"مصيدة وقف النار".. كيف يستغل الاحتلال الهدنة للوصول إلى المقاومين؟

"الاحتلال يستغل الهدنة لتحديث بنك الأهداف استعدادا للاغتيالات"
رغم اتفاق وقف إطلاق النار الساري منذ 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025، يواصل الاحتلال الإسرائيلي مجازره وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ويشهد القطاع بشكل يومي ارتقاء عشرات الشهداء وسقوط مئات المصابين، غالبيتهم من الأطفال والنساء، نتيجة استهدافات متواصلة من قبل جيش الاحتلال.
ويسبق خروقات الاحتلال لوقف إطلاق النار، تنفيذُه جهدا استخباريا عالي الكثافة في قطاع غزة، يشمل مراقبة جوية وأرضية باستخدام مختلف وسائل التجسس.
مرحلة جديدة
وبات الاحتلال يعتمد في هذه المرحلة سياسة دموية جديدة تتناقض مع اتفاق وقف إطلاق النار، تقوم على تجميع بنك أهداف موسع يشمل أفرادا ومواقع داخل القطاع.
ويعقب هذا النشاط الاستخباري اختلاق الاحتلال أحداثا أمنية مفتعلة، يتخذها ذريعة لتنفيذ مجازر جديدة في غزة، بعد أن يرصد ما يسميه بـ"صيد ثمين" من عناصر وقادة المقاومة.
ومنذ سريان وقف إطلاق النار، أعلن جيش الاحتلال تصفية عدد من كبار قادة المقاومة في القطاع، بينهم أفراد في قيادة أركان كتائب القسام، وقادة ألوية، وقادة كتائب ونوابهم.
بالإضافة إلى قادة سرايا، وقادة مجموعات، ومقاومين من القسام، في هجمات مباغتة، وهي الخطوة التي وصفها مراقبون بأنها شكل جديد من العدوان.
وبعد تكرار الاحتلال لمجازره بهذه الطريقة، أصدر جهاز أمن المقاومة في القطاع -وهو الجهاز المعني بتأمين المقاومين والجبهة الداخلية في فلسطين- سلسلة من التنبيهات والتوجيهات الأمنية الموجهة للمقاومين والجبهة الداخلية بغزة.
وحذر الجهاز في بيانات متفرقة عبر منصاته من أن طائرات الاستطلاع الإسرائيلية تكثف تحليقها في أجواء القطاع على مدار الساعة، في إطار ما وصفه بعمليات مسح معلوماتي تشمل مراقبة التحركات في المناطق المدنية.
ورأى أن هذه التحركات تأتي ضمن جهود الاحتلال لتعزيز جمع البيانات وتحليل الأنماط الميدانية، ما يستدعي اتخاذ أعلى درجات الحذر في الحركة والتواصل، حسب أمن المقاومة.
وجاء في تعميم نشره جهاز أمن المقاومة عبر منصاته في 3 ديسمبر/كانون الأول 2025 دعوة للمقاومين “للاختفاء عن منظور الطيران، وكذلك الابتعاد عن أماكن تواجد الكاميرات الموجودة في الشوارع والمحال التجارية والمؤسسات”.
وكذلك "الالتزام بأقصى درجات الحيطة والحذر في الحركة والتواصل، وتجنب أي نشاط مكشوف أو تكرار للحركة في المسارات المعتادة، واعتماد قنوات تواصل آمنة، والامتناع عن أي اتصال غير ضروري، والإبلاغ عن أي تحركات مشبوهة دون إثارة الانتباه".
وأكد الجهاز ضرورة ترك المطاردين التكنولوجيا تماما، وإغلاق الهواتف والأجهزة الإلكترونية، وتغيير الروتين، واستخدام أوقات ومسارات غير معتادة.

"جهد استخباري"
وفي هذا السياق، قال مصدر أمني لـ"الاستقلال": إن جيش الاحتلال يواصل تنفيذ ما وصفه بجهد استخباري هائل في قطاع غزة.
وأوضح المصدر (طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية) أن هذا النشاط تصاعد بصورة غير مسبوقة خلال الأسابيع الأخيرة، مع اعتماد الاحتلال على منظومات مراقبة متعددة تعمل على مدار الساعة.
ووفقه، تشمل وسائل التجسس المستخدمة طائرات الاستطلاع بمختلف أنواعها، والمناطيد الجوية، إضافة إلى عمليات اختراق واسعة للهواتف، وكاميرات المراقبة داخل القطاع، وتفعيل عناصر بشرية على الأرض من العملاء، إلى جانب تنفيذ عمليات تنصت إلكترونية.
