فورين أفيرز: هكذا فكك ترامب ديمقراطية 3 عقود في أميركا
تحدثت مجلة أميركية عن انهيار المؤسسات في الولايات المتحدة، في النصف الأول من عام 2020، في ظل "المعايير المضطربة لرئاسة دونالد ترامب" وفي خضم تفشي فيروس كورونا.
وقال تقرير لمجلة فورين أفيرز: "في البداية جاء الاتهام، ليفضح كيف حجب ترامب وحلفاؤه 400 مليون دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا لإقناع قادة تلك الدولة بالتحقيق مع عائلة جو بايدن نائب الرئيس السابق ومنافس ترامب السياسي".
وأضاف: أن "الأمر الأكثر صدمة بالنسبة لأولئك، الذين لا يزالون يثقون في دستور الولايات المتحدة لكبح ترامب، هو عدم رغبة مجلس الشيوخ الذي يهيمن عليه الجمهوريون في سماع كل الأدلة ضد الرئيس".
وبدأ ترامب بإقالة شهود في قضية عزله أمام مجلس الشيوخ في خطوة لم تكن مفاجئة بالنسبة للعديد من المراقبين الذي قالوا: إن إسقاط التهمتين -استغلال السلطة وعرقلة عمل الكونغرس- عن ترامب بقضية العزل سيزيد من قوة موقفه وقراراته.
وتابع التقرير: "ثم جاء قرار ترامب المتهور بطرد سفير الاتحاد الأوروبي (غوردون سوندلاند) والمقدم (ألكسندر فيندمان)، مدير الشؤون الأوروبية في مجلس الأمن القومي، وكلاهما شهد أثناء التحقيق في الاتهام".
حتى أن الشقيق التوأم لأليكس فيندمان، لم يفلت من الفصل من وظيفته في مجلس الأمن القومي. وتلا ذلك، فصل المفتش العام لمجتمع المخابرات (مايكل أتكينسون)، وهو واحد من خمسة مفتشين عامين تم فصلهم في الأشهر الثلاثة الماضية، وفق التقرير.
وتابع: "لم يكن العزل وعواقبه سوى البداية، ويمكن القول: إن رفض إدارة ترامب الاستجابة لتحذيرات الخبراء حول انتشار فيروس كورونا التاجي الجديد، أكثر ارتباطا بالنسبة لملايين الأميركيين".
وبدلا من سد النقص في مخزون معدات الحماية، أو طرح إستراتيجية اختبار وطنية، قلل الرئيس من شدة الوباء وادعى زورا أن الولايات المتحدة مستعدة لاحتوائه.
يبدو أن المعلومات الخاطئة التي نشرها ترامب (وكررها حلفاؤه على قناة فوكس نيوز) في الأيام الأولى من تفشي المرض قد عجلت من انتشار الفيروس، الذي أودى بحياة أكثر من 100 ألف أميركي، وفق التقرير.
ويشير إلى إخفاق آخر، بالقول: "بينما كان الوباء لا يزال مستعرا، وقعت مأساة أخرى: ضباط الشرطة البيض في مينيابوليس، قتلوا بوحشية جورج فلويد، رجل أميركي من أصل إفريقي، مما أثار احتجاجات جماعية لا تزال مستمرة".
لكن رد ترامب، الذي أشار أكثر من مرة إلى المتعصبين البيض على أنهم "أناس طيبون للغاية"، على الاضطرابات التي تجتاح العديد من المدن الأميركية كان صادما حتى بمعاييره، وفق التقرير.
وتابع: " لقد شيطن المتظاهرين، وشجع ضربهم بالغاز المسيل للدموع، وهدد باستخدام قانون 1807 للتمرد، من أجل نشر الجيش ضدهم".
تآكل تدريجي
غالبا ما يشبه الانهيار المؤسسي الإفلاس "تدريجيا ثم فجأة". يوضح التقرير ذلك، بالقول: "تقيد المؤسسات الديمقراطية الزعماء المنتخبين من خلال تمكين التوازن الدقيق للرقابة من قبل مختلف فروع الحكومة (التشريعية والقضائية)".
وكذلك العمل السياسي من قبل الناس العاديين، سواء في شكل التصويت في الانتخابات، أو ممارسة الضغط عن طريق الاحتجاج.
لكن المؤسسات الديمقراطية ترتكز على معايير، مثل المرونة والتعاون واحترام الحقيقة، وتحتاج دعم مواطنين نشطين واثقين من أنفسهم، وصحافة حرة، وفق التقرير.
وتابع: "عندما تتعرض القيم الديمقراطية للهجوم، ويتم تحييد الصحافة والمجتمع المدني، تفقد الضمانات المؤسسية قوتها".
