الوجود التركي المتصاعد في القارة السمراء.. الغايات والأبعاد
يُعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الأكثر زيارة لإفريقيا بين قادة وزعماء العالم، إذ زار 33 دولة خلال مدة قيادته للبلاد، واستطاعت تركيا منذ 2009 وحتى 2020، الوجود دبلوماسيا بـ42 دولة، من إجمالي 52 بإفريقيا، فضلا وجود بعثة تجارية في 26 دولة، بينما كانت سفاراتها بإفريقيا قبل 2009، لا تتجاوز 12 سفارة، بحسب الخارجية التركية.
وحسب البيان الذي أصدرته الوزارة بالتزامن مع زيارة أردوغان قبل أيام لعدد من دول القارة، من بينهم الجزائر وتونس والسنغال، فإن "أنقرة فيها 33 سفارة لدولة إفريقية، كما أن الخطوط الجوية التركية، تقوم بتسيير رحلات لأكثر من 50 مسارا داخل القارة".
الأرقام السابقة كانت مثار تساؤلات عن أهداف اهتمام تركيا وعلى وجه التحديد الرئيس أردوغان بدول القارة السمراء، وهل الهدف من وراء ذلك هو إعادة النفوذ العثماني بإفريقيا، كما يردد المناوئون للرئيس التركي، أم أن الأمور تدخل في إطار حماية الأمن القومي التركي، سواء على الصعيد السياسي، أو الاقتصادي، وفقا لسياسة تأمين المصالح من المنبع؟
والتساؤول الآخر: هل لتركيا أهداف أخرى في إفريقيا باعتبارها واحدة من كبرى الدول الإسلامية، وبالتالي فإن الاهتمام له جانب أخلاقي والتزام تقوم به أنقرة تجاه من كانوا قبل 100 عام تحت كنف الدولة العثمانية.
أرقام مهمة
وفقا لوزيرة التجارة التركية، رواهصار بكجان، فإن حجم التبادل التجاري بين بلادها ودول إفريقيا، ارتفع إلى 23.8 مليار دولار في عام 2018، مقابل 5.5 مليار دولار في عام 2003، في حين قفزت صادرات تركيا بنسبة 579 بالمئة إلى 14.4 مليار دولار خلال المدة ذاتها، وتخطط الحكومة لرفعه إلى 100 مليار دولار على المدى المتوسط.
وأشارت إلى أن "بلادها تتمتع باتفاقيات التجارة الحرة (FTA) مع خمس دول، ولها حماية متبادلة للاستثمار مع 30 دولة، إضافة إلى اتفاقيات مع 13 دولة لمنع الازدواج الضريبي".
وبحسب تصريحات لبكجان أمام الاجتماع التشاوري للمجالس التجارية الإفريقية، الذي نظمه مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية بتركيا، في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، فإن عام 2020 سيكون عام إفريقيا لدى تركيا، وأن شهر أبريل/ نيسان المقبل، سيشهد قمة الشراكة التركية الإفريقية، موضحة أن مسؤولين أتراك سيزورون المغرب ونيجيريا وتنزانيا وكينيا ورواندا وموزمبيق لزيادة عدد الاتفاقيات التجارية المشتركة.
البحث عن مكان
وفي مقال ترجمته "الاستقلال" نشرته قبل أيام صحيفة "ديريليش بوستاسي" التركية للكاتب إيرم شان تورك، فإن "الدبلوماسية التركية نشرت بإفريقيا منذ عام 2003، بعد أن كانت القارة حكرا للوجود الروسي والصيني والإسرائيلي والفرنسي والبريطاني".
وأوضح الكاتب أن "الدخول للقارة السمراء ليس بالأمر الهين، خاصة وأن بلاده تأخرت كثيرا في هذا المجال نتيجة لأسباب عدة منها، ارتباط عدد كبير من الدول الإفريقية بالدول الاستعمارية التي احتلتها مثل بريطانيا وفرنسا، إضافة للدول الأخرى التي صنعت لها نفوذا داخل القارة من خلال السلاح والتبادل التجاري، كما فعلت كل من روسيا والصين مؤخرا".
ورأى أن "تعامل بلاده مع القارة التي يسكنها مليار و 300 مليون نسمة، اختلف بشكل كبير منذ وصول أردوغان للحكم في 2003"، موضحا أن "سياسة بلاده قائمة على تطوير هذه الدول وليس استعمارها اقتصاديا، ولذلك عملت الحكومة منذ عام 2003، على إنشاء شبكة علاقات إفريقية ضخمة، سياسيا واقتصاديا".
