ملامح مشوهة ومختبرات مدمرة.. كيف تتعرف صحة غزة على هوية الضحايا؟

حسن عبود | منذ ٨ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في غرفة انتظار بمستشفى ناصر في خان يونس جنوب قطاع غزة، تجلس عائلات فلسطينية في صمت ثقيل أمام شاشة كبيرة تعرض صورا لجثث أعادتها إسرائيل بلا أسماء.

يتابع أفراد العائلات الصور بعيون يائسة ومرهقة، يبحثون عن ملامح قريبة أو بقايا ملابس، أملاً في معرفة مصير ذويهم الذين اختطفهم جيش الاحتلال خلال سنتين من العدوان المدمر على القطاع.

صورة مصغرة

ومنذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025، بدأت إسرائيل في إعادة جثامين فلسطينيين احتجزتهم خلال الحرب، وذلك ضمن صفقة تبادل مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

حتى 5 ديسمبر/كانون الأول 2025، تسلمت وزارة الصحة في غزة 345 جثمانا على دفعات عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لكن الفرق الطبية لم تتمكن من تحديد هوية سوى 99 جثمانا فقط، بينما بقيت الغالبية العظمى منهم مجرد أرقام بلا أسماء.

مع تسلمها أي دفعة جديدة من الجثامين، تؤكد وزارة الصحة أن غالبية هذه الجثث تظهر عليها آثار تنكيل وتعذيب وإعدامات؛ إذ تعرض الضحايا لطلقات نارية من مسافات قريبة، وكانوا مكبلين بأصفاد حديدية ومعصوبي الأعين، أو عادوا ممزقي الأوصال، أو جثثًا متفحمة.

وأوضحت الوزارة أن قوات الاحتلال تركت جراحًا مفتوحة في أجساد الضحايا، واقتلعت أعينهم وأسنان بعضهم، كما تعرضت الجثامين لتهشيم وتنكيل إلى درجة وجود آثار جنازير دبابات عليها، مما يصعب من إمكانية التعرف على هوياتهم.

وفيما يتعلق بالأسرى الضحايا لدى الاحتلال، أشارت صحيفة "هآرتس" في يوليو/تموز 2025 إلى أن الجيش الإسرائيلي يحتجز نحو 1500 جثمان فلسطيني من غزة في معسكر "سدي تيمان" في النقب؛ حيث تُحفظ هذه الجثامين في وحدات تبريد خاصة ويُشار إليها بأرقام بدلا من الأسماء.

لكن الجثامين المحتجزة والمُعادة لا تمثل سوى جزء صغير من الكارثة الإنسانية في غزة؛ إذ يقدر الدفاع المدني أن عدد المفقودين في القطاع يتجاوز 10 آلاف شخص.

ولا توجد إحصاءات دقيقة تحدد أعداد من قُتلوا في الغارات الجوية وما زالوا مدفونين تحت الأنقاض، أو محتجزين، أو مختفين في ظروف غامضة أخرى.

ومنذ بدء الهدنة الأخيرة في أكتوبر 2025، جرى انتشال 596 جثة فقط من تحت الأنقاض. وفق بيان صادر عن وزارة الصحة.

وتتعمق المأساة بالنظر إلى حجم الركام الهائل الذي يغطي قطاع غزة، والذي قدرت الأمم المتحدة أخيرًا بتجاوزه 61 مليون طن، مع الحاجة إلى سنوات طويلة لإزالته بالكامل.

فضلاً عن ذلك، ما زال جزء كبير من الضحايا يقع في مناطق يصعب الوصول إليها، بينها أحياء دُمرت بالكامل، وأخرى تقع ضمن مناطق عسكرية مغلقة لا يزال جيش الاحتلال يسيطر عليها رغم وقف إطلاق النار.

حيث يسيطر الاحتلال حتى الآن على ما يُسمى بـ"الخط الأصفر" شرق القطاع، وهي منطقة تغطي حوالي 53 بالمئة من مساحة غزة.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد كشفت تحقيقات نشرتها شبكة "سي إن إن" الأميركية مطلع ديسمبر 2025 عن عمليات قتل ودفن غير موثقة لضحايا طالبي مساعدات قرب معبر زيكيم شمال غزة، وصلت إلى حد إقامة مقابر جماعية.

وأوضح التحقيق أن جيش الاحتلال قام بجرف جثث بعض القتلى قرب المعبر إلى قبور ضحلة مجهولة، وفي أحيان أخرى تُركت رفاتهم لتتحلل في العراء وتقتات عليها الكلاب، حيث لم يكن من الممكن استعادتها في المنطقة العسكرية.

وقال أحد الجنود الإسرائيليين السابقين إن وحدته دفنت تسعة فلسطينيين في قبر واحد دون تسجيل هوياتهم أو تصوير جثثهم.

غياب الإمكانيات

مع مرور الوقت، تتسارع عملية تحلل الجثامين تحت الأنقاض وبين الركام، في ظل نقص الآليات والمعدات الثقيلة، ما يجعل الوصول إلى جثامين كثيرة أو التعرف عليها لاحقا أمرا شبه مستحيل، وفق تحذيرات محلية وأممية.

وقال الناطق باسم الدفاع المدني، محمود بصل: إن الفرق العاملة في القطاع تؤدي مهامها في ظروف "بالغة الصعوبة" بعد تدمير نحو 90 بالمئة من المركبات والمعدات وأدوات الإنقاذ والإطفاء نتيجة القصف الإسرائيلي.

وأشار في تصريحات صحفية إلى أن البنية التحتية للمراكز والفرق الميدانية انهارت بالكامل، إضافة إلى سقوط قتلى وجرحى من هذه الطواقم، مما جعل قدرتهم على الاستجابة لاحتياجات المواطنين "شبه معدومة".