وفي ظل هذه الظروف، فإن تجاوزات من هم في السلطة تذهب دون مساءلة أو عقاب. وهكذا فإن التآكل التدريجي للضوابط والتوازنات يفسح المجال للانهيار المؤسسي المفاجئ.
ويسوق التقرير عدة أمثلة على ذلك، بالقول: "هكذا كانت قصة فنزويلا تحت حكم هوغو شافيز. فقبل انتخابه رئيسا في عام 1998، لم يكن لديه أي نية بشأن كسر المعايير السياسية واستقطاب البلاد".
وبمجرد وصوله إلى السلطة، انتقل إلى تهميش ما أسماه "دستور البلاد المحتضر"، مما يقوض سلطة المحكمة العليا والجمعية الوطنية، ويزيل حدود الولاية الرئاسية، وبدأ في نهاية المطاف بعملية الإصلاح الدستوري لتوسيع سلطاته.
وأردف التقرير: "بحلول السنوات الأولى من هذا القرن، اكتسب شافيز وحلفاؤه السلطة لتجاوز المؤسسات وعزل القضاة وكبار المسؤولين".
مهدت هذه القوى الطريق لحكم شافيز الديكتاتوري المتزايد، في وقت لاحق، والنظام الأكثر كارثية لخليفته المختار، نيكولاس مادورو، الذي يرأس الآن ما تبقى من المؤسسات والاقتصاد الفنزويلي.
ويتابع التقرير ضرب الأمثلة، وهذه المرة من روسيا، بالقول: "بدأ الرئيس فلاديمير بوتين هجماته على المعايير والمؤسسات الديمقراطية عن طريق شيطنة المعارضة".
ثم، بمزيج من التهديدات والتطهير وتعيينات المقربين، قص أجنحة القضاء والمؤسسات الديمقراطية الأخرى، مما مكنه من الاستيلاء على السلطة بشكل كامل،.
الولايات المتحدة تسير على نفس الطريق، يواصل التقرير: "تمر واشنطن حاليا بنفس الفصول الأخيرة من هذا الكتاب الاستبدادي، الذي تبناه ترامب في وقت مبكر من رئاسته".
ويجري ذلك من خلال رفض المخاوف بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية والامتناع عن الكشف عن الإقرارات الضريبية، واتباع السياسات التي تخدم المصالح المالية لعائلته، وتشويه سمعة الأميركيين اللاتينيين والمسلمين، ونشر نظريات المؤامرة، والكذب بلا هوادة على الصحافة.
لم يترك ترامب عمليا أي معيار للحكم الديمقراطي دون انتهاك، وفق التقرير.
وتابع: "لم تؤد هذه الإجراءات إلى إضعاف المؤسسات التي من المفترض أن تقيد الرئيس فحسب، بل زادت من استقطاب الناخبين الأميركيين، مما أدى إلى إنشاء كتلة انتخابية تدعم دون قيد أو شرط ترامب خوفا من أن يتولى الديمقراطيون السلطة".
بعد تدمير ثقة العديد من الأميركيين في المؤسسات الديمقراطية في بلادهم، شرع ترامب في تدمير المؤسسات نفسها، وهي آلية إشراف واحدة في كل مرة.
ويشير التقرير إلى أن الأمل لم يفقد بعد، بالقول: "على الرغم من أن الولايات المتحدة الآن على حافة المرحلة المفاجئة من الانهيار المؤسسي بعد ثلاث سنوات ونصف من التدهور التدريجي، إلا أن ترامب لم يتحرر بعد من جميع القيود".
لا يزال هناك قضاة فدراليون على استعداد لصد أوامره التنفيذية غير القانونية وعلى الأقل بعض المسؤولين الراغبين في الوقوف في وجه تصرفاته الأكثر بغضا، وفق التقرير.
وتابع: "قد تكون القوات المسلحة قادرة على كبح جماحه أيضا، كما يتضح من التوبيخ القوي الذي تلقاه من وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس بعد تهديده بنشر الجيش الأميركي والحرس الوطني ضد المتظاهرين (احتجاجا على قتل جورج فلويد)".
ولكنه سيكون يوما حزينا إذا كان على الأميركيين الاعتماد على الجيش لإنقاذ ديمقراطيتهم. ويرى التقرير أنه "إذا تراجعت القيود المتبقية الأخيرة، فسيكون التراجع نحو الاستبداد سريعا".
تصحيح المسار
لا يوجد شيء محتوم في عملية الاضمحلال المؤسسي، فالتاريخ مليء بأمثلة على البلدان التي تعيد بناء مؤسساتها، تماما كما هو مليء بأمثلة على الدول التي تدمرها.
