"حمى التفكك".. أحزاب تونسية غادرت المشهد السياسي من أول اختبار
شهدت تونس انفتاحا سياسيا، بعدما تمكن التونسيون من الاطاحة بالرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي في يناير/كانون الثاني 2011، وإزاحة حزبه الحاكم "التجمع الدستوري الديمقراطي"، الذي كان يهيمن على الحياة السياسية بتسخير موارد الدولة لصالحه.
وبعد انتهاء مرحلة الإقصاء القمعي لكل تنظيم سياسي معارض لنظام بن علي، خرجت عدد من الأحزاب إلى سطح العملية السياسية بعدما ظلت لعقود تعمل قيد السرية أو تعرضت للحظر والملاحقة والسجون والمنافي.
عدد من هذه الأحزاب تمكّنت في أشهر قليلة قبيل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي والتي جرت في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، من تنظيم صفوفها وحشد مناصريها لتحقق نتائج جيّدة، وضعتها في مراتب متقدّمة على الخارطة السياسية الجديدة.
لكن جزءا من هذه الأحزاب أو جلها لم تصمد طويلا في أول تجربة ديمقراطية تشهدها البلاد، فتفككّت واختفت من المشهد السياسي التونسي بعد سنوات قليلة، رغم أن بعضها كان في الحكم وفي أعلى مؤسسات الدولة.
من السلطة إلى الغياب
في 24 يوليو/تموز 2001، وعلى إثر اجتماع عدد من المعارضين والحقوقيين والمساجين السياسيين السابقين من مشارب فكرية مختلفة، تأسس حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية"، واختير محمد المنصف المرزوقي رئيسا له.
وحاول الحزب الحصول على تأشيرة عمل قانونية، لكن جميع مساعيه قوبلت بالرفض من السلطات التونسية في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، إلا أن ذلك لم يمنع عددا من أعضائه من ممارسة النشاط العلني.
وبرز الحزب بمواقفه الجذرية المعارضة لنظام بن علي، مبشّرا بقيام ثورة شعبية تطيح به، وهو ما تحقق بعد سنوات قليلة، ليحصل الحزب على تأشيرته القانونية في 18 مارس/آذار 2011، ويبدأ في حشد أنصاره استعدادا للانتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي حصد فيها المرتبة الثانية بـ29 مقعدا و341 ألف صوت خلف "حركة النهضة" التي حصدت 89 مقعدا بمليون ونصف المليون صوت.
هذا الانتصار النسبي في الانتخابات خوّل للحزب أن يعقد تحالفا سياسيا مع حركة النهضة و "حزب التكتل" لتشكيل حكومة جديدة، وانتخاب رئيس الحزب المنصف المرزوقي رئيسا للجمهورية.
إلا أنّ تجربة الحكم ودخول "المؤتمر من أجل الجمهورية" إلى دوائر صنع القرار في الدولة عاد بنتائج سلبية عليه، فالحزب الذي صار له رئيس ووزراء وكتاب دولة وولاة (محافظين) سرعان ما تفكّك ليعلن الأمين العام للحزب محمد عبّو انشقاقه وتأسيس حزب "التيار الديمقراطي"، ليخلفه في الأمانة العامة عبد الرؤوف العيادي الذي انشق بدوره وأسس "حركة وفاء، كما انشق النائب الراحل الطاهر هميلة ليؤسس "حزب الإقلاع".
وفي لحظة التفاف هذه الأحزاب وغيرها حول المنصف المرزوقي كمرشح لها في مواجهة الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية التي انتهت بفوزه، ترك المرزوقي حزب المؤتمر ليؤسس حزبا جديدا اختار له اسم "حراك تونس الإرادة".
الحزب الجديد الذي يملك كتلة نيابية من 4 نواب فقط، أظهرت الانتخابات البلدية الأخيرة في مايو/أيار 2018 تراجعا في شعبية الحزب الذي حاز على 84 مقعدا فقط بنسبة 1.7 بالمئة، كما أنّ نتائج الاستطلاع الصادرة مؤخرا تضعه في مراتب متأخّرة مقارنة بمنافسيه خاصة من الأحزاب الجديدة والمحسوبة على النظام القديم.
في المقابل، يظهر مصير حزب "التكتل من أجل العمل والحريات"، أكثر سوءا من مصير "المؤتمر من أجل الجمهورية"، فالحزب الذي تأسس في العام 2002 على يد عدد من النقابيين والمناضلين السياسيين المستقيلين من "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين"، تمكّن في العام 2011 من تحقيق المرتبة الرابعة بـ20 مقعدا و248 ألف صوت، ليكون ثالث أحزاب التشكيلة الحاكمة ويتولّى رئيسه مصطفى بن جعفر رئاسة المجلس الوطني التأسيسي.
لكن التكتل سرعان ما مني بخسارة فادحة في الانتخابات التشريعية عام 2014 حيث لم يحصد أي مقعد من مقاعد المجلس الـ217، كما حصد رئيسه مصطفى بن جعفر نحو 22 ألف صوت بنسبة 0.67 بالمئة في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية في العام نفسه، كما قرر الحزب عدم خوض الانتخابات البلدية في العام 2018.
