الدبيبة يواجه فصائل العاصمة المسلحة.. من يمسك بخيوط طرابلس؟

داود علي | منذ ٦ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في العاصمة الليبية طرابلس، لا تزال البنادق تسبق الانتخابات، والتحالفات تتغير كلما تغيرت حسابات القوة. وبين حكومة تسعى لتكريس سلطتها، وفصائل ترى في بقائها ضرورة وجود، يقف المواطن الليبي حائرا أمام سؤال لا يزال معلقا منذ أكثر من عقد: متى تعود الدولة؟

أصوات الرصاص التي دوت في أحياء طرابلس مجددا، يوم 12 مايو/ أيار 2025، ذكرت الليبيين بأن الهدوء الذي خيّم على العاصمة منذ اتفاق جنيف عام 2021 لم يكن أكثر من هدنة هشّة، تكسر بسهولة أمام أول محاولة لإعادة ترتيب أوراق السلطة.

لم تكن وفاة القائد الأمني عبد الغني الككلي، الشهير بـ"غنيوة"، سوى شرارة البداية في سيناريو أعاد المشهد الليبي إلى مربع الفوضى. 

الككلي، أحد أبرز الأذرع المسلحة في غرب ليبيا، قتل في ظروف غامضة أثناء اجتماع رسمي داخل مقر "اللواء 444 قتال"، التابع لحكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، ما أعقبه هجوم واسع من فصيل "جهاز الردع"، بقيادة عبد الرؤوف كارة، خصمه القديم في تقاسم السيطرة على طرابلس.

في اليوم التالي تحوّلت العاصمة إلى ساحة اشتباك مفتوحة، شوارع كانت قبل ساعات تنبض بالحياة تحولت إلى خطوط تماس. 

وامتدّت المعارك إلى أحياء رئيسة، فيما حاولت وحدات أمنية محايدة التدخل للفصل بين الأطراف، بتكليف من وزارة الدفاع في حكومة الدبيبة.

وهنا برز سؤال عن مدى قدرة الحكومة على مواجهة التحديات القائمة في ظل أزمة تتجاوز المعارك والسلاح إلى الشرعية؟

كلمة الدبيبة 

وفي 18 مايو 2025، خرج الدبيبة عن صمته، منذ اشتباكات طرابلس، ليكشف في كلمة متلفزة من داخل ديوان رئاسة الوزراء عما وصفه بـ"حقيقة المجموعات المسلحة" التي قال: إنها تجاوزت الدولة وتحوّلت إلى أدوات بيد أطراف سياسية وعسكرية.

وأوضح الدبيبة، أنه تعمد تأخير ظهوره العلني لتجنب تأجيج التوتر أو استغلال الموقف سياسيا، لكنه رأى أن اللحظة الراهنة تفرض عليه "كسر حاجز الصمت"، والكشف عما وصفه بابتزازات ممنهجة مارستها جماعات مسلحة ضد الدولة ومؤسساتها.

ورسم رئيس الحكومة خريطة دقيقة لتطور السلاح في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، مشيرا إلى أن تلك المجموعات انقسمت إلى ثلاث فئات: 

فئة اختارت الانسحاب والعودة إلى الحياة المدنية، وفئة اندمجت داخل مؤسسات الدولة تحت مظلة الشرعية، وثالثة وهي الأخطر، بحسب الدبيبة، استمرت في فرض السيطرة والابتزاز والاستحواذ على القرار السياسي والأمني. وفق تعبيره.

وقال الدبيبة: إن بعض هذه الجماعات "تغوّلت على الدولة" وباتت أقوى من مؤسساتها، مستغلة الفراغ المؤسسي وغياب الرقابة.

وأكد أن حكومته ومنذ تسلمها السلطة عقب اتفاق جنيف عام 2021، وجدت نفسها أمام واقع أمني معقد تهيمن عليه قوى مسلحة خارج السيطرة.

وجاءت كلمة الدبيبة في توقيت حساس بعد استقالة سبعة وزراء من حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، في الوقت الذي احتشد فيه آلاف المتظاهرين في ميدان الشهداء بالعاصمة الليبية للدعوة لإسقاط الحكومة.

من يمسك بخيوط طرابلس؟

ومع ذلك فإن هذا الصدام القائم لم يكن صراعا بين فصيلين فقط، بل حلقة من حرب نفوذ أوسع، تدور رحاها بين مشروعين: أحدهما تقوده حكومة الدبيبة التي تسعى لتفكيك الأجهزة المسلحة التي تشاركها السيطرة على العاصمة، وآخر متمسك ببقاء موازين القوى الحالية، التي نشأت عقب ثورة 2011.

