قصّة "الحراطين" في موريتانيا.. مأساة لا تنتهي لعبيد سابقين
قد يبدو غريبا في العام 2019، أن تتداول وسائل إعلام محلية أو عالمية أخبارا عن جزء من مواطني دولة ما على كوكب الأرض، وهم لا يزالون يعانون من تبعات العبودية التي عاشوها لعقود طويلة، إذ ينظر إليهم المجتمع حتى الآن بتمييز رغم القوانين التي تجرّم الرق.
فرغم مرور عشرات السنوات منذ أن قررت السلطات الموريتانية منع العبودية، إلا أن شريحة "الحراطين"، الذين ينحدرون من العبيد السابقين، لا يزالون يعانون حتى اليوم من التهميش، وغياب المساواة في عدد من الحقوق التي يتمتع بها بقية الموريتانيين، ما يدفعهم للمشاركة في مسيرة سنوية، للمطالبة بالحصول على حقوقهم كاملة، والاندماج تماما في نسيج المجتمع الموريتاني.
وقاد المسيرة هذا العام والعام الماضي، المحامي الشاب العيد محمدن الذي يعتبر من أبزر المحامين الذين حرروا العبيد عند المحاكم الموريتانية في السنوات الأخيرة، ونجح في دخول البرلمان الأخير نائبا. وشهدت مسيرة هذا العام مشاركة واسعة ضمّت عددا من القيادات السياسية من المعارضة والحزب الحاكم والمرشحين للانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها خلال هذا العام .
تمييز مستمر
في عام 1980، مع ظهور الموجة الأولى لـ"حركة الحر"، صدر قانون بإلغاء الرق، استجابة لمطالب الحركة، ثم في عام 2018، صدر قرار بتجريم ممارسة العبودية، باعتبارها جريمة ضد الإنسانية.
ومع صدور جميع هذه القوانين التي تمنع العبودية تماما في البلاد، وهو ما أدى إلى اختفائها بالفعل إلى حد كبير، فإن "الحراطين" لا يزالون يرون أنهم محرومون من الكثير من حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وبالرغم من وجود تشريعات وقوانين تجرم العبودية في موريتانيا، إلا أن هذه الظاهرة لا تزال موجودة بأشكال متنوعة ومقنّعة في هذا البلد الذي عانى لفترات طويلة من الرق والعبودية رغم محاولات اجتثاث كل مظاهر استعباد الناس، إذ وضعت السلطات "محكمة الاسترقاق" وهي محكمة خاصة مكلفة بمكافحة جرائم العبودية.
ويعاني العبيد السابقون وأبناؤهم من تجاهل السلطات لمعاناة لما يعانونه في حياتهم الجديدة بعيدا عن أسر الرق، وتهميشها للمناطق التي تسكنها غالبيتهم والمعروفة محليا بقرى "أدوابه" إلى تكريس واقع القهر والعجز وامتهان الكرامة، إذ يعمل أغلب أبناء العبيد السابقين كحمالين وفي الخدمة المنزلية أو الرعي والزراعة ولا يتقاضون ما يكفي لتأمين حياة كريمة تحمي عوائلهم من أشكال العبودية المعاصرة التي تغذيها الثقافة الشعبية، ويشجع عليها جشع أرباب العمل وضعف قوانين تشغيل اليد العاملة وسلبية الدولة، وحتى البرامج الاجتماعية والاقتصادية القليلة التي خصصت لصالح الفئات المتضررة من مخلفات الاسترقاق لم تكن كافية لتغيير واقع سنوات من التهميش والاضطهاد.
وقال أحمد ولد الوديعة، نائب رئيس منظمة "نجدة العبيد" في تصريح لـ"بي. بي. سي "، إنه لا توجد لدى المنظمة أرقام محددة عمن يعانون من الاسترقاق، ولكن لديها حالات كثيرة لأفراد تعرضوا للرق، وتوجهوا للمحاكم الموريتانية سعيا للحصول على حقوقهم القانونية، إذ أن القانون الموريتاني منع العبودية وجرمها منذ عام 1981.
غير أن المشكلة، كما أوضح، هي "أن القوانين لا تطبق، ولا توجد إرادة سياسية لفرضها في المناطق الريفية التي يعاني البعض فيها من هذه الظاهرة، هذا علاوة على أن الحكومة تتحرك أساسا في هذا الملف بسبب الضغط الخارجي، ولا يهمها حال الناس، فالحكومة تسمع من الخارج وتصم آذانها عن الداخل".
ومن جهتها، أكّدت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي لعام 2018، أن الأكاديميين وخبراء الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية وحقوق الإنسان يعربون عن قلقهم إزاء استمرار الرق في موريتانيا. وفي حين لا توجد بيانات رسمية عن طبيعة الرق ووجوده في موريتانيا، فقد أشارت المجموعات الدولية المناهضة للرق إلى أن عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت نيره في 2016 يتراوح بين بضعة " آلاف" وبين 43 ألف شخص (يشكلون حوالي 1 بالمئة من مجموع السكان).
