معهد فرنسي: هذه قصة تنظيم الدولة بسوريا حتى ساعاته الأخيرة
نشر موقع "المعهد الفرنسي للشؤون الدولية والإستراتيجية"، تقريرا سلط فيه الضوء على الظروف التي أدت إلى نشوء تنظيم الدولة في سوريا وحتى ساعاته الأخيرة بعد انحساره في منطقة الباغوز على الحدود مع العراق.
يأتي ذلك بعدما شنت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" هجوما نهائيا، يوم الأحد 10 آذار/مارس الجاري، على مقاتلي تنظيم الدولة المحاصرين في الباغوز وهو الحصن الأخير لتنظيم الدولة.
وانطلاقا من هذه التطورات، قال كاتب التقرير كلير بيليدجيان، إنه "في الوقت الذي يعيش فيه تنظيم الدولة ساعاته الأخيرة، فمن الضروري العودة إلى تاريخ نشأته في الأراضي السورية".
"خطأ سايكس بيكو"
وقال التقرير إن "التدمير الرمزي الذي قام به تنظيم الدولة في منطقة اليعروبية عند الحدود بين العراق وسوريا، قد أظهر الخطأ التاريخي بأن اتفاقيات سايكس بيكو لم تضع هذه الحدود، فإن ولاية الموصل في الواقع لم ترتبط بالعراق إلا مؤخرا. علاوة على ذلك، فإن الانقلاب الإعلامي الذي أثاره التنظيم أظهر شيئا آخر، هو أهمية دراسة القصة الطويلة التي تعود إلى سقوط الإمبراطورية العثمانية، لفهم تشكيل الدولة الإسلامية".
وأوضح: "في ظل الإمبراطورية العثمانية، كانت الأراضي التي تحتلها سوريا الآن تتكون من كيانات إدارية عدة، يرأسها حاكم خاص ولكنها تخضع لنفس القوانين. ومن حيث الديانات، فإن الإسلام السني هو المهيمن؛ وتخضع الأقليات الدينية لنظام الملل، الذي يمنحها الاستقلال الذاتي الداخلي مقابل بعض القيود الضرائبية؛ اما بالنسبة للشيعة، فلا يعترف بها كأقلية ويعتبر أعضاؤها من الإسلام السني. وهكذا، فإن الدول التي أنشأت على هذا الإقليم قد كسرت هذه الاستمرارية الجغرافية والبشرية".
وأشار التقرير إلى أنه "في نهاية الحرب العالمية الأولى، منح المجلس الأعلى للتحالف، بريطانيا العظمى على وجهَ الخصوص ولاية العراق، ومنح فرنسا سوريا الكبيرة، حيث سيتم لاحقا تقسيمها إلى لبنان وسوريا. حاول فيصل ابن الشريف حسين من مكة إنشاء (المملكة العربية السورية)، التي تغطي لبنان والأردن وفلسطين وجزء من إقليم الموصل، ولكن أخمد مشروعه بسرعة من الفرنسيين".
وأكد المعهد الفرنسي أنه "برغم العقود التي أعقبت تقسيم الشرق الأوسط، والتي شهدت استقلال الولايات التي تم ترسيمها، فمازالت فكرة توحيد المنطقة في ظل أيديولوجية عربية أو عقيدة إسلامية غير غائبة عن الخطب. ولكن من الناحية الرسمية، لا يمكن أن يتم ذلك".
"اللعب على الطائفية"
وعرّج التقرير على بدايات صعود الأقليات في سوريا، بالقول إنه "بمجرد أن قسمت فرنسا سوريا الكبرى إلى وحدتين هما لبنان وسوريا، تم تشكيل موجة من المعارضة السورية، حيث رفض كل ممثلي الشعب هذه الحدود، فتم سحق الثورات من وكيل السلطة منذ 1920، واعتمدت فرنسا على الأقليات، كما تفعل في لبنان وتدعم بشكل خاص الدروز والعلويين في مواجهة الأغلبية السنية".
ولكن هذه الأقليات الطائفية المهمشة اجتماعيا، بحسب التقرير، وجدت طرقا أخرى لضمان صعودها الاجتماعي، فتارة بالأندماج في حزب البعث، الذي تأسس في ثلاثينيات القرن الماضي ويدافع عن التعددية الطائفية - مؤسسوها الثلاثة هم على التوالي الأرثوذكسية والسنية والعلوية، و تارة أخرى بالانخراط في الجيش، الذي يسمح بالحياة المهنية وبالتالي يهربون من التهميش، و قد شهد الجيش صعودا مذهلا من أعضاء الدروز والعلويين في الستينيات".
وبحسب تقرير المعهد، فإن هذه الفترة أيضا تميزت بسلسلة من الانقلابات العسكرية، التي سمحت للمجتمع العلوي تدريجيا بالاستقرار الدائم في السلطة، وبتطهير البعث نفسه من العناصر الغير العلوية، فهذا الصعود للعلويين عكس إستراتيجية للترقية المحلية، أعمق من مجرد مشروع مجتمعي واع هدفه الإفلات من التهميش. لقد شكلوا دائرة ضيقة متزايدة تحيط بالسلطة. وبالتالي، فإن العصبيات والعشائر أصبحت أساسا لإسناد المواقع في السلطة. فعشيرة الأسد، في السلطة منذ عام 1970، هي مثال جيد لذلك".
وأضاف: "وفي الوقت الذي دعا فيه البعث إلى نظام علماني ، شعر السنة بالتهديد من السلطة القائمة، وخاصة عندما عرض الأخير الدعم للثورة الإيرانية في 1979. وبالإضافة، فإن هذا الدعم، أكثر من أنه دفعة للشيعة من النظام، هو أيضا بادرة ضد العراق، حيث يسود فرع من البعث معادي لحزب البعث السوري".