ضحايا "النداء"
لم يصدّق جلّ المتابعين لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي عام 2011 أسماعهم، والأخبار تتحدّث عن تقدّم لقائمة "العريضة الشعبية" في نتائج الانتخابات لتحصد المرتبة الثالثة بـ252 ألف صوت و26 مقعدا نيابيا، و "العريضة" هي تيار سياسي تشكّل سريعا بعد الثورة التونسية بقيادة السياسي والإعلامي الهاشمي الحامدي مالك قناة "المستقلة" التي تبث من لندن، قبل أن يتحوّل التيار إلى حزب سياسي أطلق عليه "تيار المحبّة".
وكما تشكّل الحزب سريعا ذهب بالطريقة ذاتها، فسرعان ما تحولت كتلته النيابية إلى مرمى أطماع الأحزاب الثرية، حيث ظهر في المجلس ما بات يعرف حينها بـ"السياحة الحزبية"، حين قرر عدد من النواب ترك أحزابهم وكتلهم البرلمانية والانتقال إلى أحزاب جديد، وكانت كتلة "تيار المحبّة" هي الأشد تضررا من هذه الظاهرة.
التحق عدد من نواب "تيار المحبة" إلى "حزب الانفتاح و الوفاء" الذي يقوده رجل الأعمال المثير للجدل البحري الجلاصي، والتحق عدد آخر بـ"حزب الاتحاد الوطني الحر" الذي يرأسه رجل الأعمال سليم الرياحي، قبل أن ينظم آخرون إلى "حركة نداء تونس" التي يقودها الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي.
وفجر البحري الجلاصي، فضيحة مدوية في الساحة السياسية في البلاد، زاعما أن ستة نواب التحقوا بحزبه الذي تأسس بعد الانتخابات بعد أن دفع لهم أموالا وسيارات قبل أن ينسحبوا للانضمام إلى "حزب نداء تونس".
وسارع إلى رفع دعوى قضائية ضد النواب الستة، متهما إياهم بعد مغادرة حزبه بالسرقة و الخيانة وعدم إرجاع الأموال والسيارات التي منحها لهم لقاء الالتحاق بـ"حزب الانفتاح والوفاء".
"التصويت المفيد"
كان لظهور "حركة نداء تونس" تغييرا واسعا بالخارطة السياسية في تونس، حيث شهد عام 2013 ارتفاع منسوب الاستقطاب الثنائي بين "حركة النهضة" الحاكمة حينها، والمعارضة اليسارية والعلمانية والمحسوبين على النظام القديم.
وبلغ الاستقطاب ذروته، بعد اغتيال المعارض القومي والقيادي في "الجبهة الشعبية" النائب في البرلمان محمد البراهمي في 25 تموز/يوليو 2013، في عملية تبنتها لاحقا تنظيم "أنصار الشريعة" المصنف إرهابيا في تونس، ورغم تمكّن الأطراف السياسية بتجاوز هذا الصراع، إلا أنه أثّر في نتائج الانتخابات وحظوظ عدد من الأحزاب السياسية.
ووفق قاعدة "من ليس معي هو ضدّي"، قاد الباجي قائد السبسي الحملة الانتخابية لحزبه، داعيا التونسيين إلى عدم إضاعة أصواتهم ومنحها لأحزاب صغيرة، إذ يجب توحيد كل هذه الأصوات ومنحها لـ"النداء" من أجل إحداث توازن سياسي مع "حركة النهضة"، وهو ما سمّي حينها بـ"التصويت المفيد".
واسهم التصويت في تغييب عدد من الأحزاب عن المشهد البرلماني الجديد بعد انتخابات 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014، إذ لم يفز حزب المسار (الحزب الشيوعي التونسي سابقا وهو أحد أقدم الأحزاب التونسية بأي مقعد في البرلمان وهو الذي لم يغب عنه حتى في عهد بن علي.
لم يتمكّن أيضا، "الحزب الجمهوري" من الفوز سوى بمقعد واحد بعد أن كانت كتلته لديها 16 نائبا عام 2011، وحتّى هذا النائب قد استقال والتحق بالحزب الجديد لرئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد، ومثله نائب "التحالف الديمقراطي" مهدي بن غربية، وكذلك الأمين العام لـ"حزب المسار" الوزير الحالي للفلاحة سمير بالطيب.
ومع اقتراب الانتخابات التشريعية المزمع إقامتها في 26 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، لم تظهر أي من هذه الأحزاب على قائمة استطلاعات الرأي التي أعدتها مؤسسات "سبر الآراء"، في الوقت الذي واصلت أحزاب "النهضة" وحركة "تحيا تونس" تصدّرها المشهد السياسي مع صعود لـ"الحزب الدستوري الحر" لمؤسسته عبير موسي أحد أبرز رموز "حزب التجمع" المنحل.