تركيا أم أردوغان؟
قدّم تحليل كتبه أستاذ التاريخ العالمي بالجامعة الأمريكية في العراق، بارين كايا أوغلو، ونشره موقع "المونتور"، في 28 يناير/ كانون الثاني 2020، رؤية واضحة عن أسباب الوجود التركي بإفريقيا.
وأوضح أنه لم يكن وليد 2003، وإنما قبل وصول حزب "العدالة والتنمية" للحكم، وتحديدا منذ عام 1998، حيث أعدت الخارجية التركية وثيقة هامة، وإن جاز التعبير مشروعها تجاه إفريقيا تحت عنوان " خطة عمل إفريقيا "، ورغم أن الوثيقة لم تلق زخما، إلا أنها تمثل القوام الأساسي الذي يدير به الرئيس أردوغان علاقته بالقارة الإفريقية منذ وصل حزبه للحكم.
ورأى كايا أوغلو، أن الجميع ينظر حاليا للوجود التركي في إفريقيا من الزاوية الليبية، بينما الواقع يشير إلى أن ليبيا ليست إلا جزءا بسيطا، في خريطة الوجود التركي بالقارة السمراء، إذ أصبحت أنقرة شقيقة كبرى للصومال، التي شهدت صراعات وحروب لعشرات السنوات، إضافة للجفاف الذي أصابها وأودى بحياة 260 ألف صومالي، وهنا ظهرت تركيا، التي كان لوجودها بجانب الصومال دورا بارزا في تجاوز هذه المحنة.
وتحدث الأكاديمي عن الحالة الصومالية باعتبارها نموذجا للتعامل التركي في الملف الإفريقي، مشيرا إلى أن أردوغان زار الصومال عام 2011، في أزمة الجفاف، وكان وقتها رئيسا للوزراء، وبدأ مهمة إعادة إعمار رفيعة المستوى.
وتابع: لذلك عندما عادت أزمة الجفاف للصومال مرة أخرى عام 2017، دعا خبراء صوماليون من الدول الأخرى الداعمة بأن تحذو حذو تركيا من خلال الإشادة بـ "النموذج التركي الذي يجمع بين المساعدات والتنمية" خلال موجة الجفاف بين عامي 2011-2012.
وبحسب كايا أوغلو، فإن ما يمز الوجود التركي في إفريقيا عن باقي الدول الأخرى، أنها لا تحمل إرث الماضي الاستعماري المزعج في معظم إفريقيا، وهي نفس السياسة التي تسير عليها الصين، وكانت سببا في تحقيق العديد من النجاحات.
ويدلل الأكاديمي على رأيه، بأن "أنقرة وقعت أكثر من 40 اتفاقية تجارة حرة ثنائية مع الحكومات الإفريقية منذ عام 2000، وحتى قبل ظهور اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية ".
هل الأهداف عثمانية؟
دراسات عديدة وهامة، تساءلت عن الأهداف التركية وراء الوجود في القارة، وطرحت السؤال الذي يردده معارضو الرئيس التركي وتوجهاته الإسلامية، داخل الوطن العربي، وهو هل هذا الوجود "بهدف استعادة النفوذ العثماني مرة أخرى، في إطار سعي أردوغان لإعادة إنتاج نفسه كخليفة للمسلمين"، وفقا لانتقاداتهم.
وحول هذا المفهوم كان يجب التوقف أمام دراستين هامتين، الأولي لمركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" بأبوظبي، والذي تم إنشاؤه خصيصا لمواجهة الربيع العربي، والدراسة الثانية لمركز "بروكنجز الدوحة".
وبالتوقف أمام الدراسة التي أعدها "مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، تحت عنوان "لماذا تسعى تركيا لعلاقات أقوى مع إفريقيا؟" وأصدرتها في مارس/ آذار 2018، فإن رغم الأسباب الاقتصادية التي تقف وراء الاهتمام التركي، إلا أن هناك أسبابا أخرى مرتبطة بالخلافات المتزايدة بين تركيا والقوى العالمية والإقليمية الأخرى المشاركة في أزمات الشرق الأوسط.
