الجزائر وفرنسا يدخلان في أزمة جديدة بسبب "صحفي عميل".. ما القصة؟

"الجزائر تربط مصير قضية الصحفي غليز بتطورات ملف موظفها القنصلي في باريس"
وجَّهت الحكومة الفرنسية انتقادات كبيرة لقرار أصدرته محكمة جزائرية بتأييد الحكم بالسجن سبع سنوات على الصحفي الفرنسي كريستوف غليز، ما أعاد التوتر من جديد إلى علاقات البلدين.
الحكم الجزائري الصادر في 3 ديسمبر/كانون الأول 2025 عن القضاء الاستئنافي، يأتي رغم الجهود التي بذلتها الخارجية الفرنسية لإقناع السلطات الجزائرية بتغيير الحكم.
وقالت وزارة الخارجية الفرنسية في بيان: "تأسف الوزارة لأن تعاونها الكامل مع السلطات الجزائرية والتوضيحات التي قدمها فريق الدفاع عنه لم تكن كافية لتغيير الحكم".
ودعت الخارجية إلى "إطلاق سراح غليز"، معبرة عن أملها في التوصل إلى نتيجة مناسبة حتى يتسنَّى لمّ شمله مع أسرته بسرعة.
الرواية الجزائرية
الحكم على الصحفي الفرنسي المعتقل في الجزائر منذ مايو/أيار 2024، جاء بناء على اتهامات تتعلق بالاتصال بحركة "الماك" المصنفة إرهابية، ودخول البلاد بتأشيرة سياحية للقيام بمهام صحفية.
وأكَّدت الجزائر أن القضية "قضائية بحتة"، وأنها ترفض ما وصفته بـ"حملة ضغوط فرنسية" أعقبت تثبيت الحكم.
وفي هذا السياق، أعادت الوكالة الجزائرية الرسمية نشر تقرير صحفي يتبنى الرواية الحكومية، ويؤكد أن "قضية كريستوف غليز ليست قضية صحفي بالمفهوم المهني، وإنما قضية شخص جاء إلى الجزائر متنكرا في هيئة سائح لتمرير رواية انفصالية".
وزعمت الوكالة أن الصحفي كان مكلفا بمهمة من حركة "ماك" التي تصنفها الجزائر تنظيما إرهابيا، وتتهم بعض الأوساط الفرنسية بدعمها "في الخفاء".
وانتقد التقرير ما وصفه بـ"الحملات السياسية والإعلامية التي تقودها بعض الأوساط الفرنسية المعادية للجزائر"، ويرى أن "باريس كلما تحرك القضاء الجزائري ضمن سيادته الكاملة، تصرخ بالظلم، وتلوح بحرية الصحافة، وكأن التجسس السياسي بغطاء صحفي حق مقدس".
وأضاف أن "الجزائر لا تتلقى الدروس من أحد، وبالتأكيد ليس من سلطة فرنسية تعيش حالة انهيار أخلاقي".
وخلال جلسات المحاكمة، قال كريستوف غليز (36 عاما) الذي يعمل لصالح مجلتي "سو فوت" و"سوسايتي": إنه وصل إلى الجزائر لإعداد تحقيق صحفي حول نادي شبيبة القبائل بمدينة تيزي وزو، الواقعة على بعد 100 كيلومتر شرق العاصمة.
وعند سؤاله عن معرفته بوضع حركة استقلال منطقة القبائل (الماك)، أجاب قائلا: "لم أكن على علم، وأشعر بالخجل لقول ذلك. هذا يمس كفاءتي. لقد فاتت عني تماما هذه المعلومة".
وأكد أنه لا يحمل ضغينة تجاه الجزائر: "هذه الأخطاء سمحت لي بالتفكير. لا أحمل أي ضغينة. بل أحب الجزائر الآن أكثر مما كنت عند وصولي".
وبغصة، أضاف أنه يشعر بألم واحد: "ألمٌ أن أكون بعيدا عن عائلتي. طلبت فقط السماح لي بالعودة إليها".
واعترف غليز بأنه ارتكب خطأ إجرائيا، قائلا: إنه كان ينبغي استخدام تأشيرة مراسل صحفي بدل التأشيرة السياحية التي دخل بها البلاد لأداء عمل صحفي.
علاقات متدهورة
جاءت هذه القضية لتضيف توترا جديدا في العلاقات بين البلدين والتي شهدت توترا منذ صيف 2024، عقب سلسلة من الأزمات السياسية والرمزية، امتدت من الخلاف حول الذاكرة الاستعمارية إلى ملفات الهجرة والأمن الإقليمي.