وفي يونيو/ حزيران 2017، أعربت اللجنة المعنية بتطبيق معايير منظمة العمل الدولية عن "قلقها البالغ إزاء استمرار الرق على نطاق واسع".
وفي ديسمبر/ كانون الأول2017، خلصت لجنة الخبراء الإفريقية المعنية بحقوق الطفل ورفاهه إلى أن طفلين من الحراطين تعرضا للرق المعاصر أو الممارسات الشبيهة بالرق لمدة 11 عاما، وأن موريتانيا قد أخلّت بالتزاماتها بحماية حقوق الأطفال بموجب الميثاق الإفريقي لحقوق الطفل ورفاهه، بما في ذلك العمل لصالح الأطفال وحمايتهم من التمييز وتشغيل الأطفال وإساءة المعاملة والممارسات الثقافية ومع ذلك، تواصل السلطات إنكار وجود الرق في موريتانيا.
إنكار حكومي
في المقابل يعتبر رئيس "حزب الإتحاد من أجل الجمهورية" الحاكم في موريتانيا سيدي محمد ولد محمد، أن ملف العبودية يتم تضخيمه وتوظيفه لأهداف سياسية باعتباره ورقة ضغط على موريتانيا. ويشير على سبيل المثال إلى أن التقرير الأمريكي عن حقوق الإنسان في إفريقيا في عام 2008، قال إن "العبودية غير موجودة في موريتانيا، ولكن هناك فقط آثار للظاهرة". ثم عاد نفس التقرير في عام 2009، بعد طرد السفير الإسرائيلي في موريتانيا، إلى الحديث عن ممارسة العبودية في موريتانيا في تناقض واضح لا يمكن تفسيره إلا بأنه ضغط سياسي.
ومثال آخر وهو تسخين ملف العبودية وقت المفاوضات بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي حول حصص الصيد في سواحل موريتانيا، التي تتمتع بثروة سمكية هائلة، وذلك بهدف الضغط على موريتانيا. لكن الحكومة قررت وقتها استبعاد عائدات الصيد من الميزانية ،لاستعدادها للتفاوض لفترة طويلة دون ضغوط، وكانت النتيجة أن هدأ ملف العبودية.
وأضاف وزير الثقافة سيدي ولد محمد في تصريح لـ"بي. بي. سي" أن "الدولة لم تكتف بتجريم العبودية منذ عام 2018، بل أصدرت قانونا في 2017 يجعل من العبودية جريمة ضد الإنسانية، وهو ما لم يحدث في مناطق أخرى في إفريقيا توجد بها ظاهرة الاسترقاق، مثل مالي والنيجر وجنوب الجزائر، ولكن لا يتحدث عنها أحد نظرا لأن القانون هناك لا يجرم الاسترقاق كما هو الحال في موريتانيا".
الملف في سباق الرئاسة
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في موريتانيا المقرر إجراؤها في 22 يونيو/حزيران 2019، والتي أعلن الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز عدم ترشحه فيها والتزامه بالدستور ورفض أي محاولات لتعديله، أعلن الناشط ضد العبودية، المعارض بيرام ولد الداه ولد عبيدي، ترشحه للانتخابات الرئاسية بعد أن سبق وترشّح في استحقاق 2014، كما انتُخب في شهر سبتمبر/ أيلول 2018 نائبا بفضل تحالف بين حركته غير المعترف بها وحزب "الصواب" ذو التوجّه البعثي (قومي عربي).
وأطلق زعيم "حركة إيرا" ولد عبيدي جملة من التصريحات، أكّد فيها وجود تيار جماهيري واسع يؤيّده في الانتخابات الرئاسية، وينشط ولد عبيدي في مجال محاربة العبودية، وسبق له أن دخل السجن عدة مرات بسبب مواقفه من القضية، وحصل على عدة جوائز عالمية في مجال حقوق الإنسان، وكان صعوده مرتبطا بقيامه في 27 نيسان/أبريل 2012 بحرق كتب فقهية معتمدة في موريتانيا، بدعوى تبريرها للعبودية، حيث اعتاد بيرام ولد الداه إطلاق وصف "فقه النخاسة" على التراث الفقهي الموريتاني.
وعلى على إثر هذه الحادثة طالت الناشط بيرام ولد الداه تهمة التكفير، وزُجَ به في السجن مع عدد من منتسبي الحركة، حيث حوكموا بتهمة الردة والإساءة لمقدسات وقيم المجتمع، لكن موجة التضامن الدولي مع بيرامْ، أدّت إلى إطلاق سراحه بعد خمسة أشهر من اعتقاله ومُحاكمته.
في العام 2014، رشّح بيرام ولد الداه للانتخابات الرئاسية، والتي حلّ فيها في المركز الثاني بعد الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، بنسبة 7 بالمئة، لينجح في دخول البرلمان الموريتاني في 2018، إلاّ أنّ حظوظه في الانتخابات الرئاسية الحالية تبدو ضعيفة بعدما فشلت المعارضة في التوافق على مرشّح واحد، في وقت ساندت فيه أحزاب كبيرة مرشحين لهم وزن شعبي كبير مقارنة بولد الداه.