وأكد أن فرق الدفاع المدني تواجه مخلفات واسعة في الطرقات وتحت الركام، وتواصل انتشال جثامين الشهداء رغم انعدام الإمكانات.

وقد اضطرت طواقم الدفاع المدني إلى وقف معظم عمليات الانتشال منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بعد أن استهدف جيش الاحتلال الحفارات والجرافات والآليات الثقيلة التابعة للطواقم، مما أدى إلى ارتفاع كبير في أعداد من بقوا تحت الركام.

وفي ظل غياب الإمكانيات، تحاول مئات العائلات استخراج جثث أقاربها بأنفسها من تحت المباني المدمرة، لكن الأغلبية تعجز عن الوصول إليهم حتى الآن.

أما القطاع الطبي، فقد تعرض لتدمير واسع بعد أن طال القصف الكلي أو الجزئي جميع مستشفيات قطاع غزة، فضلاً عن تدمير جميع المعامل والمختبرات الطبية التي يمكنها المساعدة في تحديد هوية الضحايا.

فقد خرج 25 مستشفى عن الخدمة بالكامل من أصل 38، فيما تعمل 13 مستشفى فقط بشكل جزئي وسط ظروف إنسانية ولوجستية بالغة الصعوبة.

كما دُمّر 103 مراكز رعاية صحية أولية من أصل 157، ولم يتبق سوى 54 مركزًا يعمل جزئيًا نتيجة الاستهداف المتواصل ومنع إدخال الإمدادات، وفق وزارة الصحة.

ويقول أحمد ضهير، مدير دائرة الطب الشرعي في مستشفى ناصر: إن القطاع الصحي مدمر بفعل الحرب. مضيفًا: "غزة اليوم تمثل مأساة العصر بسبب العدد الكبير من المفقودين".

وأوضح ضهير لـ"الاستقلال": "هناك أعداد كبيرة من الجثامين في مساحة محدودة تعرضت للتجريف والتدمير وقلب الأرض من باطنها إلى ظاهرها، واستُهدفت خلالها المقابر نفسها".

وفي ظل الإمكانيات الصحية المتواضعة، استبعد إمكانية الوصول إلى جميع رفات الضحايا ما لم تدخل الأجهزة المطلوبة والمختصون.

ما الحل؟

تعاني غزة من نقص حاد في المختبرات العاملة القادرة على تخزين أو تحليل عينات الحمض النووي، في ظل تدمير النظام الصحي نتيجة القصف الإسرائيلي، ما أدى إلى فقدان معظم السجلات الطبية وسجلات طب الأسنان.

عملت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي تلقت أكثر من 13.500 طلب بحث في غزة منذ بداية الحرب، بالتعاون مع وزارة الصحة على إنشاء مقابر للجثث مجهولة الهوية، كخطوة ضرورية لتمكين عمليات تحديد الهوية مستقبلا.

لكن في الظروف الراهنة، لا تستطيع المنظمة إنشاء مختبر لفحص الحمض النووي أو إدخال أجهزة متطورة بسبب رفض سلطات الاحتلال.

كما يعاني القطاع الصحي من نقص كبير في الأطباء المختصين في مجالات دقيقة مثل تشريح الجثث، علم العظام، وطب الأسنان الشرعي، بالإضافة إلى غياب أجهزة الأشعة المتنقلة الضرورية لتحديد هوية الضحايا. لذا، يلجأ المختصون إلى طرق بدائية تعتمد على المعاينة البصرية.

وأشار أحمد ضهير، مدير دائرة الطب الشرعي في مستشفى ناصر إلى أن الوزارة تسجل الأغراض الشخصية مثل الملابس والساعات وربطها ببلاغات المفقودين، بالإضافة إلى تقدير العمر عبر حجم العظام والأسنان.

وتمثل العائلات دورًا أساسيًا في عملية التعرف على الضحايا، من خلال التمييز بين الندوب، الملامح المتبقية، أو الملابس والمتعلقات.

أنشأت وزارة الصحة غرفة مخصصة في مستشفى ناصر، ورابطًا إلكترونيًا تُنشر فيه جميع صور الجثامين، لتسهيل تعرف ذوي المفقودين عليهم.

ومع ذلك، تواجه الوزارة تحديات كبيرة في تخزين الجثامين بسبب محدودية الطاقة والوقود، مما لا يسمح بحفظ الجثامين أكثر من 10 أيام كحد أقصى.

بعد هذه المدة، تُدفن الجثامين مجهولة الهوية بنظام ترقيم دقيق، يتيح لذوي الضحايا معرفة أماكن الدفن عند توفر وسائل لتحديد الهوية لاحقا.

وأوضحت مجلة 972+ الإسرائيلية أن الجثث المعادة لم تكن جزءًا من اتفاق وقف إطلاق النار، على عكس الأسرى الأحياء، إذ لم يقدم الجيش الإسرائيلي أية أسماء أو معلومات تعريفية عنها.

ويُعد هذا انتهاكا لاتفاقيات جنيف التي تُلزم بالكشف عن أسماء المعادين ونقل ممتلكاتهم الشخصية، إلى جانب أسباب وتواريخ وأماكن الوفاة، وفقًا لخبير القانون الدولي في مركز الميزان لحقوق الإنسان بغزة، يحيى محارب.

وأكدت المجلة أن العديد من المفقودين هم أشخاص كانوا يذهبون لجمع الطعام من مواقع التوزيع التي تديرها مؤسسة غزة الإنسانية؛ حيث قُتل أكثر من 2600 شخص منذ مايو/أيار 2025 وحتى بدء وقف إطلاق النار، على يد جنود إسرائيليين وأميركيين.