"النقد مقابل النجاة".. هكذا دمّرت إسرائيل النظام المالي في غزة

خالد كريزم | منذ ٦ ساعات

12

طباعة

مشاركة

وسط الإبادة الإسرائيلية المتواصلة والحصار الخانق، يواجه قطاع غزة اليوم أزمة سيولة مالية خانقة وارتفاع للعمولات المفروضة على تلقّي الأموال، مما يهدّد ما تبقى من شرايين الاقتصاد المدمرة.

ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي قبل عام ونصف العام، لم تعد المشكلة محصورة في تراجع الدخل أو انهيار البنية التحتية، بل باتت أزمة النقد المفقود تمسّ الحياة اليومية بشكل مباشر.

فالرواتب لا تُصرف كاملة أو بشكل منتظم، والبنوك مغلقة أو مدمرة والتحويلات المالية محظورة أو خاضعة لرقابة مشددة، مع نسب عمولات عالية.

وتتقاطع هذه الأزمة مع الانهيار شبه الكامل للنظام المصرفي، وتعطّل قنوات التمويل التقليدية، واختفاء العملات الورقية من الأسواق.

وهو ما دفع الغزيين إلى أشكال بدائية من المبادلة، وأدخل المؤسسات الإغاثية في دوّامة من العجز المالي.

أزمة السيولة

وينقسم الغزيون إلى عدة فئات من متلقي الرواتب: موظفي حكومة غزة السابقة وهؤلاء يتقاضون رواتب مجتزأة تحت بند "سُلف"، وموظفي حكومة رام الله الذين تودع رواتبهم في البنوك.

وكذلك موظفو وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" الذين يتلقون أموالهم عبر أكواد تصرف في أماكن مخصصة، إضافة إلى العاملين في منظمات دولية أخرى وغيرهم.

وجميع هؤلاء يواجهون مشكلة في الحصول على رواتبهم نقدا بسبب غياب السيولة، ويتلقونها عبر البنوك أو من خلال محافظ محلية أنشأت حديثا بسبب العدوان الإسرائيلي.

يقول محمد حسن (32 عاما) وهو موظف في أونروا إن الوكالة ترسل الراتب من خلال كود، "ثم نذهب به إلى محل تجاري معتمد يأخذ ما نسبته 2 بالمئة من أجل تحويل الكود إلى مال عبر محفظة  PalPay".

وأضاف لـ"الاستقلال": "هذه المحفظة المحلية تخزن بها أموالك وترسلها من خلالها إلى حسابك في البنك أو العكس، ومع كل عملية من هذا النوع تكون هناك عمولة".

أما عن طرق الدفع للشراء، يوضح أن "الناس في غزة تدفع من خلال تحويل الأموال من محفظة إلى أخرى عن طريق رقم الهاتف".

وذكر أن حجم الأزمة دفع أغلب السكان لفتح محافظ مالية بما فيهم كبار السن الذين كانوا يستصعبون التعامل مع مثل هذه التكنولوجيا في السابق، ولكنهم اضطروا لذلك اليوم.

وأكد أن "الكاش اليوم مستحيل في قطاع غزة، وكل الناس أصبحت لديهم محافظ مالية وأصبح لهذه المنصات الإلكترونية مكاتب ومعتمدون".

وبدوره، تطرق المواطن رائد فارس (40 عاما) إلى مشكلة السيولة بالقول: "هذه حرب أخرى يتعامل معها الناس في غزة بشكل يومي لتوفير احتياجاتهم".

وأردف لـ"الاستقلال": "همنا اليوم يكمن في كيفية الحصول على الأموال ومن ثم طريقة الدفع، خاصة أن الكثير من المحلات لا تقبل سوى الكاش".

ورغم انتشار الدفع عبر المحافظ وتطبيقات البنوك، يوضح أن استخدام سيارات الأجرة أو الشراء من السوق أو بعض محلات البقالة، غير ممكن بدون الكاش.

وتُعد أزمة السيولة واحدة من أخطر تداعيات الحرب على غزة؛ إذ لم يعد المال مجرّد وسيلة للمعيشة، بل بات رمزًا للنجاة في ظل الانهيار الكامل للبنية التحتية البنكية والنقدية. 

فالبنوك أغلقت أبوابها في معظم مناطق القطاع، وأجهزة الصراف الآلي متوقفة، بينما أصبحت التعاملات النقدية محدودة ومركّزة في السوق السوداء، مما فاقم من سوء توزيع الموارد المالية.

