على أبواب الانهيار الديمغرافي.. هل تبدأ إيطاليا في استقبال وتوطين أجانب؟
تواجه إيطاليا أزمة شيخوخة كبيرة، تهدد نموها الاقتصادي، وتؤثر على تركيبتها السكانية، ما يستوجب تغيير سياسة رفض المهاجرين والبحث عن اليد العاملة الأجنبية، وهو ما يتعارض مع سياسات الأحزاب اليمينية الحاكمة في البلاد.
وأطلق مركز الإحصاء الإيطالي إنذارا أخيرا بسبب الانخفاض الكبير في أعداد المواليد مقارنة بالوفيات، حيث انخفض المواليد في 2022 إلى ما دون 400 ألف ولادة، لأول مرة منذ توحيد البلاد في 1861، مقابل نحو 700 ألف حالة وفاة في العام نفسه.
وأشار المركز إلى تراجع عدد السكان الإجمالي على مدار السنوات، وتفوق عدد الأشخاص الذين تجاوزوا سن 65 عاما على عدد الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما.
كما توقف المركز عند انخفاض معدل الخصوبة بين النساء الإيطاليات إلى مستويات قياسية في 2022، ليصل إلى 1.24 طفل لكل امرأة، في حين بات السن الذي تنجب فيه المرأة الإيطالية طفلها الأول هو الأعلى في أوروبا (31.6) عاما.
وتواجه رئيسة الوزراء زعيمة حزب "أخوة إيطاليا" اليميني جورجيا ميلوني معضلة حقيقية بسبب هذا الوضع، حيث قامت حملاتها الانتخابية على معارضة وجود المهاجرين أو استقبال المزيد منهم، في حين يفرض الواقع الإيطالي الانفتاح على اليد العاملة المهاجرة.
حيث دفع هذا الوضع ميلوني إلى إعلان اعتزام حكومتها السماح بدخول 450 ألف مهاجر جديد بطرق وآليات قانونية.
أزمة ديمغرافية
تفاعلا مع هذا الموضوع، قال الناشط المدني بإيطاليا أحمد بالقائد، إن إيطاليا شهدت في السنوات الخمس والعشرين الماضية، تزايد أعمار السكان الإيطاليين بشكل كبير، وفي نفس الفترة الزمنية، انخفض عدد العاملين الذين تقل أعمارهم عن 35 عاما بمقدار 3.6 ملايين بينما زاد عدد العاملين الذين تزيد أعمارهم عن 45 عاما بمقدار 4.2 ملايين.
وذكر لـ "الاستقلال" أن توقعات مركز الإحصاء تشير إلى أنه بحلول عام 2036 ستفقد إيطاليا 3.5 ملايين فرد في سن العمل مع ناقص 24.7 بالمئة في الفئة العمرية 35-54، وناقص 7.4 بالمئة في الفئة العمرية 15-34، وزائد 17.6 بالمئة من السكان العمال في فئة 55-69.
واسترسل، ولذلك ليس من الصعب تصور تأثير هذا التغيير على السكان العاملين الذين سيجدون أنفسهم في مرحلة الشيخوخة، وبالتالي أكثر عرضة للأمراض المزمنة، وصعوبة القيام ببعض الأعمال، ونقص المهارات مقارنة بما تتطلبه أنظمة الإنتاج.
ومضى يقول: أصبح العمر المتوقع للسكان العاملين أعلى بكثير مما كان عليه في الماضي، ما يعني زيادة في عدد المتقاعدين، ولن يتمكن نظام الرعاية الاجتماعية بالتأكيد من دعم 50 بالمئة من السكان.
واعتبر الناشط المدني أن التحدي طويل الأمد، ولكن يجب أن يتم تمهيد أرضه على الفور، وتصور العمل المستدام للجميع، صغارا وكبارا، وفقا لإمكانيات كل شخص.
وأوضح بالقائد أن إيطاليا تحتاج سنويا ثمانين ألف عامل، سواء كانت الحكومة يمينية أو يسارية، مشيرا إلى أن الحكومة الحالية تشجع كثيرا على الولادة، بإعطاء عطلة مدفوعة الأجرة لمدة ستة أشهر، ومبلغ مالي عن كل طفل.