وتبادل الجانبان الانتقادات الحادة واستدعاء السفراء، وسط مناخ من انعدام الثقة غير مسبوق في تاريخ العلاقات الثنائية.
وقد أثار كذلك اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على إقليم الصحراء حنق السلطات الجزائرية. وفاقمت قضيتا غليز والكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال، الذي حُكم عليه بالسجن لمدة طويلة أيضا، من حدة التوتر.
كما توترت العلاقات كذلك بسبب رفض الجزائر استقبال أشخاص رحلتهم السلطات الفرنسية.
إلا أن الرئيس الجزائري أصدر أخيرا عفوا عن صنصال في نوفمبر/تشرين الثاني بطلب من قبل الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير فيما فهم أنها من ضمن خطوات تحسين العلاقات.
في السياق، قال موقع "الجزائر تايمز" المحلي في 8 ديسمبر: إن العديد من الجهات في البلدين حاول العمل على تخفيف التوتر؛ حيث زار وفد دبلوماسي رفيع تقوده آن ماري ديكوست الأمينة العامة لوزارة الخارجية الفرنسية الجزائر شهر نوفمبر لاستئناف التواصل على أعلى المستويات.
وأضاف المصدر ذاته، كما قال رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي، نيكولا ليرنر في تصريحات لإذاعة فرانس إنتر، أن الجزائر بعثت أخيرا بإشارات تعبّر عن استعدادها لإعادة فتح قنوات الحوار مع باريس.
وذكر الموقع أن مصادر دبلوماسية فرنسية كشفت عن وجود جهود غير رسمية يقودها مسؤول جزائري سابق مقيم في فرنسا، لتقريب وجهات النظر وإعادة بناء الثقة بين العاصمتين.
واسترسل، كما يجري الحديث عن اتصالات لترتيب لقاء محتمل بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون على هامش قمة مجموعة العشرين في جنوب إفريقيا هذا الشهر، في خطوة تعكس رغبة مشتركة لتفادي الانزلاق نحو القطيعة.
واستدرك، لكن يبدو أن خطوة تأييد الحكم على الصحفي الفرنسي غليز لن تدعم هذا التوجه، بل ستعمق الخلافات بشكل غير مسبوق، ويرى أن هناك "جهات في السلطة الجزائرية ترفض بعض التوجهات للتقارب مع فرنسا وتقوم ببعث رسائل في هذا الاتجاه".
وذكر أن "فتح باب التهدئة لم يكن مجرد تنازل من قبل الجزائريين، بل كان خيارا براغماتيا مدفوعا بحسابات الكلفة السياسية والاقتصادية لاستمرار القطيعة". مشددا أن "هذا التوجه لا يحظى بدعم كامل من سلطات متنفذة في الدولة الجزائرية على ما يبدو".

تفاعلات فرنسية
على الجانب الفرنسي، انتقد الرئيس إيمانويل ماكرون الحكم الجزائري، ويرى أن إدانته بالسجن سبع سنوات بسبب تهمة "الإشادة بالإرهاب" تمثّل حكما "مبالغا فيه" و"غير عادل".
وقال ماكرون في تصريح صحفي، وفق ما نقلته "لوباريزيان" في 5 ديسمبر 2025: إن قرار إدانة الصحفي الفرنسي يمثّل "إشارة ليست جيدة"، وأنه يشعر بتأثر بالغ تجاه غليز وعائلته والزملاء في المهنة الصحفية.
وأشار الرئيس الفرنسي في تصريحه من العاصمة الصينية بكين، إلى أن باريس ستعمل من أجل "إيجاد مخرج إيجابي" لهذه القضية، في تلميح إلى احتمال تكثيف الاتصالات الدبلوماسية مع الجزائر، في الفترة المقبلة بهدف إطلاق سراح الصحفي.
بدوره، أبدى محامي الصحفي، إيمانويل داود، في تصريح نقله موقع "لوفيغارو" الفرنسي في 5 ديسمبر، "خيبة أمل كبيرة وعدم فهم عميق" لهذا الحكم القضائي.
وأكد داود أنهم سيواصلون الطعن في القرار، قائلا: "سنواصل النضال؛ لأنه عندما تدافع عن شخص بريء، فإنك تواصل النضال حتى النهاية".
