من طارق الغندور إلي ناجي البرنس.. هكذا تفتك سجون السيسي بعلماء مصر

جاءت وفاة الدكتور ناجي البرنس تتويجا لمسار من الإهمال الطبي والانتهاكات الممنهجة
في الزنازين الباردة وخلف الجدران المعتمة لسجون نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، تزهق أرواح كرست حياتها في قاعات المحاضرات، ومخابر الجامعات، ومراكز البحث العلمي.
يموت العلماء بصمت، ويساق الأكاديميون واحدا تلو الآخر إلى المقصلة البطيئة التي يتقنها النظام المصري، في صورة الإهمال الطبي، والحبس الانفرادي، والمنع من الدواء والرعاية.
من الدكتور طارق الغندور، أستاذ الأمراض الجلدية الذي نزف حتى الموت في محبسه، إلى الدكتور فريد إسماعيل الذي لفظ أنفاسه في سجن العقرب بعد حرمانه من علاج السكر والضغط.
وصولا إلى الدكتور ناجي البرنس، أحد أبرز أطباء جراحة الفم والأسنان في مصر، الذي قضى نحبه في سجن بدر في أغسطس/ آب 2025، بعد ثلاث سنوات من الاحتجاز التعسفي دون تهمة، ودون محاكمة، ودون حتى أبسط درجات الرعاية.
هؤلاء لم يكونوا معارضين سياسيين، رغم أنه حق لهم، بل كانوا رموزا للعقل والبحث والإخلاص الأكاديمي، تم التنكيل بهم لأنهم مثّلوا ما يخشاه كل نظام استبدادي، النخبة المستقلة، والضمير المهني، والعقل النقدي.
وما زال خلف القضبان العشرات من العلماء وأساتذة الجامعات ينتظرون المصير ذاته، تحت وطأة ظروف احتجاز قاسية، في دولة قررت أن تحكم بالأمن لا بالعلم.
موت البرنس
عندما أعلنت منظمات حقوقية مصرية موت الدكتور ناجي البرنس، أستاذ جراحة الفم والوجه والفكين بكلية طب الأسنان جامعة الإسكندرية، ذكرت أن أنفاسه الأخيرة كانت داخل زنزانته في سجن بدر شديد الحراسة.
وقد ظلَّ العالم المصري نحو ثلاث سنوات يعاني من الحبس التعسفي دون توجيه أي تهمة أو إجراء محاكمة عادلة.
وجاءت الوفاة تتويجا لمسار من الإهمال الطبي والانتهاكات الممنهجة، داخل منظومة احتجاز سيئة السمعة لا تعترف بالقيمة العلمية ولا تحترم أبسط الحقوق الإنسانية.
الدكتور البرنس، المعروف بين زملائه وطلابه بتفانيه الأكاديمي وابتعاده التام عن أي نشاط سياسي، ولم يكن سوى أحد ضحايا مناخ أمني تحول فيه السجن إلى مصير محتوم حتى للعقول المتفرغة للعلم والمعرفة.
وبحسب شهادات حقوقيين ومقربين منه، فقد حرم طوال فترة احتجازه من الرعاية الصحية، رغم معاناته من تدهور في حالته الجسدية، ما أدى في نهاية المطاف إلى وفاته داخل محبسه.
وفي بيان شديد اللهجة، أدان مركز الشهاب لحقوق الإنسان ما وصفه بـ"جريمة اغتيال بطيء" ارتكبت بحق الدكتور البرنس، محملا السلطات المصرية كامل المسؤولية عن وفاته.
وطالب المركز بفتح تحقيق مستقل وشفاف في ملابسات الوفاة، وظروف الاحتجاز القاسية، وسلسلة الإهمال الطبي التي نالت العشرات من المعتقلين المصريين، بمن فيهم النخب العلمية.
فيما تمثّل هذه الحادثة واحدة من حلقات مسلسل ممتد من الانتهاكات الصامتة التي تنال العلماء والأكاديميين المصريين داخل السجون.