وبرزت أخيرا مشكلة إضافية تتمثل في عزوف التجار عن التعامل بالعملات الورقية القديمة، خاصة من فئة 20 شيكل (5 دولارات ونصف)، بعد أن أوقفوا التعامل نهائيا بفئة 10 شواكل، الأمر الذي زاد من معاناة المواطنين.

وأدى إغلاق المعابر على مدار أكثر من شهرين بعد استئناف الحرب، وتدمير الاحتلال معظم البنوك، ونهب بعضها خلال العدوان إلى إغلاق فروعها.

وهو ما دفع إلى اقتصار التعامل المالي على العملات الورقية الموجودة، دون ضخ مبالغ جديدة إلى الأسواق المحلية.

عمولة كبيرة

وفي مشكلة أخرى، يحاول سكان قطاع غزة الحصول على الأموال عبر أقاربهم المقيمين في الخارج، لكنهم يصطدمون بواقع قاسٍ يتمثل في العمولات المرتفعة للغاية التي تفرضها مكاتب الصرافة والبنوك، في ظل الانهيار المالي الناتج عن الحرب.

في السابق، كانت مكاتب الصرافة في غزة تعمل بنظام التسليم اليدوي، بحيث يسلّم شخص في الخارج – كتركيا مثلا – المبلغ نقدًا، وتعمل الجهة الوسيطة على تسليمه مباشرة لذويه داخل القطاع، بنسبة عمولة لا تتجاوز 3 بالمئة.

أما اليوم فالنسبة تبلغ 35 بالمئة، دون وجود خيار التسليم باليد بحيث يجرى التحويل إما عن طريق البنك أو من خلال طرق إلكترونية معقدة ومكلفة، وفق ما أخبر "الاستقلال" مكتب حرز الله الشهير للصرافة.

ويقول فارس: "منذ بداية الحرب وحتى اليوم دفعت أكثر من 3 آلاف دولار فقط عمولات سواء من خلال الأموال القادمة من الخارج أو للحصول على السيولة في الداخل".

ويوضح أنه اضطر في كثير من المرات لتحويل أموال من بنك إلى آخر ثم تقاضيه بصيغة الكاش، في عملية قال: إنها أرهقته ماديا بسبب العمولة الكبيرة.

ولتفادي مشكلة العمولة، يوضح فارس أن والده اضطر لبيع سيارته بأقل من سعرها التقديري بـ 3 آلاف دولار، وذلك لأن تاجرا أغراه بالدفع نقدا.

وأوضح أن الكثير من الناس يبيعون بعض حاجياتهم الثمينة بأسعار أقل كحل للحصول على الكاش، خاصة مع عدم وجود رؤية بشأن زمن توقف الحرب وفقدان ارتباط السكان بالممتلكات المنقولة.

ومع توقف البنوك عن تقديم الخدمات، انتشرت ظاهرة تجار السيولة النقدية في غزة بشكل واسع حتى أصبحوا الخيار الوحيد للحصول على الأموال في هذه الظروف الصعبة.

هؤلاء التجار، الذين يطلق عليهم صرافون أو سماسرة، يشترون السيولة النقدية من البائعين المحليين مقابل دفع عمولة تصل إلى 2 بالمئة عن كل 100 شيكل (حوالي 30 دولارًا). 

وبدورهم، يبيع هؤلاء السيولة بعمولة تصل إلى 35 بالمئة لدى تحويل الأموال من الدولار إلى الشيكل أو تحويلها من البنك إلى شيكل “كاش”.

ويعرض هؤلاء التجار خدماتهم عبر حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي، يتحدثون من خلالها عن تحويل الأموال عبر تطبيقات بنكية، مُعلنين عن نسب عمولات مرتفعة للحصول على السيولة المطلوبة. 

وهذه الظاهرة تسببت في زيادة الضغط على السكان، الذين أصبحوا مضطرين لاستخدام هذه الوسائل بسبب شح السيولة في القطاع.

وفي مارس/آذار 2024، قالت سلطة النقد الفلسطينية: إن تدمير فروع المصارف ومقراتها نجم عنه أزمة غير مسبوقة في وفرة السيولة النقدية بين أيدي سكان قطاع غزة وفي الأسواق، وتفاقمت الأزمة مع خروج معظم أجهزة الصراف الآلي من الخدمة.