وأضاف أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تلجأ كذلك إلى انتحال هويات موظفين في مؤسسات إغاثية داخل غزة للتواصل مع السكان، بهدف جمع معلومات عن أشخاص تصفهم بأنهم مطلوبون، والحصول على تفاصيل دقيقة عن تحركاتهم وأنشطتهم.
وأضاف المصدر أنه رصد استخدام شتى أنواع الطيران المسيّر، مع نشاط استثنائي لطائرات من طراز هيرمز 900، وهيرمز 450، بالإضافة إلى طائرات سوبر هيرون، وهيرون TP، وطائرات كواد كوبتر بالأنواع كافة.
وأشار إلى وجود نشاط مستمر للطائرات المأهولة من نوع "تزوفيت"، المحملة بأنظمة تنصت وتشويش، فضلا عن عمليات متقطعة للطيران الحربي على مدار الساعة في أجواء القطاع.
وكشف المصدر الأمني أن الاحتلال يركز مراقبته بشدة وعلى مدار الساعة على عدة مناطق في القطاع، أبرزها المواصي غرب مدينة خان يونس، إضافة إلى المخيمات الوسطى، وبالتحديد مدينة دير البلح ومخيم النصيرات، فضلا عن عموم أرجاء مدينة غزة.
وأوضح أن هذه المناطق تشهد مراقبة جوية مشددة ومتواصلة من قبل طيران الاحتلال، ضمن حملة استخباراتية شاملة تشمل مختلف أنواع الطيران والمراقبة.
ولفت المصدر إلى أن من بين الحوادث المتكررة سير طائرات كواد كوبتر لمسافات منخفضة جدا وقريبة من الأرض؛ حيث اقتحمت بعضها منازل المواطنين، فيما اقتحمت أخرى مدارس، ونفذت عمليات تجسس وتصوير، وألقت أجهزة تصنت في مناطق غير متوقعة.
وأشار إلى أن هذه الحوادث تكررت بشكل ملحوظ خلال الفترة الأخيرة، ضمن الحملة الاستخباراتية الواسعة التي ينفذها الاحتلال في قطاع غزة.
وعن دوافع الاحتلال لتكثيف عملياته الاستخباراتية، أكد المصدر أن الهدف يكمن في تحديث قوائم أهدافه استعدادا لما وصفه بمجازر محتملة، إلى جانب محاولة منع تعافي فصائل المقاومة وتنشيط قدراتها وقواتها.
وأضاف أن جزءا من هذه العمليات يستهدف الأجهزة الأمنية في قطاع غزة التي تنظم الشؤون المدنية وتحافظ على الأمن، في إطار رعاية الاحتلال للفلتان الأمني.

تدوير الحرب
ولا يخفي الاحتلال نيته في استمرار هجماته الغادرة على قطاع غزة؛ حيث أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عدة تصريحات أن "الحرب لم ولن تنتهِ إلا حين تحقق أهدافها"، والتي لخصها بـ"القضاء التام على حماس".
وفي تبريره للمجازر، قال نتنياهو في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 إن الاحتلال سيواصل عملياته في قطاع غزة، وسيرد دائما على "خروقات حماس".
من جانبه، أكد الخبير في الشؤون الإسرائيلية صالح إبراهيم أن الاحتلال الإسرائيلي يرى أن الحرب في غزة لم تنتهِ فعليا، بل أعيد تدويرها وتستمر حاليًا بشكل مختلف.
وأوضح إبراهيم لـ"الاستقلال" أن فترة الهدوء تُستغل من قبل الاحتلال لجمع المعلومات والاستخبارات قبل تنفيذ موجات اغتيالات، مشيرا إلى أن هذا الأسلوب يتم تطبيقه منذ بدء وقف إطلاق النار، وطُبق سابقا ولا يزال يُطبق في لبنان.
وأضاف أن "التصريحات الصادرة من المستويين السياسي والعسكري في كيان الاحتلال تشير بوضوح إلى أن الحرب في غزة لم تنتهِ، وأن هناك العديد من الأهداف التي لا تزال قيد التنفيذ".
وأوضح أن الاحتلال، رغم إعلانه عن تسريح عدد كبير من تشكيلاته العسكرية التي تخدم في الاحتياط، لم يسرّح أيًا من الجنود العاملين في سلاح الجو، وبالأخص وحدات تسيير الطيران المسيّر.
وكذلك تعمل وحدة الاستخبارات العسكرية (أمان) بكامل قدراتها، مشيرا إلى أن هؤلاء يعملون بذات الكثافة كما كانوا خلال الحرب، ما يؤكد أن إسرائيل لم تُلغِ حالة الحرب، بل ما زالت تواصل العمل بذات النشاط.
ولفت الخبير إلى أن إسرائيل تخشى أن يحد وجود قوة دولية في قطاع غزة من قدرتها على تنفيذ عمليات وتصعيدات عسكرية ضد فصائل المقاومة الفلسطينية.