طارق الغندور
ومن أوائل العلماء الذين قتلوا في زنازين النظام المصري، أستاذ الأمراض الجلدية بكلية الطب في جامعة عين شمس بالقاهرة، الدكتور طارق الغندور.
حيث رحل في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، ووقتها في مشهد يلخص حجم الألم والخذلان، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة صادمة لطفله الصغير وهو يحتضن جثمانه.
وقد فاضت روحه داخل محبسه بعد ساعات من النزيف والإهمال الطبي، ليضاف اسمه إلى قائمة طويلة من الكفاءات العلمية التي تزهق أرواحها خلف القضبان.
وعقب وفاته، دشن ناشطون على موقع "فيس بوك" صفحة تحت عنوان "طارق الغندور – دمك ثورة"، رأوا فيها أن الرجل أصبح أيقونة جديدة من أيقونات الظلم، تعيد إلى الأذهان رموزا مثل خالد سعيد ومحمد الصاوي، ممن شكّلت مأساتهم وقودا للوعي والاحتجاج.
والدكتور الغندور لم يكن مجرد طبيب أو أكاديمي بارز أشرف على أكثر من 100 رسالة علمية في الماجستير والدكتوراه، بل كان أيضا عالما موسوعيا، له مؤلفات في الطبّ والعقم، وحاصل على درجات علمية في الدراسات الإسلامية، ويحفظ القرآن الكريم كاملا.
لكن مكانته العلمية لم تشفع له حين دخل سجن الانقلاب؛ حيث أصيب بنزيف حاد نتيجة مضاعفات مرض الكبد، وترك ينزف لست ساعات دون إنقاذ، قبل أن ينقل متأخرا إلى مستشفى السجن، ومن ثم إلى معهد الكبد بشبين الكوم، الذي لم يكن مؤهلا للتعامل مع حالته، حسب ما أكده الداعية الدكتور خالد أبو شادي (معتقل حاليا)، الذي قال: "لم يكن الطاقم هناك على قدر المسؤولية الطبية، ولم يعرفوا كيف يديرون حالة توقف قلب، ما أدى إلى دخوله في غيبوبة لـ 24 ساعة، ثم وفاته".
وتابع: "وقد طلب مرارا نقله إلى مستشفى متخصص، لكن السلطات تعنتت، حتى أسلم الروح".

أيمن هدهود
وفي 10 أبريل/ نيسان 2022، وبعد أكثر من شهرين على اختفائه القسري، أعلنت أسرة الباحث الاقتصادي أيمن هدهود وفاته المفاجئة في ظروف غامضة أثارت موجة غضب وتساؤلات واسعة.
هدهود، الذي كان يتمتع بمكانة علمية مرموقة، خريج الجامعة الأميركية بالقاهرة، وعضو الهيئة العليا لحزب الإصلاح والتنمية، والمستشار الاقتصادي لرئيس الحزب وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان محمد أنور السادات، اختفى قسريا عقب توقيفه على نحو غير رسمي في 5 فبراير/شباط 2022، ليبدأ فصلا جديدا من الإخفاء، والعزل، والإنكار الأمني.
وبحسب شقيقه عمر هدهود، فإن أيمن جرى اقتياده إلى جهة أمنية غير معلومة، ولم يعلم أفراد الأسرة بمكان احتجازه إلا بعد أيام، حين أبلغهم أحد أمناء الشرطة بشكل غير رسمي أن الأجهزة الأمنية تحتفظ به في المعتقل، دون توضيح السبب.
لاحقا، تأكدت الأسرة من احتجازه لفترة في قسم شرطة الأميرية، ثم في أحد مقار الأمن الوطني، قبل نقله إلى مستشفى العباسية للصحة النفسية، في خطوة وصفت بأنها جزء من محاولات الضغط والتصفية النفسية.
