها من تخطب ود الجزائر. فالصين تفعل ذلك أيضا، وإن كانت البوابة الصينية التقليدية هي البوابة الاقتصادية، والتي جعلت الصين أكبر بلد يمثل مواطنوه جالية أجنبية في الجزائر يقدر عددهم بعشرات الآلاف ومعظمهم من العاملين في مشاريع البناء الكبرى، إلا أن الحضور الصيني الذي يرتكز على الاقتصاد تجاوزه نسبيا باتجاه العسكرة علاوة على عدة مجالات أخرى من بينها جائحة "كوفيد 19"، حيث قدمت الصين للجزائر عدة مساعدات ضخمة قدرت شحنتها الأولى وحدها بنحو 420 ألف يورو، علاوة على إقامتها مستشفى ميداني وطاقم مستشارين طبي ومعدات دعم طبي تخص مواجهة الفيروس القاتل.
وتبدو العلاقة مع الصين فائقة الأهمية بالنسبة للجزائر، ما دفع وزير الاتصال والناطق باسم رئاسة الجمهورية الجزائرية، محمد أوسعيد بلعيد، للتصريح لصحيفة "النهار" (المقربة من النظام)، بأن بلاده لا يهمها من يقلق من العلاقة مع الجانب الصيني، وهو ما تفهم منه مراقبون أن المقصود هو الولايات المتحدة القلقة من تمدد الحضور الصيني في شمال إفريقيا، وهو الحضور الذي دفع الولايات المتحدة لإقامة قاعدة عسكرية في شمال شرق تونس، مقرونة باتفاق شراكة يدوم 10 سنوات تبدأ من مطلع العقد الراهن.
ويمثل قطاع المقاولات أحد أهم أوجه الشراكة القوية بين الجزائر والصين، ويعد مسجد "الجامع الأعظم" المُقام على أرض العاصمة الجزائرية، والذي بدأ بناؤه قبل 8 سنوات، في (مايو/أيار) عام 2012، على مساحة 200 ألف متر مربع بسعة أكثر من 120 ألف مُصلٍّ، أحد أوجه التعاون الجزائري الصيني، حيث نفذته شركة هندسة البناء الحكومية الصينية بتكلفة بلغت مليار دولار، إلا أن هذه الخطوة الرمزية لا تمثل سوى بداية قائمة تعاون من الثقل الإستراتيجي.
ويعد الطريق الصحراوي الإفريقي، الرابط بين العاصمتين الجزائر - لاجوس في نيجيريا، أحد أوجه التعاون الإستراتيجي بين البلدين، حيث ساعدت الصين الجزائر في تمويل الشطر غير الجزائري من هذا الطريق، والذي تعول الجزائر عليه لاقتحام السوق الإفريقية التي تضم أكثر من 700 مليون نسمة من الدول التي سترتبط بالطريق، وهي تونس والنيجر وبوركينا فاسو ومالي ونيجيريا والبلدان المجاورة لها.
هذا الطريق الذي بدأ العمل به عام 1960، ويربط الجزائر العاصمة بالعاصمة النيجيرية "لاجوس" مع عدة تفرعات، لم ينجز حتى الآن بسبب صعوبات اقتصادية ومالية تعاني منها الدول التي يمر منها، ما أدى لتأخر إنجازه في عدد من محطاته الإفريقية، لكنه اليوم - وبفعل التعاون الصيني - سيكون جاهزا بالكامل في حزيران / يونيو 2021.
تعود العلاقات الصينية الجزائرية القوية إلى مرحلة الاستقلال الجزائري، لكنها شهدت طفرة عام 2014، حيث ارتقى مستوى العلاقة بين البلدين إلى شراكة إستراتيجية شاملة، وهي الشراكة التي دفعت الشركات الصينية تجاه الحضور القوي والمضطرد التوسع في قطاع الإسكان بالجزائر، ثم توسع الحضور الصيني لتستأثر الجزائر وحدها بنحو 6 بالمئة من إجمالي الاستثمار الأجنبي الصيني في إفريقيا، حيث طالت الاستثمارات الصينية مشاريع البنية التحتية الأكبر، كتوسيع السكك الحديدية والطرق السريعة، علاوة على دور الشركات الصينية في بناء ميناء "شرشال" الجزائري، والذي يعد أحد أهم الموانئ البحرية هناك.
