اتفاق حمدوك مع نور والحلو في نيروبي.. لماذا عزز مخاوف تقسيم السودان؟
"الحرب أذكت نار الاصطفافات القبلية وأضعفت مؤسسات الدولة الهشة بطبيعتها"
يواجه رئيس الوزراء السوداني السابق، رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم" عبد الله حمدوك، انتقادات متزايدة، بسبب مبادراته التي أعلنها في العاصمة الكينية نيروبي بشأن الحرب الأهلية المتواصلة في بلاده منذ أكثر من عام.
في 18 مايو/ أيار 2024، وبمبادرة منه ودون استشارة "تقدم" وقع حمدوك، في العاصمة الكينية نيروبي، اتفاقا لحل النزاع في السودان مع زعيمي الحركتين المسلحتين، عبد الواحد نور (رئيس حركة تحرير السودان)، وعبد العزيز الحلو (رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان في ولاية جنوب كردفان).
وسبق لحمدوك عندما كان رئيسا للوزراء أن وقّع في سبتمبر/أيلول 2020 اتفاقا مماثلا مع حركة عبد العزيز الحلو في العاصمة الإثيوبية، غير أنه وجد معارضة من قبل قادة الجيش الذين كانوا يتقاسمون معه السلطة بدعوى مطالبتها (الحركة) بعلمانية الدولة، غير أن رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، عاد ووقع اتفاقا شبيها مع الحلو في مارس/آذار 2021.
ونص الاتفاق الجديد "إعلان نيروبي" على "حق الشعوب السودانية في ممارسة حق تقرير المصير، إذا لم تُضمن المبادئ الواردة في الإعلان في الدستور الدائم".
ونادى الإعلان بتأسيس دولة علمانية غير منحازة وتقف على مسافة واحدة من الأديان والثقافات والهويات، إضافة لقيام دولة مدنية يتشارك ويتساوى جميع السودانيين في ظلها في السلطة والثروة وضمان حرية الدين والفكر.
كما تضمن الاتفاق عقد مائدة مستديرة تشارك فيها كل القوى الوطنية المؤمنة بالمبادئ الواردة في الإعلان، وتأسيس منظومة عسكرية وأمنية جديدة وفق المعايير المتوافق عليها دوليا، تفضي إلى جيش مهني وقومي واحد يعمل وفق عقيدة عسكرية ويعبر تشكيله عن كل السودانيين وفقا لمعيار التعداد السكاني وينأى عن العمل السياسي والاقتصادي.
اتفاق نيروبي
ويعترف الاتفاق بالحق في تقرير المصير وفصل الدين عن الدولة، وهي قضايا قريبة من قلبي الزعيمين، وكانت هذه الوثيقة في جوهر المناقشات التي دارت في اجتماع بأديس أبابا في 22 مايو بين حمدوك وتقدم، بحسب صحيفة "التغيير" السودانية المحلية.
حيث رأوا أن الاتفاق بمثابة تقسيم، ينتج عنه السودان الجديد، وهو ما أثار قلقا كبيرا في صفوف "تقدم"، وسلط الضوء على عدد من الانقسامات.
فمن ناحية، ينتقد أنصار السودان الموحد، مثل الصديق المهدي من حزب الأمة، أو عمر الدقير من حزب المؤتمر السوداني، أو بابكر فيصل من التحالف الاتحادي، حمدوك لاستسلامه لمسألة تقرير المصير للمناطق الانفصالية، والتي تشمل ولايات جنوب كردفان والنيل الأزرق (عبد العزيز الحلو) ودارفور (عبد الواحد نور).
ومن ناحية أخرى، يعتقد أعضاء "تقدم" الذين تربطهم علاقات وثيقة بقوات الدعم السريع أن هذه هي الخطوة الأولى نحو الانفصال المحتمل لدارفور.
فمنذ منتصف أبريل/ نيسان 2024، تدور المعركة بين مليشيا الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية من أجل الاستيلاء على الفاشر، عاصمة دارفور. ومن الممكن أن يؤدي الانتصار المحتمل لقوات الدعم السريع إلى تسريع تقسيم السودان.
وفي 26 مايو 2024، كشفت صحيفة "السوداني" المحلية، أنه في الأسابيع الأخيرة، نأى العديد من السفارات الغربية بنفسها عن حمدوك، بسبب تحركاته الانفرادية والانفصالية غير المنسقة.