واستدرك، غير أن استجابة المواطنين الإيطاليين ضعيفة، لأنهم لا يتزوجون، وإذا تزوجوا يفضلون عدم الإنجاب، وفي أحسن الظروف ينجبون طفلا واحدا، ولذلك نرى أن بعض المدارس الابتدائية أغلقت وأخرى لولا أبناء المهاجرين لأغلقت هي الأخرى.
استقبال المهاجرين
من جانبه، قال ماتيو فيلا، الباحث لدى المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية، إن سعي ميلوني لاستقبال المزيد من المهاجرين "أصبح الآن قانونا بعد موافقة الحكومة مؤخرا على مرسوم تدفقات المهاجرين الجديد".
وأضاف لموقع "الجزيرة نت"، في 18 يناير/كانون ثاني 2024، هذا القانون يسمح بإدخال 136 ألف مهاجر من خارج الاتحاد الأوروبي في 2024 مقارنة بـ31 ألف مهاجر كانوا قد دخلوا للأراضي الإيطالية سنويا خلال الفترة الواقعة ما بين 2015 و2023.
وأضاف "من المؤكد أن مثل هذه القرارات ستضع حكومة ميلوني اليمينية أمام مفارقة كبيرة، فمن ناحية، سيشعر الناخبون الذين صوّتوا لها والمؤمنون بنظرية الاستبدال العرقي، بالخيانة".
وأردف، "ومن ناحية أخرى، فإن هذه الحكومة مجبرة على التعامل مع الواقع، الأمر الذي يعني فعليا فتح الأبواب على مصراعيها أمام العمال الأجانب من خارج الاتحاد الأوروبي".
وأوضح الباحث أن "إيطاليا تفقد عشرات الآلاف من السكان سنويا، ولديها ارتفاع مستمر في متوسط الأعمار، ولذا هناك ارتفاع في عدد الأشخاص الذين يتقاعدون ويحتاجون إلى المزيد من الرعاية الطبية".
وأضاف أن الدولة ستضطر بشكل متزايد إلى تخصيص موارد لدعم كبار السن، وسيكون لديها في المقابل موارد أقل للاستثمار من أجل تحسين الإنتاجية ونمو العمالة والتنمية.
وترى الكاتبة ماريا تستا ريتا، إنه رغم التزام الحكومة المتزايد بدعم المواليد والأسر، إلا أن معدل الخصوبة في إيطاليا ما يزال عند أدنى مستوى تاريخي في التسعينيات.
وقالت لموقع "ilsole24ore" المحلي، في 15 يناير 2024، إن العنصر الأجنبي في إيطاليا لم يعد هامشيا كما كان في التسعينيات، بل يمثل اليوم 8 بالمئة من إجمالي السكان، ويمكنهم المساهمة في رفع خصوبة البلاد.
ولكن، تستدرك الكاتبة، لا يبدو أن البيانات تدعم هذه الفرضية، لأنه في الواقع، تتكيف النساء الأجنبيات بسرعة مع السلوكيات الإنجابية للمواطنين.
وأوضحت، لأن المهاجرين في إيطاليا كان لهم في عام 2006 ما معدله 2.8 طفل، غير أنه في عام 2022 انخفض إلى ما متوسطه 1.8 فقط، ما يعكس اتجاه انخفاض الخصوبة في إيطاليا بشكل عام.
ومن دلائل الأزمة أيضا، تضيف ريتا، أنه في العشرين سنة الأخيرة فقط، انخفض عدد النساء في سن الإنجاب بمقدار مليون ونصف المليون، وفي السنوات القادمة ستستمر الخسارة.
ودعت ريتا إلى الاستمرار في سياسات دعم المواليد، التي تكافح من أجل التأثير على عدد الولادات، مع العمل على النظر بعمق إلى ما تغير في السلوك الإنجابي في البلد.
نظرة عنصرية
دعوات استقبال المهاجرين وجدت العديد من الأصوات الرافضة في إيطاليا، وخاصة من قبل اليمين المتطرف، وهي الأصوات التي تقترح استقبال الأوكرانيين وأبناء الإيطاليين المقيمين خارج البلاد وخارج الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا الصدد، نشر موقع "فوكس نيوز"، في 13 يناير 2024، تقريرا بعنوان: "إيطاليا تحتاج إلى أبنائها البعيدين، وليس الغزاة الإسلاميين الأفارقة".