وامتد الأمر لإنشاء مطار العاصمة الجديد، علاوة على الملعب الأولمبي في مدينة "وهران" (جنوب)، بالإضافة لإنشائهم أكبر سجن فيها كذلك. ومع وجود بيئة عمل مرحبة بالوجود الصيني، مضت الشركات الصينية نحو توسعة أنشطتها في قطاعات التعدين وإنتاج الإسمنت وتصنيع المعدات.
التوسع الاقتصادي الصيني في حضوره بالمشهد الجزائري يعد حديثا نسبيا مقارنة بالعلاقات التعاونية العسكرية بين البلدين، والتي تعود إلى عام 1958، حين اختارت بكين تعزيز حضورها في إفريقيا، فجعلت الجزائر جسرا لمساندة حركات التحرر الوطني السمراء، ما أدى لاحقا إلى أن تتجه دول شمال إفريقيا للاعتماد على الأسلحة الصينية، ما جعلها تنفرد بنحو 49بالمئة من صادرات العملاق الآسيوي للقارة ككل.
في هذا الإطار، كانت الجزائر المشتري الأول بين تلك الدول، وأعقب ذلك بدء التعاون العسكري بتدريب ضباط عسكريين جزائريين في الصين، وإنشاء ملحق دفاعي في السفارة الجزائرية ببكين عام 1971، وتمثل الجزائر اليوم ثالث أكبر مشترٍ للأسلحة الصينية في العالم.
ومع تطور الصناعات الدفاعية الصينية في الأعوام الأخيرة، باعت الصين للمؤسسة العسكرية الجزائرية أسلحة متنوعة، حيث كانت الجزائر أول دولة إفريقية تستورد أنظمة الصواريخ الصينية المضادة للسفن من نوعَيْ "C-802/CSS-N-8″، وكذا راجمات متعددة الصواريخ من نوع "إس أر 5" التي لديها القدرة على إطلاق صواريخ موجهة، ومدافع هاوتزر ذاتية الدفع "LZ45" عيار 155 ملم، وتستخدم في التدريبات التكتيكية، وفي آخر تعاون عسكري زودت بكين الجزائر بأنظمة صواريخ متطورة من الجيل الثالث "HJ-12" المضادة للدبابات بوصفها أول دولة إفريقية تحصل عليها.
كما تسلمت الجزائر في أكتوبر/تشرين الأول 2018 الطائرات بدون طيار صينية الصنع من طرازي "سي إتش 3" و"سي إتش 4"، والتي تجمع بين مهام المراقبة والقتال.
وفي إطار المشكلات بين كل من الجزائر وإسبانيا، وبعد حصولها على طراد "الفاتح" من شركة CSSC، وهي إحدى كبريات الشركات الصينية الكبرى لصناعة السفن والمعدات البحرية، اتفقت القوات المسلحة الجزائرية على تسليم دفعة طرادات عسكرية من المرتقب تسليمها خلال بضعة أشهر.
وكما بدأت الصين علاقاتها مع القارة السمراء من الجزائر في بداية ستينيات القرن الماضي، أملا في الاحتفاظ بموطئ قدم لها في غرب "العالم القديم"، تعيد الصين تأسيس هذه العلاقات من جديد، لكنها اليوم تسير خطواتها في إطار مواجهة مرتقبة مع الكتلة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي ترى في الصين الخطر الأكبر على اقتصادها في المستقبل.
الولايات المتحدة
خلال الفترة الأخيرة من إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب توجه وزير دفاع الأخير مارك إسبر، إلى دول شمال غرب إفريقيا في جولة مكوكية، زار خلالها كلا من تونس والجزائر والمغرب، وهو ما تناوله قسم البحوث بالصحيفة في حينه، واستبق إسبر هذه الزيارة بتوقيع اتفاق شراكة وتعاون دفاعيين مع تونس مدته 10 سنوات، تضمن إقامة قاعدة عسكرية هناك، وهي الرسالة المركزية التي أرسلها من تونس للبلد المغاربي الأقرب جغرافيا إليه، قبل أن يقوم بزيارة الجزائر نفسها في زيارة عدت الأولى لوزير دفاع أميركي منذ أكثر من 15 عاما في تاريخه، ثم غادر الجزائر كذلك ليعيد إرسال نفس الرسالة من المغرب التي تمثل الحليف الأساسي للولايات المتحدة في شمال غرب إفريقيا، مع وعود بتوطين صناعة عسكرية في هذا البلد المطل على البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي.