وقالت إن "علاقاته مع دولة الإمارات (حيث يعيش)، والتي اتهمت بتسليح قوات الدعم السريع، والروابط الوثيقة التي يحتفظ بها العديد من أعضاء (تقدم) مع هذه القوة وقادتها، أدت إلى الاعتقاد في واشنطن وبروكسل بأنه لم يعد الشريك المثالي لتوحيد الجبهة المدنية"
وأكملت الصحيفة السودانية: "إنه منذ تعيينه في فبراير كمبعوث أميركي خاص للسودان، حرص الدبلوماسي توم بيرييلو على عدم الظهور علنا مع حمدوك، بسبب صلاته بقوات الدعم السريع (ذات النزعة الانفصالية أيضا)".
طرف خطير
وزاد من خطورة اتفاق نيروبي، أن أحد أطرافها يحمل مشروعا انفصاليا حقيقيا وقويا وقابلا للتنفيذ، وهو عبد العزيز الحلو، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان في ولاية جنوب كردفان، حتى إن الشعب السوداني يشبهونه بـ "جون قرنق" صاحب مشروع انفصال الجنوب.
ففي عام 1981 عاد العسكري السوداني جون قرنق من الولايات المتحدة، ليتم تعيينه برتبة عقيد في الجيش السوداني.
وفي عام 1983 كلف قرنق بإخماد تمرد قامت به كتيبة من الجنوبيين قوامها نحو 500 جندي، لكن المتمردين أقنعوه بقضيتهم ونصبوه زعيما لهم.
ومن هنا تشكلت نواة ما سمي الجيش الشعبي لتحرير السودان، أو الجناح العسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي كانت سببا مباشرا في انفصال جنوب السودان، وتأسيس دولة جديدة من رحم الدولة الأم.
واليوم يلعب الحلو في ولاية جنوب كردفان، نفس لعبة قرنق القديمة، ورغم محادثات السلام بينه وبين الحكومة المركزية السودانية في 31 أغسطس/ آب 2020، لكن نذر التقسيم والانفصال قائمة مع تطور الأحداث، وحالة الضعف والتخبط التي دخلت فيها عموم الدولة عقب سقوط البشير في أبريل/ نيسان 2019.
وتجلى مشروع الحلو الانفصالي عام 2011 بعد استفتاء انفصال جنوب السودان، وإعلانه دولة جديدة، وقتها قام الحلو من فوره بتأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال، بثوب جديد مختلف عن طبيعة الحركة القديمة.
وأصبح رئيسا وزعيما لها، بينما تولى مالك عقار منصب نائب الرئيس، وياسر عرمان رئاسة الأمانة العامة وذلك قبل انقسام الحركة في عام 2017 إلى جناحين أحدهما ترأسه الحلو في مناطق جبال النوبة والآخر بزعامة عقار في منطقة النيل الأزرق.
نموذج الجنوب
بعدها دار صراع شرس بين الحركة الشعبية في شمال السودان ومجموعات متمردة من جهة، وجيش حكومة الخرطوم وقوات الدعم السريع من جهة أخرى، ودارت حروب طاحنة أخفقت الحكومة السودانية على مدار السنوات في حسمها.
وأصبح عبد العزيز الحلو وحركته يسيطرون على السلسلة الجبلية التي يبلغ عددها 98 جبلا، تمتد على مساحة 90 كيلو مترا ويصل ارتفاعها إلى 1500 متر، في ولايتي جبال النوبة وجنوب كردفان.
بعدها حدثت التقلبات والمتغيرات السياسية في السودان، مع سقوط البشير.
وفي 24 مارس/ آذار 2020، اتهمت الحركة الشعبية في شمال السودان، بقيادة عبد العزيز الحلو، كلا من الجيش وقوات الدعم السريع"، بحشد قواتهما في الخطوط الخلفية لميدوافق السعوديون بسعادة على ترتيبات تمنحهم الكثيروافق السعوديون بسعادة على ترتيبات تمنحهم الكثيران الصراع (كان وقتها الجيش والدعم السريع قوة واحدة، قبل التمرد الأخير).
ولكن برعاية دولية وإثيوبية، بدأ مشروع جديد لإحلال السلام في السودان مع الحركة الشعبية بقيادة الحلو، أخذته حكومة حمدوك "اليسارية" على عاتقها.