وأكد أن الاحتلال، منذ بداية وقف إطلاق النار، سعى لتركيز استهدافاته، ووضع سياسة جديدة تقوم على تجميع الأهداف قبل استهدافها، مؤكدا أن هذه السياسة واضحة وأن إسرائيل ستستمر في تنفيذها، سواء بوجود قوة دولية أم لا.
وحذر إبراهيم من أن تتحول هذه التصعيدات الخاطفة تدريجيا إلى فترات أطول، بما قد يفضي في نهاية المطاف إلى استباحة متواصلة لقطاع غزة على مدار الساعة، حتى وإن كانت أقل كثافة مقارنة بما جرى خلال الحرب قبل وقف إطلاق النار.
ورأى أن هذا السيناريو سيكون مناسبا لنتنياهو وحكومته المتطرفة، التي تبحث عن الحفاظ على هامش واسع من حرية العمل العسكري داخل القطاع.
وتابع إبراهيم: "استمرار الاستهدافات العسكرية وحرية العمل الميداني للاحتلال داخل غزة ينسجمان مع أحد الأهداف التي أعلنها نتنياهو منذ بداية الحرب، والمتمثلة في فرض السيطرة العسكرية والأمنية الكاملة، وإبقاء قدرة إسرائيل على تنفيذ عمليات عسكرية في أي وقت وفي أي مكان داخل القطاع دون قيود".
وشدد على ضرورة حصول موقف واضح من الوسطاء والضامنين لاتفاق وقف إطلاق النار، وذلك للضغط على الاحتلال ومنعه من مواصلة خروقاته، والحيلولة دون تكريس هذه السياسة في قطاع غزة، بما يوقف استمرار نزيف الدم.

مناشدات للمقاومين
وبعد أن اتضحت السياسة الإسرائيلية الجديدة في قطاع غزة، القائمة على تحديث بنك الأهداف ثم الغارات الغادرة، ضجت الصفحات الفلسطينية على مواقع التواصل بتداول التوجيهات الأمنية الصادرة عن الجهات الأمنية، بهدف خلق حالة وعي وتجنيب المقاومين استهدافات الاحتلال.
وسادت حالة من التوعية شارك فيها أكاديميون وخبراء أمنيون وصحفيون ورجال دين وغيرهم من الكوادر الوطنية الساعية للحفاظ على سلامة المقاومين.
بدوره، قال الداعية الفلسطيني محمد الأسطل إن قرار قادة المقاومة وقف الحرب بالصيغة التي تم الإعلان عنها جاء حرصًا على وقف المقتلة اليومية وحماية مدينة غزة.
وأكد الأسطل لـ"الاستقلال" أن تبعات هذا القرار أدخلت الساحة في حالة وسط بين السلم والحرب، ويرى أن القتال لم يتوقف فعليا وإنما تغير شكله، ما يفرض تغييرا في التكتيكات الأمنية والعسكرية للتعامل مع المرحلة المقبلة.
وأوضح أن أبرز التحديات الميدانية التي تواجه المقاتلين تتمثل في استغلال الاحتلال لحركتهم خلال فترات الهدوء النسبي، حيث يعمل على متابعة تحركاتهم وإعادة تجميع بنك أهداف بشرية.
وأضاف أن “العدو، بمجرد اكتمال بنك الأهداف، ينفذ اختراقا مفاجئا ويستهدف عددا من العناصر دفعة واحدة، ما يمكنه خلال يوم واحد من تحقيق ما لم يكن يصل إليه خلال أسابيع أو أشهر من القتال المفتوح”.
ولخص الأسطل طبيعة المرحلة المقبلة باعتبارها حرب الجولات الخاطفة، مشيرا إلى أن القطاع سيعيش خلال الأشهر أو السنوات القادمة على وقع حالة من الهدوء النسبي يعقبها اندلاع جولة مفاجئة، قبل أن يتدخل الوسطاء لإعادة الهدوء، ثم تتكرر الدورة ذاتها مع شروع الاحتلال في بناء بنك أهداف جديد.
وأكد أن مقتضيات الأمن في هذه المرحلة تفرض مجموعة من السياسات والتكتيكات الجديدة، أبرزها التزام كل من يعلم أنه مطلوب أو محتمل الاستهداف بعدم استخدام الهاتف المحمول مطلقا، وإن اضطر فليستخدمه في أماكن آمنة.
"واعتماد مكان إقامة بديل يلجأ إليه عند الخطر، مع عدم كشف هذا الموقع لأي شخص، فالبيانات تُعطى بقدر الحاجة لا بقدر الثقة"، بحسب الأسطل.
