وتناور الجزائر بعلاقاتها بكل من روسيا والصين والولايات المتحدة لكي تضمن استقلالها النسبي عن هذه البلدان الثلاثة. وكما سبق للجزائر أن رفضت إقامة قاعدة عسكرية روسية على ترابها الإقليمي، فإنها سبق لها أن رفضت كذلك إقامة قاعدة عسكرية أميركية على أراضيها في العام 2014 ، وهو الطلب الذي بررته قيادة الجيش الأميركي في أوروبا "إيكوم" آنذاك بالحاجة لتسهيل تتبع ورصد أنشطة الجماعات المتطرفة، ولا سيما فرع تنظيم القاعدة في شمال إفريقيا، المسمى "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، الذي كان قد استقر لفترة على التراب الجزائري قبل أن يمتد نشاطه إلى بلدان الجوار، وخاض إلى جانب جماعات مسلحة أخرى من مالي ومن بعض دول جنوب الصحراء والساحل، حربا ضروسا مع القوات الفرنسية والإفريقية، وما تزال هذه الحرب قائمة وإن بدرجة أكثر حدة، والتي توجه لها كل من الولايات المتحدة وفرنسا العملية الإستراتيجية المسماة "عملية برخان".
واختلف المراقبون آنذاك في تفسير إطار الرفض الجزائري، مشيرين لموقف مبدئي خلف رفض الجزائر، وهو ما جوبه برفض واشنطن بيع طائرات من دون طيار إلى الجزائر، فيما يرى آخرون أن العكس هو الصحيح.
غير أن المجاملة التي أسداها مارك إسبر للرئيس تبون خلال هذه الزيارة متمثلا في دعم سياسي ضد موقف سلبي من المؤسسة العسكرية تجاه "تبون"، أدى لتطور نسبي في العلاقات العسكرية بين البلدين، لكنه تطور في اتجاهين أحدهما سلبي والآخر إيجابي.
أما الدور الإيجابي فيتمثل في شراكة بحرية بين كل من القوات البحرية الجزائرية والقوات البحرية التابعة للقيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا (أفريكوم)، بدأت بعد رسو حاملة الطائرات الأميركية "يو إس إس روزفلت"، وتعبير قيادة (أفريكوم) عن رغبتها في وجود تعاون يضمن صيانة قطع الأسطول السادس الأميركي في جنوب المتوسط كما في شمال المتوسط باليونان، وهو ما فسره مراقبون بأنه سعي من الولايات المتحدة للتعرف على التقنية البحرية الروسية، وتحييد منظومة "إس 400" الجزائرية حيال حركة أسطولها السادس وطيرانها من فئة "إف 35" في غرب المتوسط.
كما عكست هذه العلاقة البحرية رغبة من البحرية الجزائرية في زيادة الاحتكاك بآلة عسكرية بحرية غربية متطورة، وبخاصة في ضوء حجب التدريبات المشتركة مع فرنسا منذ بدء توتر العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ منتصف عهد إدارة الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، وكذا بعد توتر العلاقات مع إسبانيا.
غير أن هذا الدور الإيجابي تبعه مؤشرات سلبية صادرة عن الولايات المتحدة، كان أولها ما يتعلق باعتراف إدارة "ترامب" بمغربية الصحراء الغربية، ثم تلكم الرسالة التي حملها وزير الدفاع الأميركي للجزائر من إسبانيا فيما يتعلق بأزمة "جزيرة كابريرا"، والتي تصطف حيالها الولايات المتحدة في نفس الخندق، وبشكل غير مباشر، مع الموقف الإسباني، وترغب في توجيه الجزائر للعمل في العمق الإفريقي، وفي الملف الليبي، بدلا من التمدد في غرب المتوسط، وهو ما يعزى لوجود حالة تخوف من تقنيات الطيران الروسي والطيران المسير الصيني - الروسي - التركي - الجزائري في الجزائر، ومنظومات التشويش الإلكتروني المرجح تطويرها بالتعاون مع الأتراك أو الروس في تأثيرها على منظومة "إيجيس" المضادة للصواريخ في المدمرة الأميركية "كوك".