ومنذ تعيينه رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية، حمل الدبيبة شعار "إعادة بناء الدولة"، لكن طريقه نحو بسط السيطرة على كامل مؤسسات الأمن اصطدم بجدران سميكة من النفوذ المسلح. 

في طليعة هذه القوى يقف "جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة"، بقيادة عبد الرؤوف كارة، وهو فصيل سلفي مدخلي يتمتع بنفوذ كبير ومقره قاعدة معيتيقة الجوية.

"الردع" لا يتبع وزارة الداخلية فعليا، بل يحسب إداريا على المجلس الرئاسي، وتمنحه صفته القانونية وصلاحيات الضبط القضائي هامشا للحركة بعيدا عن الرقابة. 

واتهمت تقارير حقوقية عدة، أبرزها لمنظمة العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش"، الجهاز باحتجاز آلاف المعتقلين بشكل تعسفي، وممارسة الانتهاكات داخل سجونه، خاصة في معتقل معيتيقة، الذي وصف بأنه "دولة داخل الدولة".

لذلك فإن رد حكومة الدبيبة لم يتأخر، ففي اجتماع أمني طارئ، أعلن رئيس الحكومة حل ما سماها "الأجهزة الأمنية الموازية"، مؤكدا عزمه على "الضرب بيد من حديد" لكل من يرفض سلطة الدولة. 

الخطوة جاءت في سياق خطة أوسع تحظى بدعم أميركي، حسب ما كشفت مصادر ليبية مطلعة، نقلتها صحيفة "الوسط المحلية" في 15 مايو.

وفق تلك المصادر، فإن واشنطن اقترحت مطلع هذا العام مبادرة لإعادة هيكلة المنظومة الأمنية في غرب ليبيا، تتضمن تشكيل "قوة نظامية موحدة" تتبع حكومة الوحدة، مهمتها مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية، وتكون نواة لبناء جيش وطني جامع. 

الخطة، التي نوقشت في زيارات لمسؤولين أميركيين إلى طرابلس، حظيت بتأييد شخصيات بارزة من تيار الدبيبة، لكنها ووجهت برفض قوي من أجهزة أمنية تخشى على نفوذها ومواقعها، ما جعل الدبيبة أمام تحديات متفاقمة.

هنا جاء أحد هذه التحديات، على الطرف الآخر من المعادلة، عندما سارع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، إلى إصدار قرار عاجل في 16 مايو يقضي بتجميد كل القرارات العسكرية والأمنية الصادرة عن حكومة الدبيبة. 

في محاولة لفرملة ما عدّه "استحواذا مفرطا" من رئيس الحكومة على صلاحيات القائد الأعلى للجيش.

وفي بيان رسمي، دعا المنفي كل التشكيلات العسكرية للعودة الفورية إلى مقارها، بينما كان يواجه ضغوطا داخلية من أنصاره الغاضبين على مقتل الككلي، الذي كان يتبع المجلس إداريا، رغم استقلاله الميداني التام.

ومنذ سقوط نظام القذافي، لم تنجح أي حكومة ليبية في ضبط الفصائل المسلحة تحت مظلة أمنية موحدة. 

حتى حكومة الدبيبة قد ورثت تركيبة أمنية متشابكة، تضم فصائل نافذة من مصراتة والزاوية والزنتان، أبرزها "اللواء 444" بقيادة محمود حمزة، و"اللواء 111" بقيادة عبد السلام زوبي، إلى جانب مجموعات محلية مؤثرة، بعضها يحمل ولاء مزدوجا للدولة وأمراء الحرب في آن.

وتخشى هذه الفصائل من أن تكون قرارات الدبيبة مقدمة لتجريدها من النفوذ، وربما لإحالتها إلى المحاسبة في مرحلة ما، وهو ما يفسر مقاومة بعض قادتها لأي تغييرات هيكلية.

كلفة التصعيد 

الاشتباكات الأخيرة أعادت إلى الأذهان أيام الانقسام الدموي الذي عاشته طرابلس بين 2014 و2020، حين انقسمت العاصمة بين قوى تتناحر على الشرعية والغنائم. 

واليوم، لا تبدو الصورة مختلفة كثيرا، إلا في وجود حكومة معترف بها دوليا تسعى لتأميم القرار الأمني.