وفي 4 سبتمبر/ أيلول 2020، اتفق رئيس الوزراء السوداني (آنذاك) عبد الله حمدوك، مع عبد العزيز الحلو، زعيم أحد شطري "الحركة الشعبية/ قطاع الشمال" المتمردة، "مبدئيا" على إجراء مفاوضات غير رسمية حول القضايا الخلافية، وأبرزها علمانية الدولة.
وكان الحلو قد ذهب إلى أديس أبابا، بناء على دعوة حمدوك، بهدف كسر جمود التفاوض في جوبا، بعد تعليق المفاوضات منذ 20 أغسطس/ آب 2020.
ومع ذلك فإن المحادثات القائمة في تحديد العلاقة بين الدولة المركزية والمتمردين، لا تغفل أصل الصراع على مصير السودان.
حيث سترسم بموجبه ملامح المنطقة بأسرها، ويحدد مدى صمودها وتحملها لمخاض التغيير القادم، في ظل فشل الحكومة بالسيطرة على الأوضاع، وسعي الحلو وأمثاله، الحثيث نحو الانفصال على غرار أقرانه في جنوب السودان.
العلمانية والتقسيم
ومن المحطات البارزة في اتفاقات حمدوك والحلو الجدلية، والتي توصف من قبل مسؤولين وسياسيين سودانيين بأنها تهدد وحدة الدولة، ما كان في 10 يناير 2020، أثناء زيارة حمدوك لمدينة "كاودا" إحدى مناطق التمرد في الشمال. وقتها استقبله عبد العزيز الحلو، استقبالا حافلا، وعبر عن شكره وتقديره.
الحلو حينها، خاطب حمدوك قائلا: "التاريخ وضعك على قمة المسؤولية في هذه المرحلة المفصلية مما يتطلب منك اتخاذ قرارات حاسمة من أجل الحفاظ على وحدة السودان، وذلك بإعلان دولة علمانية ديمقراطية وموحدة على أسس جديدة".
تلك التصريحات المتكررة عن علمانية الدولة، أثارت حالة احتقان في الشارع السوداني، ودفعت رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، للحديث عن التصريح بفصل الدين عن الدولة، خلال مقابلة له مع قناة الحدث يوم 16 أبريل/ نيسان 2021، حيث قال: "موضوع فصل الدين عن الدولة يتعلق بوحدة الدولة".
وأضاف: "هناك دول إسلامية من الجوار لديها تجارب، ووجدنا أن الإسلام دين سمح ووسطي، ويدعو للاعتدال وليس التطرف وينبذ الإكراه، وهذا ما يجب أن ننظر إليه".
وعندما سئل عمن يقرر هذا الأمر، لا سيما أن السودان يمر بفترة انتقالية، صرح بأنه "المسؤول عن وحدة السودان بهذا التوقيت وإدارة الدولة؟ حتما هي الحكومة بمكوناتها المختلفة، وإذا ارتأت أن هذا الأمر يمنع تشتت السودانيين والحرب والأزمات، ومتى ما تشكلت الحكومة المقبلة، ستقوم باتخاذ الإجراءات المناسبة بهذا الصدد"
مسار مرفوض
تلك الممهدات جعلت من إقدام حمدوك على توقيع اتفاق نيروبي والحلو أحد أطرافها، محل خوف متصاعد لكثير من السودانيين.
ونقلت صحيفة “الراكوبة” المحلية السودانية في 25 مايو عن الكاتب السوداني بشير محمد نور قوله، إن "الحرب أذكت نار الاصطفافات القبلية، وأضعفت مؤسسات الدولة الهشة بطبيعتها، وهو ما أدى إلى اتخاذ مسارات مثل نيروبي المرفوضة شعبيا ووطنيا".
وأضاف أن "هذه الحرب ربما أسست لانهيار الدولة السودانية، ولا أرى أفقا لحل النزاع إلا من خلال حوار سوداني يكون معنيا بوحدة السودان وتماسكه".
كما نقلت الصحيفة رأي القيادي بحزب البعث العربي الاشتراكي السوداني، وجدي صالح، الذي شدد على أن "إعلان نيروبي، يتناقض مع الثوابت الوطنية”.
وأضاف أن هذا الاتفاق "يمثل خطوة انفصالية واضحة، ويتم التعامل معه كأنه شعار أو قضية سياسية يمكن إخضاعها للتكتيكات، بينما يتجاهل الحرب الدائرة في البلاد، فضلا أن الحديث عن حق تقرير المصير، يتغافل عن التعلم من تجربة فصل الجنوب عن الشمال".