هذا علاوة على تأثير منظومة "إس 400" الواعدة تحت التطوير التركي، والتي سبق للمخابرات الجزائرية أن عرقلت محاولتين أميركيتين للتجسس عليها وعلى تركيبها وتقنيتها.
فوجود هذه التقنية في غرب المتوسط سيجد طريقه للنشاط حينما يرتبط تشغيلها بجملة مصالح اقتصادية لبلد طموح مثل الجزائر يسعى لتنمية نصيبه من ثورة الغاز في غرب المتوسط، وهو ما يجعل قواته البحرية في حالة نشاط مستمر، ويجعل من تطورها بعد وصول حزمة الطرادات الصينية مصدر تهديد.
وهو ما دفع الولايات المتحدة للعمل من أجل أن تكون بديلا للجزائر كأكبر مورد للغاز إلى إسبانيا، ما يجعل الغاز الجزائري المرتقب في غرب المتوسط بدون سوق، وهو ما من شأنه أن يدفع الجزائر للامتثال، والاهتمام بالملف الإفريقي أكثر من ملف غرب المتوسط.
غير أن قطاعا واسعا من المراقبين يرى أن السياسة المتوازنة للجزائر حيال خلافات القوى العالمية تترك مجالا أمام إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للتعامل بحكمة أكبر مع الملف الجزائري، أملا في مواجهة تمدد النفوذ الصيني في غرب إفريقيا قبل النفوذ الروسي، خاصة وأنه قد سبق - تاريخيا - اقتلاع الجزائر من دائرة النفوذ الفرنسي العتيد نسبيا، حيث انتقلت الجزائر من سياسة محاربة الفرانكفونية، إلى عضوية المنظمة التي ظلت تحاربها زهاء 40 عاما، ثم انتقلت للمحور الروسي الصيني، ومراوحة الجزائر من مبدأ الحياد بين الأقطاب الدولية المتصارعة، إلى الانفتاح على حلف شمال الأطلسي "ناتو" الذي سبق له أن ساند المستعمر الفرنسي ضد ثورتها التحررية، كما انتهت إلى توقيع اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي يعتبره معظم المحللين الجزائريين، بما فيهم مستشار سابق لرئيس الجمهورية، "اتفاقا كارثيا"، يجعل من اقتصاد الجزائر "سوقا" يعرض البضائع الأوروبية ويروج لها، وتموت فيه الصناعة الوطنية لعجزها عن المنافسة.
وربما آن الأوان من وجهة نظرالولايات المتحدة لأن تحاول دفع الجزائر إلى دائرة ترحال جديدة "متوازنة" من المحور الروسي الصيني باتجاه جديد.
الجزائر بين تركيا وفرنسا
الوضع الجزائري الراهن مرهق لأوروبا، ومن ثم لابد وأن يكون مرهقا لفرنسا بشكل خاص، وذلك على اعتبار أن فرنسا تمثل الدولة صاحبة ما تفضل تسميته بـ"الامتياز الاستعماري" في غرب وشمال غرب إفريقيا بشكل عام، وهو ما تتصور أنه يرتب لها وضعا خاصا في هذه المناطق، وهو ما تعمل في إطاره فرنسا لبسط نفوذها في هذه المناطق، وهو ما يواجه عراقيل أميركية في تونس والمغرب والساحل الإفريقي الغربي.
كما يجابه أيضا عراقيل تركية - روسية في ليبيا، رغم نجاحها المتأخر في احتواء الغضب الإيطالي، في وقت تنظر فيه الولايات المتحدة وإسبانيا للتطلعات الفرنسية باعتبارها مصدر خطر لابد من احتوائه وتوجيهه كذلك، وربما منحه بعض المساعدة في مواجهة الأتراك والجزائريين.
ومنذ الحراك الجزائري - بشكل خاص، تواجه فرنسا مشكلة مع رأس السلطة في الجزائر. وبرغم نزوع المؤسسة العسكرية لبناء روابط عميقة مع فرنسا، وهو ما يعزى - في أحد أبعاده - للاستقواء بها على إسبانيا في ملف المتوسط، فإن المؤسسة الرئاسية الجزائرية تبدو أكثر ميلا لمعاودة خط بومدين في رفض الوصاية الفرنسية على القرار الجزائري، وأكثر إصرارا كذلك على رد اعتبار الجزائر بالنظر لحقبة الاستعمار وما حل بالجزائر إثرها، وهي التوجهات التي تتبدى من خلال ملف الاعتذار عن فترة الاستعمار، وملف تعويض ضحايا التفجيرات النووية، وتتسرب هذه الروح للمؤسسة العسكرية، ما دفع لوجود نوع من تحدي الآلة العسكرية الفرنسية، وبخاصة على الحدود الجزائرية مع مالي.