وأضاف داود أن القضية مثيرة للاستغراب، مردفا: "نادرا ما رأيت ملف قضية فارغا إلى هذه الدرجة ينتهي بمثل هذا الحكم القاسي".
كذلك أكد "راديو فرنسا" في تحليل نشره في 4 ديسمبر، أن حكم الاستئناف الصادر ضد غليز شكَّل صدمة، لا سيما في ظل بوادر التهدئة السائدة بين باريس والجزائر.
ورأى الموقع أن "هذه الانتكاسة الدبلوماسية، وإن كانت مؤقتة، تضع باريس في موقف حرج، وتُعيد إشعال حملة دعم الصحفي".
وذكر أن "جميع الإشارات القادمة من الجزائر كانت إيجابية قبل ساعات فقط من محاكمة كريستوف غليز، ومع ذلك، صدر الحكم قاسيا، ليؤكد الحكم الابتدائي".
وتساءل الموقع عن الذي أدى إلى صدور هذا الحكم القاسي، الذي أغرق كريستوف غليز وعائلته وأصدقاءه، وحتى السلطات الفرنسية، في حالة من الصدمة؟ هل كانت لعبة مزدوجة أم صراعا على السلطة داخل حكومة الجزائر؟ إن غموض النظام الجزائري يتركنا نتساءل.
ورأى الموقع أن هذه النكسة أحرجت الحكومة الفرنسية؛ إذ بعد إطلاق سراح بوعلام صنصال، أشاد عدد من الوزراء بالنهج الدبلوماسي لتحقيق نتائج، بدلا من الأسلوب "الأكثر حزما" الذي دعا إليه برونو ريتيلو عندما كان وزيرا للداخلية. لكن الدبلوماسية اصطدمت بحائط مسدود بعد هذا الحكم.
وأضاف الموقع، "من الصعب التظاهر بأن شيئا لم يحدث، لا شك أن هذه العقبة الجديدة أمام التطبيع يجب معالجتها على أعلى المستويات، على ضفتي البحر الأبيض المتوسط، للتغلب عليها".
واسترسل: "في نهاية المطاف، مصير كريستوف غليز بين يدي الرئيسين، تبون وماكرون. إذ يقع على عاتقهما وضع حدٍّ في أسرع وقت ممكن لاضطهاد صحفي لا شأن له بالسجون الجزائرية".

مقايضة سياسية
في قراءته لهذه التطورات، قال الناشط السياسي والحقوقي الجزائري صالح حجاب: إن الجزائريين يرون في هذه القضية وما يشبهها وجود تقاطعٍ واضح بين السياسي والقضائي.
وأضاف حجاب لـ "الاستقلال": لأن هناك من يُعامل بقسوة في القضاء، وشواهد ذلك كثيرة، في مقابل أشخاص تقع عليهم شبهات أو مخالفات موثقة، تُشكل قضية رأي عام دون أي متابعة، وسر ذلك أن السلطة لا تريد أن تفعل.
ورأى الناشط السياسي أن الصحفي الفرنسي وقع ضحية العمل بكلمة "الإرهاب"، والتي استعملها الغرب أولا، والذي كان يسكت عن استعمالها في باقي الدول لأن المستهدف منها هم أبناء التيار الإسلامي المحافظ.
واستدرك، لكنه اليوم في حالة صدمة بعد أن تمت متابعة هذا الصحفي الفرنسي المسيحي بهذا الاتهام.
ويرى حجاب أن الحكم على الصحفي بسبع سنوات لن يكون حكما نهائيا، ولن يستكمل مدة العقوبة في السجن، بل سيكون هناك تخفيض أو مقايضة بين السلطة الجزائرية والفرنسية في هذه القضية.
ورأى المتحدث ذاته أن انتشار هذا الاعتقال في صفوف المراقبين الموضوعيين له عواقب سلبية؛ لأنه يخرج القضاء عن الأعراف وعن الاستعمال الطبيعي بوصفه أداة لتحقيق العدالة، إلى أداة للتفاوض السياسي.
وشدد حجاب أن فرنسا بطلبها الإفراج عن صلصال من قبل، وتكرار الطلب قضية غليز الآن، تؤكد أنه لا استقلالية للقضاء الجزائري عن السلطة السياسية.