ونقل المعهد عن المؤرخ بيير-جون لويزارد قوله: خلال هذه الفترة ظهرت أول حركات رد فعل للسنة على نظام الأسد، فبدأت فكرة أن "الديكتاتورية البعثية هي نظام مارق ومعادي للمسلمين، وأن الجيش يسيطر عليه بالكامل أقلية غير شرعية وقمعية "، في شق طريقها إلى العقول وازدهرت في بعض خطابات المعارضة.
وأوضح: "إذا قمعت تلك التحركات بالدماء، يحاول الأسد استرضاء السنة، بالتوسع في بناء المساجد و إنشاء مؤسسات رسمية تهدف إلى تقوية الثقافة السنية مثل وزارة الأوقاف، مفتي الجمهورية، مؤسسة أبو النور الإسلامية في دمشق، إلخ. وتفسر هذه الإجراءات أيضا لماذا جزءا من السكان السوريين السنة لا يزال إلى اليوم مرتبطا بنظام بشار الأسد".
واستدرك لويزارد: لكن هذه العطايا ليست كافية للقطاع السني الأكثر راديكالية، والتي ربما تستمد جذورها من الحنبلية القديمة. شكلت هذه الطائفة فيما بعد الجيش السوري الحر، الذي حارب تحت شعار "تعددية الطوائف"، و تم استهدافه من النظام باعتباره هدفا أكثر أهمية من "المعارضة السلفية".
وأكد أنه "من الحقائق المثبتة، أن مئات السلفيين-الجهاديين، أطلق نظام الأسد سراحهم بنفسه من السجون السورية من 2011، لتشويه سمعة المعارضة الديمقراطية التي تواجهه، حيث سينمو هؤلاء المقاتلون فيما بعد في صفوف تنظيم الدولة".
"بناء داعش بسوريا"
ولفت لويزارد إلى أن "المشروع الإقليمي لتنظيم الدولة، قد ظهر مقابلا لمشروع إقليمي سلفي-جهادي آخر، روجت له جبهة النصرة من خلال زعيمها السوري أبو محمد الجولاني. فجبهة النصرة تناضل من أجل الحفاظ على سوريا داخل حدودها المعروفة، بينما يرغب زعيم الدولة في إعادة تعريف حدود المنطقة، من أجل إنشاء كيان عابر للأوطان يشمل السكان السنة. هذا المشروع الأخير، الذي دعا إليه أبو بكر البغدادي، هو الذي سيولد الدولة في العراق والشام (داعش) في 2014".
وزاد: رفض هذا المشروع من الجولاني أصبح مصدرا للحرب بين الجهاديين، فقد أعلن الأخير نيته إنشاء "إمارة إسلامية" ردا على إعلان الخلافة، ولا تزال مسألة الحدود مركزية في مشاريع كل جماعة جهادية، وتبدو بعيدة عن توافق الآراء.
ورأى المؤرخ الفرنسي أن "داعش، تعتبر دولة لا مجرد منظمة إرهابية، فإن الحدود تعد بالنسبة لها مسألة أساسية. والواقع أن الخلافة قد أعلنت في وقت تمكن فيه المقاتلون من الاعتماد على الحد الأدنى من الأراضي مما أعطاهم أفضلية. و عليه مكّن تنظيم الدولة من المطالبة بتطبيق الشريعة في إقليم معين من خلال مؤسساتها الخاصة. وبهذا انحرفت عن المنظمات الأخرى، مثل تنظيم القاعدة، "الذي له مشروع خلافة أيضا، و لكن لا يقدم من جانبه سوى الإرهاب والحرب التي لا نهاية لها".
وطبقا للتقرير، فإن إستراتيجية تنظيم الدولة لغزو الأراضي السورية، بدأت في 2013، بعد الانفصال عن "جبهة النصرة"، وكانت بعض الأراضي في أيدي الجيش السوري الحر، أو منظمات سلفية أخرى، مثل مدينة الرقة، التي كانت تسيطر عليها سابقا "جبهة النصرة".
في عام 2014، أصبحت الرقة عاصمة للدولة الجديدة. وكانت السيطرة على الأراضي من التنظيم، تتم بشكل متكامل و متجانس. كما تم نزع محافظة حلب، ولا سيما مدينة جربلوس ، من أيدي النصرة.
اتبع تنظيم الدولة، بحسب التقرير، الإستراتيجية التالية لغزو الأراضي السورية: "اختراق الأراضي السورية من المقاتلين العراقيين، واستقطاب المقاتلين السوريين. ومن ثم يتقاسم السوريون والعراقيون السلطة في قمة التسلسل الهرمي لتنيظم الدولة، كما يشير بيير-جون لويزارد إلى "ميل العراقيين إلى أن يقدموا أنفسهم كقادة لحركة يجب على السوريين أن يندمجوا فيها".
وذكر التقرير أنه في عام 2015، بدأ كبح جماح تنظيم الدولة من التوسع الإقليمي، فمنذ يناير/كانون الثاني، تم بترها من كوباني، في شمال سوريا ، و في الوقت نفسه سيطرت القوات العراقية على محافظة ديالى، في شرق العراق. و في نهاية العام ، فقد تنظيم الدولة المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا ، وهي نقطة إستراتيجية للتنظيم.
وفي ختام الأحداث، يقول المعهد الفرنسي إن "الرقة تعرضت لقصف مكثف من التحالف الدولي في نهاية عام 2015، رغم أن المقاتلون لم يطردوا منها إلا في عام 2017. وبين عامي 2015 و2018، فقد تنظيم الدولة معظم الفتوحات الإقليمية. في شرق سوريا، و يبقى الجزء الأخير من أراضيها في باغوز، ويبدو أن ساعاتها أوشكت على الانتهاء".