منذ تأسيسها.. هكذا تقوم علاقة أميركا بالجنائية الدولية على الظلم والفساد

داود علي | 5 months ago

12

طباعة

مشاركة

"الشيطان الأكبر" مصطلح سياسي دارج يستخدم منذ زمن طويل لوصف الولايات المتحدة الأميركية، لكنه عاد إلى التداول بكثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي يوم 5 يونيو/ حزيران 2024، تنديدا بإقرار مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يسمح بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية.

ويفرض القانون المثير للجدل عقوبات على المحكمة إذا حققت أو حاكمت أشخاصا محميين من واشنطن أو حلفائها.

وجاءت هذه الخطوة عقب طلب مدعي عام المحكمة كريم خان إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة.

وهو ما تسبب في غضب عارم داخل الأوساط السياسية الغربية التي تعامل إسرائيل كطفلها المدلل، لاسيما في الولايات المتحدة.

أوامر اعتقال

في 20 مايو/ آيار 2024، أعلن خان أنه قدم طلبات إلى المحكمة لاستصدار أوامر اعتقال بتهم ارتكاب جرائم حرب، وإبادة جماعية، في ما يتعلق بالحرب في غزة وهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وقال مدعي المحكمة إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت، يتحملان المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية في غزة.

وأضاف أن أدلة المحكمة خلصت إلى أن المسؤولين الإسرائيليين حرموا بشكل ممنهج الفلسطينيين من أساسيات الحياة، وأن نتنياهو وغالانت متواطئان في التسبب بمعاناة وتجويع المدنيين في غزة.

ورغم أن الولايات المتحدة وإسرائيل ليستا عضوين بالمحكمة الجنائية الدولية، لكن قرارات خان فجرت حالة غضب شديدة من توجه المحكمة.

خاصة أنها المرة الأولى التي تسعى المحكمة فيها لفرض عقوبات وملاحقة مسؤولين إسرائيليين.

وسرعان ما أعرب نواب جمهوريون في الكونغرس، على وجه الخصوص، عن توعدهم للمحكمة الجنائية الدولية.

وتحرك النائب الجمهوري تشيب روي، عن ولاية تكساس، بتشريع فرض العقوبات على أعضاء المحكمة، لبعث “رسالة تأييد قوية لإسرائيل وعدم ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية مستقبلا مسؤولين وجنودا أميركيين”.

وبالفعل تم إقرار القانون بعد تصويت جاء بأغلبية 247 صوتا مقابل 155، حيث صوت لصالحه كل الجمهوريين تقريبا وبعض الديمقراطيين.

ولا يمكن إغفال أن الولايات المتحدة لطالما لعبت دورا هاما في حماية إسرائيل من تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية.

ففي عام 2020، طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية (فاتو بنسودا) آنذاك، فتح تحقيق في جرائم حرب محتملة ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ردت واشنطن وقتها بفرض عقوبات على المحكمة، بما في ذلك حظر السفر وتجميد الأصول، بهدف منع التحقيق من المضي قدما.

تجدر الإشارة إلى أن قرار خان لم يكن موجها لمسؤولي الاحتلال فقط، بل شمل رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة يحيى السنوار ومحمد الضيف القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري للحركة ورئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية.

ورغم مساواة القرار بين الطرف المعتدي المحتل والطرف المقاوم للاحتلال، إلا أن أميركا لم يرق لها ذلك، ما يؤكد نظرتها الإمبريالية الفوقية إلى الشعوب العربية والإسلامية.

تهديد كريم خان

مسار كريم خان نحو إدانة نتنياهو وغالانت لم يكن سهلا، حيث حاولت واشنطن عرقلته بأكثر من طريقة منها التهديد والوعيد. 

ففي 6 مايو/ أيار 2024، كشف موقع "زيتيو" البريطاني، طبيعة الانتهاكات الأميركية ضد قضاة "المحكمة الجنائية الدولية".

ونشر تفاصيل "عريضة" من نواب الكونغرس تهدد بمنع المحكمة من إصدار أي قرار ضد إبادة إسرائيل لغزة وارتكاب جرائم حرب.

وأورد "زيتيو"، أن 12 عضوا في الكونغرس من الحزب الجمهوري هددوا في خطاب رسمي رئيس المحكمة الجنائية الدولية بعواقب وخيمة له ولعائلته وموظفيه، حال إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو، المتهم بكونه مجرم حرب.

الرسالة التي وقعها نواب متطرفون من تيار المسيحية الصهيونية منهم توم كوتون وماركو روبيو وتيد كروز، كانت موجهة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان.

وزعمت الرسالة أنه إذا أصدر خان مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين، فسيتم تفسير هذا الوضع "على أنه تهديد ليس فقط لسيادة إسرائيل، ولكن أيضا لسيادة واشنطن"، وسيفضي إلى "عقوبات ثقيلة"

وتوعدت الرسالة المدعي العام خان بعبارة "إذا استهدفت إسرائيل، فسنستهدفك"، و"لقد تم تحذيرك".

يذكر أن الرئيس الأميركي جو بايدن وصف تصرفات المحكمة الجنائية الدولية بأنها "شنيعة"، إلا أن إدارته قالت في بيان يوم 3 يونيو إنها "تعارض بشدة" مشروع القانون الذي يفرض عقوبات على المحكمة.

وقالت إدارة بايدن إنها لا تزال "تشعر بقلق عميق إزاء الاندفاع المتهور للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لطلب أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين كبار".