لكن هذا الطموح يصطدم بواقع معقد، فإلى جانب تهديد الانفجار العسكري، تواجه حكومة الدبيبة حملة سياسية مضادة من الشرق يقودها خليفة حفتر وعقيلة صالح، اللذان يروجان لتشكيل حكومة بديلة تحظى بغطاء البرلمان الليبي، فيما بدأ المجلس الأعلى للدولة في طرابلس بقيادة خالد المشري التلويح بإمكانية سحب الدعم من الحكومة الحالية.

وهو ما دفع الدبيبة لتدوين تغريدة بتاريخ 18 مايو "إكس"، قائلا: "عقيلة صالح، من قاد العدوان على طرابلس لأكثر من عامين، وشرعن القصف والتدمير، يخرج اليوم متحدثا عن السلام في العاصمة بوجه لا يعرف الخجل".

وأضاف: "العدوان الذي تسبّب في استشهاد أكثر من 3000 ليبي، وتدمير ممنهج للبنية التحتية، لم يكن سوى ثمرة مباشرة لتحريض هذا الرجل ومواقفه". 

وتابع: "رسالتي له، قبل أن تتحدث عن طرابلس وسلامها، انظر إلى المجلس الذي تدعي رئاسته، مجلس بلا نصاب، ولا شرعية، ولا صوت".

وأردف: التفت إلى النواب الذين غيبوا، خطفوا أو أسكتوا، خاطب ذويهم، قبائلهم، اسأل عن مصيرهم، التاريخ لا يرحم، والدم لا يمحى بتصريحات".

عودة

ومن التحديات الخطيرة التي تواجه الدبيبة حالة الغضب الشعبي المتفاقم في طرابلس، فالمئات خرجوا إلى "ميدان الشهداء" مطالبين برحيل حكومة الدبيبة، ورافضين إعادة إنتاج حكم المليشيات المسلحة تحت لافتة الشرعية. 

يقول أحد المتظاهرين لموقع "بلومبيرغ" في 19 مايو إنه "منذ الثورة لم نر دولة، نعيش في ظل السلاح والفوضى".

مضيفا: "كلما اقتربنا من حل سياسي، يخرج علينا سلاح جديد"، وبحسب الموقع البريطاني، فإنه في خضم هذه الفوضى، يتساءل كثيرون عن مصير الحكومة الحالية. 

فمع تزايد الاستقالات في صفوف الوزراء، وتراجع دعم البلديات، وتفاقم الضغوط الشعبية والدولية، يبدو الدبيبة محاصرا من كل الجهات.

كما ذكرت أن "المشهد مرشح للانفجار في أي لحظة"، وأضافت أن "استمرار الاشتباكات يعني نهاية كل أمل في الوصول إلى تسوية سياسية، ويعيد ليبيا إلى دائرة الاحتراب المفتوح".

من جانبه، يقول المحلل السياسي الليبي عماد إسماعيل، لـ “الاستقلال”: إن الأزمة الراهنة "أمنية بامتياز"؛ فهي ليست سوى صراع نفوذ مكشوف، هدفه إقصاء الخصوم وإعادة تشكيل التحالفات وفق ميزان القوة.

ويضيف أن "سنوات الحرب خلقت واقعا موازيا من الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، بدءا من البنك المركزي مرورا بمؤسسة النفط ووصولا إلى مختلف الهيئات السيادية، التي تحولت إلى ميادين حرب غير معلنة بين أطراف السلطة".

وفيما يخص موقف حكومة الوحدة، يوضح إسماعيل أنها "تواجه تحديات بالغة الصعوبة، وهي الآن في واحدة من أضيق زوايا المشهد السياسي منذ توليها السلطة". 

وتابع: "إن لم تستطع الحكومة إحكام السيطرة على مفاصل الأمن وكبح انفلات الجماعات المسلحة، فإن طرابلس تتجه نحو كارثة حقيقية قد تفضي إلى حرب أهلية مفتوحة".

ورأى أن الفارق الجوهري هذه المرة أن "ليبيا لا تواجه انقساما بين جبهتين كما حدث في حربي 2014 و2019، بل تعيش حالة تفكك داخلي خطير.

“حيث تؤتى طرابلس هذه المرة من داخلها، والانقسام ليس بين شرق وغرب فقط، بل داخل البيت الواحد في الغرب نفسه، وهو ما يجعل فرص الانفجار أكثر واقعية، وأقل قابلية للسيطرة”، يختم إسماعيل.