ويسمي مراقبون هذه التحولات الجزائرية باسم "ملفات الذاكرة"، ويرونها مصدرا لتوتر فرنسا وتوتر علاقتها بالجزائر كذلك، وهو التوتر الذي يمكن تلمسه من خلال احتفالية تكريم "ماكرون" للجزائريين الذين قاتلوا مع فرنسا ضد بلادهم، ومسالك أخرى ليس آخرها إعلانه رفض الاعتذار عن الاستعمار.
لا يمكن إدراك هذا التوتر بعيدا عن سعي الجزائر لتطوير قدراتها العسكرية البحرية والجوية بما يعني التوجه جنوبا بصورة أساسية، حيث التضاريس الصحراوية الإفريقية الوعرة تجعل سلاح الجو مقدما على الأسلحة البرية بأطيافها، أما تطوير القدرات البحرية فإنه لا يعني سوى التقدم باتجاه المتوسط الذي يلقى متاعب جمة في شرقه جراء تركيز الأتراك على نيل حقوقهم الاقتصادية في هذا البحر، وهو ما يجعل من قوة صاعدة أخرى في غرب المتوسط مصدر إزعاج آخر.
ويتصادف أن القوتين الصاعدتين في شرق المتوسط وغربه (تركيا والجزائر) تواجهان ماضيا استعماريا قاسيا مع فرنسا بشكل خاص. وإذا كان استعمار فرنسا للجزائر ماثلا أمام الأذهان، فإن الجانب التركي لا ينسى أن الفرنسيين كانوا أول القوات الأوروبية التي احتلت الدولة العثمانية جنبا إلى جنب مع الإيطاليين والبريطانيين واليونانيين، وأن فرنسا وطئت أراضي إسطنبول بما لهذه الحاضرة التاريخية من "رمزية".
بفقدان فرنسا للجزائر كبوابة لها إلى العمق الإفريقي، ستتجه فرنسا لشق طريقها للهيمنة اعتمادا على الساحل الغربي لإفريقيا، وهو الساحل الذي تجابه فيه مطامع أميركية واسعة تدخلت لتحجم الحضور الفرنسي في "العملية بارخان"، وتقتنص الدور المخابراتي وشطرا يسيرا من الدور العسكري الذي تضطلع فرنسا بتضحياته كاملة، لكنها ستكون مضطرة للحصول على نصيب ضيق من كعكته الاقتصادية مقارنة بالحصة الأميركية.
لكن الحصة الفرنسية لن تهنأ بها وحدها، بل تجد مشاطرات من دول عدة، وهو ربما ما دفعها لترتيب عملية خطف البحارة الأتراك لتحاول وضع حد لمحاولات تركيا مشاطرتها حصتها، خاصة فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة، حيث تتجه الحصة التركية للتعاظم على حساب الحصة الفرنسية، وهو ما كان من تجلياتها أن بدأ السلاح التركي يشق طريقه لتجهيزات قوات الشرطة في القارة السمراء، وفشل المباحثات التي أجرتها الرئاسة الفرنسية لمنع هذا التسويق.
وهو ما يجعل الوجود الفرنسي في غرب إفريقيا محل حصار نسبي بالتصنيع العسكري الجزائري شمالا، والتصنيع العسكري التركي المسوق شرقا وجنوبا.
تركيا، التي تشاطر الجزائر آلام الاحتلال، والمعروفة بمواجهتها الضروس مع فرنسا في شرق المتوسط وجنوب القوقاز، تتلقف الخلاف الجزائري الفرنسي لتنضم إلى قافلة مزودي السلاح للجزائر، وبخاصة "سلاح بيرقدار" الذي جربته تركيا وأذربيجان في "حرب قره باغ"، وثبتت فاعليته لحد طلب شرائه أوروبيا وأميركيا، حيث طلبت الجزائر سربا من بيرقدار، وتسلمته بالفعل، فيما تقدم الرئيس التركي بالاتصال بالمغرب ليطمئنها بأن السلاح التركي غير موجه لها، وهو ما يمثل مدعاة للقلق الفرنسي بشكل خاص.