وانتقد الناشط السياسي ازدواجية الممارسة الفرنسية نفسها، قائلا: إن الرئيس ماكرون سبق أن طُرح عليه ملف 300 معتقل رأي في السجون الجزائرية، واكتفى بالقول بأن الأمر شأن جزائري داخلي، في المقابل، حين يتعلق الأمر بأحد أبناء فرنسا نراها تُقيم الدنيا ولا تقعدها.
ومع ذلك، عبر حجاب عن أمله في أن تُطوى هذه الصفحة، وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه، مستدركا، ليس المطلوب أن تتساهل السلطة مع أي أجنبي فقط لأنه كذلك، بل يجب عليها التعامل مع الجميع على قدم المساواة أمام القضاء.
ونبَّه إلى أن هذا مطلب أساسي لعموم المواطنين؛ إذ يرون كيف أن صنصال اتُهم بأنه عميل واتهامات أخرى ثقيلة، وفي الأخير تم الإفراج عنه بعد مقايضة، مما يشعرهم بأن القضاء يعاني من التسييس.
واسترسل، نريد عقلاء في السلطة الجزائرية؛ لأن ما يجرى يفضح ممارسات غير قانونية، ويكشف وجود تمييز بين المعتقلين، وفي كيفية تطبيق القانون، وكذا استغلال القضاء والقانون في حسابات سياسية.
وخلص إلى أن هذا أضر بالسلطة والجزائر عموما، معبرا عن أمله في أن تعود السلطات إلى جادة الصواب، بالحرص على بناء دولة الحق والقانون الحقيقية التي لا تمييز فيها أمام القضاء.
من جانب آخر، يرى الكاتب الصحفي مازن بلال في تحليل لصحيفة "أخبار شمال إفريقيا"، في 8 ديسمبر، أن القضاء الجزائري هو في موضع اتهام مستمر في الخطاب الفرنسي وبعض المنظمات الحقوقية.
وأضاف بلال أن هذا التوجه يعتقد أن القضاء الجزائري هو أداة في الصراع السياسي بين البلدين، في حين ترد الجزائر بأن فرنسا "تمارس ازدواجية المعايير"؛ إذ تتجاهل قضايا جزائريين موقوفين على أراضيها، مثل قضية الموظف القنصلي الجزائري المتهم في باريس بـ”اختطاف اليوتيوبر المعارض أمير بوخرص”، في حين تصعد دفاعها عن صحافي فرنسي “خالف قوانين الإقامة والعمل”.
ويعتقد بلال أن الجزائر تربط مصير قضية غليز بتطورات الملف القنصلي في باريس، ما يعني أن العدالة، وإن كانت مظهرا قانونيا، أضحت جزءا من معادلة دبلوماسية أوسع.
عمليا، يردف الكاتب الصحفي، تجاوزت القضية بعدها القضائي لتصبح ورقة ضغط متبادلة بين بلدين يعرفان جيدا كيف يوظفان الرمزية السياسية في ملفات العدالة والإعلام.
وبخصوص أفق التصعيد بين الجانبين، شدد بلال أن استمراره سيكلف الطرفين خسائر متزايدة، فالجزائر- التي تواجه أزمة اقتصادية خانقة بسبب تراجع عائدات الغاز وتوتر المناخ الاستثماري- بحاجة إلى شركاء أوروبيين مستقرين، وفرنسا في مقدمتهم.
وأردف، أما باريس، التي تخسر نفوذها في إفريقيا تباعا فلا يمكنها تحمل قطيعة مع الجزائر، ثاني أكبر شريك تجاري لها في القارة.
ومع ذلك، يقول بلال، يبدو أن التوتر المدروس بات سمة العلاقة بين البلدين، فلا قطيعة نهائية، ولا مصالحة حقيقية، فالبلدان يحتاجان إلى بعضهما بقدر ما يتوجسان من بعضهما.
المصادر
- الجزائر – تأكيد إدانة الصحفي كريستوف غلايز في محكمة الاستئناف
- تثبيت حكم على صحفي فرنسي يعقّد جهود التهدئة بين باريس والجزائر
- « Pas un bon signal envoyé » : Emmanuel Macron critique la condamnation du journaliste français Christophe Gleizes en Algérie
- «Rien ne permet de justifier un tel verdict», réagit l’avocat français de Christophe Gleizes, qui l’a défendu en Algérie
- La condamnation du journaliste Christophe Gleizes replonge les relations franco-algériennes dans la crise
- الأزمة الجزائرية – الفرنسية: الصحافة تتحول إلى ساحة مواجهة دبلوماسية
