وأوضحت في بيان أنها تتابع "شكاوى السكان من القطاع حول عمليات ابتزاز ينفذها أشخاص وتجار، وبعض أصحاب محلات الصرافة غير المرخصة، باستخدام أجهزة الخصم المباشر في نقاط البيع، أو التحويلات المالية على التطبيقات البنكية".

وأضافت أن "هؤلاء يستغلون حاجة السكان إلى الكاش مع استمرار تعذر وصولهم إلى البنوك والصرافات الآلية، ويتقاضون نسبة تصل إلى 15 بالمئة (وصلت إلى 35 حاليا) على أي مبلغ يسحب من حساب المواطن بواسطة البطاقات البلاستيكية أو الحوالة، مقابل تسليمه الجزء المتبقي نقدا".

بدائل وحلول

وابتدع الغزيون أخيرا حلولا للتخفيف من الأزمة، كان أبرزها مقايضة سلع بأخرى دون الاضطرار لاستخدام الأموال.

ومنذ أغسطس/آب 2024، بادر الغزي أحمد المقيد إلى إنشاء مجموعة على "فيسبوك" تحت عنوان "سوق المقايضة الأول في قطاع غزة 2024".

وتضم المجموعة اليوم أكثر من 600 عضو، يعرضون ويتبادلون فيما بينهم السلع لعدم الاضطرار إلى دفع عمولات كبيرة بسبب غياب السيولة.

وقال أحدهم عبر المجموعة: “مطلوب دجاجة لا تقل عن 2.5 كيلو مقابل نصف كرتونة بيض + 50 شيكل (شمال غزة - الساحة)”.

وأوضح آخر: “لأصحاب المشاريع، موجود 8 أكياس طحين للتبديل شمال غزة”، فيما عرض ثالث: “بسكليت (عجلة هوائية) صغير للبدل على اكبر لطفل 12 سنة”.

وسخر المواطن محمد حسين في حديثه لـ"الاستقلال"، قائلا: "سنصل قريبا إلى مقايضة السلع الأقل قيمة بأخرى، أنت تعطيني خبزا وأنا أعطيك فلافل في المقابل".

وفيما يخص عدم قبول التجار للعملات القديمة أو المهترئة، دشن بعض الشبان مؤخرا مهنة جديدة تكمن في العمل على تصليحها وتجديدها ضمن مبادرة جديدة.

وانتشرت مقاطع فيديو لشبان افتتحوا بسطات في دير البلح وسط قطاع غزة، لترميم وإصلاح الأوراق النقدية الممزقة، في محاولة لإبقائها قيد التداول بين المواطنين، مقابل رسوم رمزية.

ويأتي هذا التدهور في ظل غياب تام لسلطة النقد التي لم توفر أي حلول عملية لحل الأزمة، وسط حالة ركود مالية تعمق معاناة المواطنين.

وأمام ذلك، رأى بعض الغزيين أنه يجب إيجاد بدائل تغنيهم عن الاضطرار للوقوع في أيدي التجار الجشعين، موضحين أن الدفع الإلكتروني هو الخيار الأفضل في الوقت الحالي.

وقال شادي جبر في منشور على فيسبوك: “هل تعلم أن التداول الرقمي البنكي في غزة يساهم في حل أزمات الفكة، وعملة العشرة شواكل، ومشاكل تهالك العملة الورقية والعملات المزورة”.

واستدرك أن “جشع بعض التجار في الحصول على السيولة لإعادة بيعها في السوق السوداء يعيق هذا الحل”.

فيما قال يحيى رجب: "مرة أخرى الوضع الإنساني في غزة من سيئ إلى أسوأ مع أزمة ندرة المواد الأساسية وارتفاع أسعارها مع احتكار التجار البضائع وتشكيلهم عصابات سطو على المخازن مع مشكلة السيولة، كلها تنبئ بمجاعة ضخمة قادمة 

وأوضح في تغريدة على منصة إكس: “المفروض الآن دعم المشاريع الإنسانية في غزة والقيام بإسناد مالي حقيقي”.

أما الصحفي محمد هنية فقال: “من لديه دخل يُعاني في الحصول على سيولة نقدية، ومن ليس له دخل، لا يستطيع امتلاك السلع القليلة المتوفرة المتمثلة فقط بالمعلبات".