وفيما خسرت فرنسا حضورها ونفوذها المعنوي في الجزائر، فإن تركيا ذات العلاقة الوطيدة بكل من الولايات المتحدة والصين يمكنها أن تشارك بصناعتها رأس المال الجزائري للاستفادة من السوق الإفريقي الذي ستنفتح آفاقه أمام الجزائر بحلول يونيو/حزيران 2021 بعد اكتمال طريق الصحراء الإفريقية.
وخلال لقاء وزير التجارة الجزائري كمال رزيق، ونائبه المكلف بالتجارة الخارجية عيسى بكاي، مع السفيرة التركية ماهينور أوزديمير، اقترح الوزير الجزائري على السفيرة إنشاء تكتل شركات مختلطة بالتزامن مع بداية التحضيرات لإطلاق منطقة تبادل تجاري حر إفريقية في يناير/كانون الثاني 2021 .
ومن جهة أخرى، وفيما كان أوار المواجهة بين كل من تركيا وفرنسا يشتعل، قامت الجزائر بإرسال محرك "سو 35" الروسي إلى تركيا لدراسته، وهو ما أسفر عن تطوير تصميم تركي لمحرك جديد أكثر تطورا من محرك "ساترن 30" الروسي المستخدم في "سو 35"، وهو ما طورته تركيا بالتعاون مع كوريا الجنوبية، ويحمل اسم "زد دي لي 30"، والذي تعكف تركيا اليوم على تطويره مع إحدى الشركات اليابانية، وينوه مراقبون إلى أن نسخته الأولى قد جربت بالفعل في "حرب قره باغ"، وأنها نالت استحسان الطرف الياباني.
خاتمة
البحر المتوسط لم يعد البحيرة الأوروبية الهادئة على نحو ما ظل طيلة فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ففيما يشتعل شرقه بموجب المنافسة بين تركيا من جانب وكل من فرنسا ومصر واليونان وإسرائيل من جانب آخر، فإن الرياح في غربه اليوم تكاد تشعل نيران مواجهة جديدة تقع الجزائر في مركزها.
وفيما لم تعد الصيغة الفرانكفونية مرضية للجزائريين، فإن القوى العالمية تتجه نحو الجزائر من أجل مبيعات السلاح حينا وتوطين تقنية تجميعها حينا آخر، وتنافس فيما بينها لترتيب أوراق مواجهة شرقية - غربية بصيغة جديدة بعد أكثر من 3 عقود من نهاية الحرب الباردة بين كتلتين حكمتا العالم طيلة 4 عقود أعقبت الحرب العالمية الأولى.
ملفات الذاكرة الجزائرية أعيد فتحها، وتفتحت معها تطلعات الجزائريين لاستثمار ميزاتهم الجيوسياسية من أجل تحسين شروط تفاوضهم مع القوى الكبرى لتعظيم حصتهم من كعكة المنطقة، واتجهوا لدعم هذه الأوراق التفاوضية بتصنيع منظم للسلاح، وتوسع مدروس في بناء ترسانتهم لتغطية طموحاتهم في جنوب غرب المتوسط، وفي إفريقيا جنوب الصحراء.
تفرض التوازنات الدولية حتى هذه اللحظة نوعا من الحماية النسبية لإرهاصات الطموح الجزائري، وتمنحها أوراقا تفاوضية قوية في مواجهة نزعات اصطفاف غربية وشرقية حيال ثروات المنطقة من الطاقة، حيث تحد من قدرة الولايات المتحدة في الضغط على الجزائر بقوة لصالح إسبانيا، كما تحد من قدرة الروس من الضغط على الجزائر لصالح تطلعاتهم الجيوسياسية في المياه الدافئة، فيما تمثل الثروة الواعدة فاتح شهية للصين يشجعها على توجيه الاستثمارات للجزائر، سعيا وراء الربح والنفوذ الجيوسياسي.
وتتجه الجزائر - من أجل تحصيل حصتها من الكعكة - إلى التكتل مع الشريك الإقليمي التركي، وتفادي الدوران في فلك قوة كبرى قد تبتلع الحصة الجزائرية، وتجعل من المسرح الجزائري "سوقا" وحسب لعرض بضائعها التي تنوي التوجه جنوبا تجاه دول تنزع لاستهلاك البضائع الأوروبية المنشأ.