ويوضح التقرير ذلك، بالقول: "لقد انتقلت الأرجنتين والبرازيل وشيلي وأوروغواي جميعها إلى الديمقراطية بعد سنوات من الحكم العسكري الوحشي الناهب لثروات البلاد".
ولكن بالنسبة إلى الدول التي تحدث فيها مثل هذه الانتكاسات، غالبا ما تكون عملية إعادة البناء المؤسسي بطيئة ومؤلمة وغير مؤكدة.
وتابع: "لا تزال الأرجنتين تتحمل ندوب عقود من الحكم البيروني ويمكن أن تكون على أعتاب تراجع ديمقراطي أكثر، في ظل الرئيس "ألبرتو فرنانديز" ونائبه "كريستينا فرنانديز دي كيرشنر".
ولدى الولايات المتحدة تاريخ في دعم المؤسسات المتضائلة قبل أن تفشل بالكامل. يواصل التقرير: "أدخلت الإصلاحات السياسية الأساسية، في العصر التقدمي، الانتخابات المباشرة لأعضاء مجلس الشيوخ، وحدت من القوى الاقتصادية والسياسية للشركات الكبرى".
أيضا، قضت الإصلاحات على الفساد من خلال تفكيك الآلات السياسية التي كانت تسيطر على العديد من المدن الأميركية حتى أربعينيات القرن العشرين.
وتابع: "وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بدأت الولايات المتحدة العملية المؤلمة ولكن السلمية إلى حد كبير لإنهاء قرنين من التمييز السياسي والاقتصادي ضد الأميركيين من أصول إفريقية، وهي عملية مستمرة بشكل مناسب حتى اليوم".
ساعدت كل هذه الجهود على شفاء الجسم السياسي من خلال تحصين المعايير التي بدورها تبني الثقة في المؤسسات الديمقراطية.
ويؤكد التقرير أنه من الممكن تصحيح المسار اليوم، شريطة أن يخسر ترامب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
ولكن حتى لو فاز المرشح الديمقراطي، جو بايدن، في الانتخابات القادمة، فستواجه إدارته الجديدة الضرر الذي سيكون عاجزا عن إصلاحه ما لم تعالج المشاكل الهيكلية العميقة التي دفعت ترامب إلى منصبه في المقام الأول، وفق التقرير.
ويوضح: "لأكثر من ثلاثة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن النمو سريعا فحسب، بل كان مشتركا على نطاق واسع، على الأقل بين البيض، مما مكن معظم الأميركيين حتى أولئك الذين ليس لديهم شهادات جامعية، من العثور على وظائف جيدة".
ولكن بدلا من نشر هذه المكاسب على نطاق أوسع، وتضمين الأميركيين الأفارقة في الحلم الأميركي، أصبحت المؤسسات الاقتصادية في البلاد أقل شمولا على مدى العقود الثلاثة الماضية.
كما أصبحت السياسة أكثر امتثالا للمصالح المالية الضيقة، واستمرت العنصرية المتوطنة، وتعمق التفاوت الاقتصادي، مما أدى إلى نتائج متباينة جذريا لمجموعات مختلفة من الأميركيين.
ولفت التقرير إلى أن الأزمة المالية عام 2008، وما أعقبها من خطة إنقاذ للبنوك، أدت إلى تسريع الاتجاه نحو عدم المساواة وتعميق عدم الثقة في الكونغرس، والقضاء، والاحتياطي الفيدرالي، والوكالات التنظيمية.
كانت المؤسسات الأميركية عرضة لهجوم ترامب لأن ثقة الجمهور بدأت تنحسر بهدوء بعيدا عنها لبعض الوقت. ولاستعادة تلك الثقة، يقول التقرير: "يجب على الإدارة القادمة مواجهة العنصرية المتوطنة وكذلك عدم المساواة الاقتصادية".
كما يجب أن تكون الوظائف الجيدة معروضة مرة أخرى لمعظم الأميركيين حتى أولئك الذين ليس لديهم شهادات جامعية.
وتؤكد المجلة أن تصحيح هذه الأخطاء سيقطع شوطا طويلا نحو استعادة الثقة في المؤسسات الديمقراطية، مستدركا: "يجب على الإدارة المقبلة أن تضاعف التزامها بالخبرة المؤسسية والكفاءة والاستقلالية".
وذكر التقرير أن المؤسسات لا تستحق ثقة الجمهور إذا كانت تخدم مصالح الرئيس أو السياسيين الآخرين بدلا من مصالح الشعب، مبينا "يأمل المرء أن يستخدموا صندوق الاقتراع، وإذا لزم الأمر في الشوارع، للتأكد من أنهم يتقدمون للأفضل".