لكن الصدمة الكبرى جاءت حين تسلمت الأسرة خبر وفاته، وسط روايات متضاربة حول ظروف احتجازه وملابسات موته، ورفض المستشفى السماح بتوثيق حالته، بل أجبر العاملون شقيقه على حذف صور الجثمان الذي ظهر عليه (وفق شهادته) كسور واضحة في الجمجمة، ما يثير الشكوك حول تعرضه للعنف أو التعذيب.
ورغم قرار نيابة مدينة نصر بتشريح الجثمان لمعرفة أسباب الوفاة، ظل الغموض يكتنف القضية، خاصة أن أيمن كان يعاني حالة اضطراب نفسي حادة أثناء احتجازه، وجرى التعتيم التام على تفاصيل ما جرى داخل المقرات الأمنية والمستشفى.
إن وفاة أيمن هدهود ليست مجرد مأساة فردية، بل نموذج إضافي لأسلوب الدولة في التعامل مع أصحاب الرأي والكفاءة، حيث يتحول الاحتجاز الإداري والإخفاء القسري إلى وسيلة لتكميم العقول والتخلص ممن يفكر أو ينتقد، ولو حتى عبر الورقة والقلم.

العدو الأول
وقال المحامي والناشط الحقوقي مصطفى عز الدين فؤاد، في تصريح خاص لـ"الاستقلال"، إن وفاة الدكتور ناجي البرنس داخل سجن بدر بعد سنوات من الحبس التعسفي دون تهمة، ليست مجرد حادثة مؤلمة، بل حلقة جديدة في مسلسل اغتيال العقول داخل المعتقلات المصرية.
وأضاف عز الدين أن الدكتور البرنس كان نموذجا نادرا في التفاني العلمي، أمضى سنوات عمره في خدمة طلابه وتعليم الأجيال داخل أروقة كلية الطب، وكانت له محاضرات علمية في جامعات عربية مرموقة، وارتبط اسمه بكفاءة عالية في مهنته، ولم يعرف عنه أي نشاط سياسي، مما يجعل اعتقاله ووفاته جريمة خالصة بلا غطاء.
وأشار عز الدين إلى أن البرنس لم يكن الأول، ولن يكون الأخير، مستشهدا بحالة الدكتور عصام العريان، الطبيب والأكاديمي والسياسي البارز، الذي جمع كل الخصال ما بين العلم والسياسة والدين، والذي توفي في سجن العقرب إثر نوبة قلبية، بعد سنوات من الإهمال الطبي الممنهج، وهو ما وثقته تقارير حقوقية محلية ودولية، أكدت أن إدارة السجون تستخدم الإهمال كأداة عقاب متعمد للمعتقلين السياسيين وغيرهم.
وتابع: "قائمة الضحايا لا تنتهي، فهناك عشرات الأطباء والعلماء والمفكرين يقبعون اليوم في الزنازين، محرومين من العلاج ومن أبسط حقوق الإنسان، بينهم علماء دين أفذاذ مثل الدكتور عبد الرحمن البر، والدكتور صلاح سلطان، وآخرون ينتظرون مصيرا مشابها بصمت".
وأكد عز الدين أن ما يجرى "ليس مجرد تجاوزات، بل سياسة دولة تتبنى الجهل وتحارب الفكر، وتتعامل مع العلماء والمفكرين بصفتهم تهديدا حقيقيا لبنيتها الأمنية القائمة على الطاعة والخضوع".
وأكمل: "في الأنظمة الاستبدادية، العدو الأول ليس المعارض السياسي فقط، بل كل من يفكر، وكل من يعلم، وكل من يملك مشروعا عقليا أو أخلاقيا".
ثم ختم تصريحاته بالقول: "السيسي لا يخشى الكلمة لأنها تزعجه، بل لأنها تفضحه، ولذلك يسجن أصحاب الرأي، ويقتل العلماء، ويدجن المجتمع تحت راية الصمت، والجهل، والخوف".