وحددت الدراسة عدة أسباب دفعت تركيا لتقوية العلاقات مع الدول الإفريقية منها، إقامة شراكات إستراتيجية مع كل دول القارة وتجمعاتها السياسية والاقتصادية، إضافة لسعيها لإقامة علاقات مع مختلف مناطق إفريقيا، لاستيعاب الضغوط القوية الناجمة عن مستويات غير مسبوقة من التوترات مع القوى العالمية، وخاصة الولايات المتحدة ودول أوروبا، المنخرطة في أزمات في الشرق الأوسط. هذه الضغوط ناتجة عن تعارض النهج بين الجانبين في التعامل مع القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك.
ويضاف لما سبق، وفق الدراسة نفسها، توسيع نطاق التعاون الاقتصادي، مع دول القارة، وخاصة التي حققت نموا اقتصاديا سريعا خلال الأعوام الماضية وأبرزها إثيوبيا وغانا وكوت ديفوار، إضافة لتعميق التعاون العسكري من خلال افتتاح قواعد عسكرية بدول القرن الإفريقي الذي يمثل أهمية كبرى كممر ساخن للتجارة العالمية.
مخاوف غير مبررة
أما الدراسة التي أعدها مركز "بروكنجز الدوحة"، فقد طرحت التساؤل الذي يردده عدد من المتابعين، حيث جاء عنوان الدراسة كالآتي: "تركيا والوضع الجديد في إفريقيا: مخططات عثمانية أم مخاوف غير مبررة؟"، والتي نُشرت في مايو/ أيار 2019.
وأشارت إلى أنه من الطبيعي في الوقت الراهن أن يبرز اسم تركيا في النقاشات الجديدة حول النفوذ الخارجي في المنطقة، وتبرز معها التخمينات بشأن دوافعها في هذه النقاشات أيضا، وفي الوقت الذي تقول فيه الحكومة التركية: إن الدوافع "مبادِرة وإنسانية"، تقول الدول الخليجية المنافسة: إن خطوات الرئيس رجب طيب أردوغان في القرن الإفريقي تعكس سعيا خطيرا لعملية إعادة إحياء لـ"عثمانية جديدة".
ووفق الدراسة، فإن الدبلوماسيين الأتراك يرفضون وضعهم في صف "الوافدين الجدد" من الخليجيين عند الحديث عن القرن الإفريقي، وعن المنافسة الأوسع في منطقة البحر الأحمر، باعتبار أن النشاط التركي في القرن الإفريقي لم يعتمد على "دبلوماسية دفع الأموال" التي تحبذها الدول الخليجية، وإنما كان نشاطا متنوعا.
وأوضحت أن الصومال تمثل الحالة الأبرز للانخراط التركي في إفريقيا وفقا لخطتها الطموحة لـ"الانفتاح على إفريقيا"، وتلي الصومال من حيث الاهتمام، دولة السودان، والتي شهدت جهدا مضاعفا من الرئيس التركي انتهى بتوقيع اتفاقية استغلال ميناء ومدينة سواكن الساحلية الهامة.
وطبقا للدراسة، فإنه بالرغم من أن الصومال والسودان شكلا الهدفين الأكثر طبيعية للتعاون التركي، فإن إثيوبيا تُعتبر القوة الصاعدة في المنطقة، ومحور "الاستلطافات" الأحدث للدول الخليجية. وعلى الرغم من اللجوء إلى دبلوماسية المدارس والجوامع التركية، وهما أداتان أساسيّتان في القوة الناعمة الإسلامية التي ينتهجها أردوغان، في إثيوبيا، كانت أنقرة أقل بروزا نسبيا في هذا البلد ذي الأكثرية المسيحية الأرثوذكسية.
لكن تشير التقارير إلى أن استثماراتها التجارية في إثيوبيا تفوق تلك التي تقوم بها في الصومال والسودان معا، ويحث عدد متنام من الأصوات التركية أنقرة على جعل إثيوبيا أولوية.
وتنقل الدراسة عن مسؤولين أتراك، رفضهم لفكرة أن تركيا تريد التنافس مع الإمارات العربية المتحدة، في القرن الإفريقي أو البحر الأحمر أو أي مكان آخر، ووجهتهم في ذلك أن تركيا حضارة ذات شأن تكسب قوتها من التاريخ والحجم والأهمية الثقافية.