لكنها تعارض أيضا فرض عقوبات على "المحكمة الجنائية الدولية أو موظفيها أو قضاتها أو أولئك الذين يساعدون في عملها".

وسبق أن قال كريم خان في مقابلة أجراها مع شبكة "سي أن أن" الأميركية: " تحدث معي بعض الساسة وكانوا صريحين للغاية وقالوا: هذه المحكمة بنيت من أجل إفريقيا ومن أجل السفاحين مثل بوتين".

وتابع خان: "لن تثنينا التهديدات أو أي أنشطة أخرى لأنه في النهاية، علينا أن نفي بمسؤولياتنا كمدعين عامين، كرجال ونساء في المكتب، كقضاة، وكسجل لشيء أكبر من أنفسنا، وهو الإخلاص للعدالة".

ازدواجية معايير 

المثير أنه ما قبل العدوان على غزة، كانت الإدارة الأميركية تتعاون مع كريم خان، وفي 4 ديسمبر/ كانون الثاني 2023، نشرت مجلة “إنتيليجنس أونلاين”،أنه على مدار عام كامل قاد بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن جهودا حثيثة لإشراك الولايات المتحدة بشكل أوثق مع المحكمة الجنائية. 

المجلة الفرنسية المختصة بشؤون الاستخبارات أضافت أن البعض يرى أن هذا الدور علامة على إضعاف المحكمة، كما يشعرون بالقلق إزاء محاولات تأثير أقوى دولة في العالم على قرارات المحكمة الجنائية.

وهو ما ظهر على سبيل المثال في سبتمبر/ أيلول 2021، وبعد ثلاثة أشهر من أدائه اليمين الدستورية، قدم خان تأكيدات بـ "إلغاء إعطاء الأولوية" لتحقيقات المحكمة في الجرائم التي ارتكبها الجيش الأميركي ووكالة المخابرات المركزية في أفغانستان والسجون السرية في أوروبا، ما يسهل تعاون واشنطن مع المحكمة. 

ومع توقف هذه التحقيقات فعليا، استدعى خان المحامية والمدعية الأميركية "بريندا هوليس" لترأس ملف الحرب الروسية الأوكرانية. 

وذكرت "إنتيليجنس أونلاين" أن الولايات المتحدة أكدت منذ فترة طويلة أن المحكمة الجنائية الدولية لا تتمتع بالسلطة القضائية على الدول التي ليست عضوا فيها، كما هو الحال بالنسبة لها تماما.

كما أكدت وزارة الخارجية الأميركية لإنتليجنس أونلاين أن موقفها بشأن فلسطين لم يتغير: "لقد رأت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة أن المحكمة الجنائية الدولية لا تتمتع بصلاحية في هذا الشأن".

وتتلخص سياسة واشنطن في التعامل مع الجنائية الدولية في المشاركة لا الانضمام، ومحاولة فرض نفوذها حين يصب ذلك في مصلحتها.

وهو المبدأ الذي طرحه المحامي الأميركي والمسؤول القانوني السابق في وزارة الخارجية هارولد هونججو كوه.

لكن ما ينطبق على واشنطن وحلفائها، خاصة إسرائيل لا ينطبق على دولة مثل روسيا، خاصة منذ بدء الحرب في أوكرانيا.

فقد سعى البيت الأبيض لتجاوز الصلاحيات القضائية هذه المرة، وسمحت واشنطن للمحكمة الجنائية الدولية بملاحقة موسكو قضائيا.

وفي 17 مارس/ آذار 2023، أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهم ارتكاب جرائم حرب  في أوكرانيا.

تاريخ من المتناقضات 

لم تكن مساعي أميركا لإدانة بوتين أمام الجنائية الدولية، ثم انقلابها على المحكمة لدعم وحماية إسرائيل، أول المتناقضات في تاريخ علاقات واشنطن بالجنائية الدولية.

فقبل ذلك، كانت أميركا من أشد الداعمين لإنشاء محكمة جنائية خاصة بيوغسلافيا سابقا عام 1993.

وأخرى خاصة بجرائم الحرب برواندا عام 1994، وقدمت الدعم المالي والسياسي من أجل ذلك، وساعدت في جمع الأدلة لمحاسبة المشاركين في جرائم الإبادة التي ارتكبت في البلدين.

وتأسست المحكمة الجنائية الدولية رسميا عام 2002، بموجب ميثاق روما الموقع عام 1989.

لكن المثير أن الولايات المتحدة امتنعت عن التصديق على الميثاق، بسبب مخاوف من أن تتعرض القوات الأميركية للملاحقات القضائية.

وجاء أول دعم من الولايات المتحدة لقرارات المحكمة الجنائية الدولية بشكلها الجديد، عندما بدأت محاكمة قادة "جيش الرب" في أوغندا عام 2004.

وفي عام 2013، عرضت واشنطن مكافأة 5 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى القبض على الأوغندي جوزيف كوني المطلوب للجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

كما رحبت واشنطن بقرار المحكمة عام 2009 بإصدار مذكرة اعتقال في حق الرئيس السوداني السابق عمر البشير وبعض المسؤولين السودانيين بتهم ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية في دارفور.

ذلك التاريخ انسحق تماما عندما اتخذت المحكمة قرارا بمحاكمة قادة إسرائيل الذين تورطوا في واحدة من أسوأ مجازر القرن في غزة. 

وتم اعتبار أن فرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية كرد على طلب المدعي العام للمحكمة استصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه، هو محاولة من النواب الأميركيين للي ذراع العدالة.