اختاره ثم غضب من منحه الثقة.. ما سر انقلاب رئيس تونس على المشيشي؟
للمرة الثالثة في أقل من عام، يجتمع البرلمان التونسي للنظر في منح الثقة لحكومة جديدة، بعد انتخابات تشريعية أفرزت مشهدا برلمانيا مشتتا، وبعد انتخاب الرئيس الحالي قيس سعيّد الذي يتهمه البعض بمعاداة الأحزاب والبرلمان.
هذه المرة نجحت حكومة هشام المشيشي في الحصول على ثقة البرلمان، رغم ما رافق تشكيلها من جدل، بدأ مع اختيار اسم سعيّد المشيشي لتشكيل الحكومة من خارج مقترحات الأحزاب، وقراره بتشكيل حكومة تكنوقراط دون الدخول في مشاورات حقيقية مع الأحزاب والكتل البرلمانية.
الجدل استمر إلى الساعات الأخيرة قبيل جلسة منح الثقة، خاصة بعد ما راج من مساع للرئيس سعيّد من أجل الإطاحة بالحكومة المقترحة، ولقائه بالأحزاب المكونة لحكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة ووعدهم بعدم حل البرلمان في حال عدم منح الثقة لحكومة المشيشي.
مراقبون فسروا انقلاب سعيّد على المشيشي في اللحظات الأخيرة، برفض الأخير أسماء اقترحها الرئيس لتولي وزارات في حكومته الجديدة ورفضه أي تدخل في تشكيلها.
لم ينته الجدل بمنح الثقة للحكومة، حيث أعاد خطاب رئيس الجمهورية عقب أداء اليمين الدستورية للحكومة تساؤلات عن طبيعة الصراع السياسي الحالي في البلاد، ومدى عمق الخلاف الحاصل بين باردو (البرلمان)، وقرطاج (رئاسة الجمهورية).
تحالف علني
بعد جلسة مطولة استغرقت نحو 17 ساعة، صوت مجلس نواب الشعب، في وقت مبكر من يوم 2 سبتمبر/ أيلول 2020، على منح الثقة لحكومة المشيشي (46 عاما) بأغلبية 134 صوتا مقابل 67 صوتوا ضدها، في حين لم يمتنع أي نائب عن التصويت، علما بأن البرلمان يضم 217 نائبا.
هذا التصويت أسس لمشهد سياسي جديد في تونس، حيث تشكل بالفعل ائتلاف حاكم جديد وإن حافظ على بعض من مكوناته السابقة، كما تشكلت المعارضة التي تمددت بالتحاق كتل جديدة بها.
قبل جلسة منح الثقة، أعلن مجلس شورى حركة النهضة في 31 أغسطس/آب 2020، تصويت كتلته لصالح الحكومة (54 نائبا)، وكذلك أعلن حزب قلب تونس (27 نائبا)، والكتلة الوطنية (10 نواب)، وحركة تحيا تونس (10 نواب) التي يقودها رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد.
وكذلك أعلنت كتلة المستقبل (11 نائبا) وكتلة الإصلاح الوطني التي يترأسها حسونة الناصفي (10 نواب)، كما صوت للحكومة 7 نواب من كتلة ائتلاف الكرامة التي تضم 20 نائبا.
نتائج التصويت أكدت صحة الحديث خلال الفترة الماضية عن وجود جبهة برلمانية تضم نحو 120 نائبا مكونة من أحزاب النهضة والكرامة وقلب تونس بالإضافة لكتلة المستقبل وعدد من النواب المستقلين.
هذه الجبهة البرلمانية نفسها هي التي رفضت التصويت لصالح لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي ووافقت على سحب الثقة من رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ الذي تعلقت به شبهات فساد.
مناورة الرئيس
يبدو أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد لم يكن سعيدا بتصويت البرلمان لصالح الحكومة الجديدة التي اختار رئيسها بنفسه، وفق ما منحه الدستور من صلاحيات.
قبل يومين من جلسة منح الثقة، صرح رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي، أن رئيس الجمهورية طلب منه ومن راشد الغنوشي إسقاط حكومة المشيشي مقابل تغيير إلياس الفخفاخ فقط والإبقاء على تركيبة حكومته كما هي.
وعقب ساعات من منح الثقة لحكومة المشيشي، وفي خطاب متشنج مساء 2 سبتمبر/ أيلول 2020، توجه سعيّد للكتل البرلمانية بجملة من الاتهامات الخطيرة، داعيا الحكومة الجديدة إلى الوقوف جبهة واحدة في مواجهة الكثيرين من الذين وصفهم بـ''الخونة وأذيال الاستعمار الذين باعوا ضمائرهم ووطنهم''.