نقطة مضيئة
ووصف تقرير موسع لـ"وكالة الأنباء الألمانية"، النشاط التركي بالقرن الإفريقي على وجه التحديد، ، بأنه "يمثل نقطة مضيئة للحكومة التركية".وأشار إلى أنه باعتبار تركيا عضوا في مجموعة العشرين وكقوة وسط قوية، فقد حاولت أنقرة، وخاصة في ظل حكم أردوغان، العمل بنشاط على تعزيز النفوذ التركي في مناطق خارج نطاقها الطبيعي، ولذلك تعتبر إفريقيا "نقطة مضيئة"، بالنظر إلى النجاحات التركية هناك.
وبيّنت دراسة أعدها مركز البحوث الإنسانية والاجتماعية (INSAMER)، التابع لمؤسسة الإغاثة الإنسانية العالمية (IHH) في تركيا، وجها آخر من أوجه الوجود التركي في إفريقيا، مشيرة إلى أن إفريقيا تعد صفحة خاصة في السياسة الخارجية التركية منذ تولي حزب "العدالة والتنمية" السلطة، ولذلك فإنه من الصعوبة شرح أهداف تركيا في إفريقيا، نتيجة النهج التركي متعدد الأبعاد لأن الدبلوماسية والتجارة والأمن والطاقة والمساعدات والشؤون الثقافية اللاتي تشكل محاور وجودها في القارة.
ولفتت الدراسة إلى أن تركيا تدير مستشفيات إقليمية في دارفور، ونيالا بالسودان، ومقديشو بالصومال؛ وقد شاركت مؤسسة المعارف التي أنشأها قانون البرلمان التركي في عام 2016 على نطاق واسع في قطاع التعليم في القارة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016.
وترى الدراسة أنه من الناحية السياسية، فإن تركيا تحتاج لحلفاء وأصدقاء جديرين بالثقة للتعاون في مختلف المجالات التي تتطلب تعاونا دوليا مثل الهجرة والإرهاب والأمن، ولأن البلدان الإفريقية لديها قدر كبير من الأصوات في الأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الإسلامي، فإن هذا يمثل أهمية بالنسبة لتركيا، وهو ما يبرر تغطية السفارات التركية لجزء كبير من القارة.
في المجال الاجتماعي والثقافي، تسعى تركيا إلى تطوير علاقاتها الثقافية مع إفريقيا من خلال استخدام ماضيها التاريخي وشعورها بالثقافة الإفريقية التي عانت في ظل الاستعمار على غرار الثقافة الإسلامية، حيث اكتشف الأتراك أن العثمانيين كان لهم عمق تاريخي بالقارة من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، ولذلك نفذت تركيا مشاريع تهدف إلى تحديث الماضي التاريخي العثماني في شمال وشرق إفريقيا. علاوة على ذلك بدأت مراكز البحوث والجامعات في إيلاء المزيد من الاهتمام للمواضيع المتعلقة بإفريقيا.
وانتهت الدراسة إلى أن تركيا والدول الإفريقية جزء من نظام عالمي، تهيمن عليه التنمية الاقتصادية غير المتكافئة وتقاسم السلطة، كما تعاني تركيا وإفريقيا من جروح مماثلة فتحتها الممارسات الإمبريالية الاستعمارية في العالم الغربي طوال القرنين الماضيين، وبالتالي يصبح "التضامن" هو المفهوم الرئيسي الذي يفسر الروابط المنشأة حديثا بين تركيا والدول الإفريقية.
المصادر
- اردوغان يزور 3 دول إفريقية في إطار خطة استراتيجية جديدة لتصبح الحصيلة 30 دولة
- يقوده أردوغان.. أين وصل حضور تركيا المتصاعد في إفريقيا؟
- تركيا والوضع الجديد في أفريقيا: مخطّطات عثمانية أم مخاوف غير مبرّرة؟
- وزيرة التجارة التركية: 2020 عام إفريقيا بالنسبة لتركيا
- الدور التركي بشرق أفريقيا في ظل التنافس الإقليمي
- تركيا وإفريقيا في 2018.. سياسة متعددة الأبعاد تعزّز العلاقات(محصلة)
- زيارة أردوغان للسنغال.. زخم يرتقي بالتعاون لمستويات غير مسبوقة
- تركيا تضع معالمها على القرن الإفريقي
- إفريقيا في سياسة تركيا الخارجية: من الغياب إلى التقدم الملحوظ
- ليبيا ليست سوى جزء صغير من مبادرة تركيا الطموحة في إفريقيا
- تركيا في القرن الافريقي بين إجماع أنقرة وأزمة الخليج
- لماذا تسعى تركيا لعلاقات أقوى مع إفريقيا؟