وأضاف سعيّد: ''سأتحدث بكل صراحة عن الخيانات والاندساسات وعن الغدر والوعود الكاذبة والارتماء في أحضان الصهيونية والاستعمار''.
كما شدد رئيس الجمهورية على أنه لن يتسامح مع أي كان ''افترى وكذب وادعى ما ادعاه، وفتح دارا للفتوى ليفتي بالدستور'' وذلك في إشارة إلى مداخلات النواب في جلسة منح الثقة.
وأضاف: ''أعلم دقائق الأمور بتفاصيلها، من يظن أنه يعرف وتسلل إلى القصر.. أعرف أكثر من ما يعرفون، لن أرد عليهم بالألفاظ التي استمتعت إليها، لأنها عبارات لا تثير إلا الاحتقار والازدراء''.
وأكد رئيس الجمهورية أنه سيكشف جميع الحقائق يوما ما، قائلا: ''ستعرفون فيه الحقائق كلها، إلا إذا كان هناك حائل يتعلق بواجب التحفظ والاحتراز''.
وأضاف: ''تابعت أعمال جلسة منح الثقة، من صدح بالحق وتابعت أيضا من كذب وادعى وافترى.. وما أكثر المفترين. لكن هناك دائما رجال صادقون إذا اؤتُمِنُوا لم يخونوا، بعضهم يكذب بناء على الفتوى ويفتعل ما يبتدعه خياله المريض.. أقول للجميع، بيننا الله والأيام''.
وفق متابعين فإن خطاب سعيّد كان موجها جله إلى عدد من النواب والقيادات السياسية الذين اتهموا رئيس الجمهورية بالسعي للإطاحة بحكومة المشيشي.
استقطاب جديد
من جهته علّق رئيس كتلة ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف على كلمة الرئيس بقوله: "خطاب سعيّد اليوم مرفوض ومستهجن بكل المقاييس الديمقراطية".
وأضاف في تصريح لإذاعة "إي إف إم" في 2 سبتمبر/أيلول 2020: "هذا الرئيس يرد على خصومه السياسيين أو نواب شعب لهم الحصانة الكاملة أثناء تأدية مهامهم.. هذا الرئيس أثبت أنه لا يمت للحياة الديمقراطية بصلة، يرفض النقد والاختلاف ويهدد خصومه السياسيين، ويستعمل وسائل الدولة للتجسس على خصومه السياسيين وعلى نواب الشعب".
وتابع: "الرئيس له تأويل متفرد للدستور حسب قراءته الخاصة. من حسن الحظ أن حازت الحكومة على ثقة البرلمان الذي استعاد زمام السلطة بدلا عنه".
هذا الموقف الذي عبّر عنه سيف الدين مخلوف يأتي مشابها لما اختتم به رئيس البرلمان وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي جلسة منح الثقة حين قال: "منح البرلمان الثقة لحكومة المشيشي يؤكد أنه مصدر السلطة وهو قادر على منح الثقة، وقادر أيضا على سحبها. وهذا المجلس سحب الثقة من أكثر من حكومة"، في تصريح اعتبر مراقبون أنه يحمل رسالة غير مباشرة إلى رئاسة الجمهورية.
ويعتقد خبراء أن الخلاف السياسي بين رئيس الجمهورية والتحالف البرلماني الجديد قد صعد على السطح بعد منح الثقة لحكومة المشيشي.
الناشط السياسي أمان الله الجوهري حمل رئيس الجمهورية مسؤولية عدم الاستقرار الحكومي حين قرر عدم تكليف رئيس حكومة يحظى بثقة غالبية أعضاء مجلس نواب الشعب ووفق ما تقدمت به الكتل البرلمانية في المشاورات وأصر على تكليف رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ.
واستغرب الجوهري في حديثه للاستقلال مما أسماه محاولة احتكار قيس سعيّد لتأويل نصوص الدستور، قائلا: "ربما نسي قيس سعيّد أنه فشل حتى في نيل شهادة الدكتوراه واستكمال مساره الأكاديمي، إلا أنه يحاول في كل مناسبة من خلال كلامه أن الدستور هو دفتره الخاص من يتجرأ على فتحه وتأويل ما فيه دون إذن من جنابه فهو يستحق الشتم والتهديد من قصر الرئاسة".
وأضاف الناشط السياسي: "من يتساءل عن جدوى الحصانة البرلمانية، بإمكانه الآن أن يستمع لرئيس الدولة وهو يسب ويتوعد أعضاء البرلمان لأنهم انتقدوه، وبإمكانه أن يستشعر الخطر الذي يمثله ذلك على حرية العمل السياسي".