وقال إن "إيطاليا بلد له تاريخ في الهجرة، إذ غادر ملايين الإيطاليين وطنهم بحثا عن الثروة في قارات أخرى كانت بحاجة للاستعمار، خاصة في أميركا الجنوبية. فجلبوا معهم ثقافتهم ولغتهم وإيمانهم، وساهموا في تنمية وازدهار الأراضي التي رحبت بهم قبل أن تصبح أمما. لكنهم لم ينسوا أبدا جذورهم".
وأضاف، واليوم، يشعر العديد من هؤلاء المهاجرين، أو أحفادهم، بدعوة وطنهم... إنهم يريدون العودة إلى إيطاليا، لإعادة اكتشاف أصولهم، واحتضان أقاربهم مرة أخرى، والعيش في بلد يشبه بلدهم. مشددا أن "هذه ظاهرة يجب تشجيعها ودعمها، لأن إيطاليا تحتاج إلى أبنائها البعيدين".
واسترسل: "يجب على إيطاليا أن تقر قانونا للعودة مماثلا للقانون الإسرائيلي"، داعيا إلى البحث عن اليد العاملة لكن ليس من بين الثقافات الغريبة عن إيطاليا، بل بين ملايين العمال من أصول إيطالية.
وأردف، "إيطاليا تحتاج إلى مواهبهم ومهاراتهم وخبراتهم.. إنهم أشخاص يمكنهم جلب الابتكار والإبداع والديناميكية.. إنهم أشخاص يمكنهم إثراء النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لبلدنا".
وزاد: "إيطاليا تحتاج إلى طاقتهم، وشغفهم، ورغبتهم في القيام بالأشياء. إنهم أناس ورثوا روح أسلافهم، الذين عرفوا كيف يقاتلون من أجل تحقيق أحلامهم. إنهم أشخاص يمكنهم تقديم مساهمة إيجابية في نمو بلدنا وتقدمه وتماسكه".
وأردف الموقع: "إيطاليا تحتاج إلى حبهم وولائهم وهويتهم.. إنهم أناس حافظوا على ارتباطهم بأرضهم.. إنهم أشخاص يمكنهم تعزيز الشعور بالانتماء والشعور بالفخر والشعور بالمسؤولية تجاه بلدنا".
ولهذه الأسباب، يقول المصدر ذاته، "يجب على إيطاليا أن تسهل عودة أبنائها البعيدين. ويجب أن توفر لهم فرص العمل والدراسة والمواطنة. ويجب الاعتراف بهم لأن إيطاليا هي وطنهم. كما يجب أن نستقبلهم بانفتاح واحترام وامتنان".
إنقاذ السفينة
أكد موقع "segretaricomunalivighenzi"، في 4 يناير 2024، أنه يجب إعمار "السفينة الإيطالية" من جديد، مشددا أن الأزمة الديمغرافية ليست قدرا نهائيا على البلاد.
واقترح الموقع على لسان عميد جامعة بوكوني وعالم الديموغرافيا فرانشيسكو بيلاري، العمل على جذب ودمج الأسر الأجنبية والشباب، ومساعدة الأزواج على إنجاب الأطفال الذين يريدون، والحد من التسرب من المدارس، وزيادة عدد الخريجين.
باختصار، يقول بيلاري، نحن بحاجة إلى زيادة "رأس المال البشري"، مشيرا إلى أن النهج المطلوب يقوم على الناس والوقت، وإدارة التغيير بدءا من التحليل الدقيق للبيانات، في مواجهة تحديات الحاضر.
وأضاف، النتيجة هي، بالنسبة لإيطاليا التي تعاني من الشيخوخة السكانية والانكماش، الحاجة إلى إصلاحات شجاعة في ثلاثة مجالات أساسية: الهجرة، والمدارس، والاستقلال السكني للشباب.
والمطلوب وفق المتحدث ذاته، هو بناء مجتمع عالمي منفتح وشامل وودود ويحترم التنوع، حيث تكون نوعية الحياة عالية، ولا يضطر الشباب إلى الفرار، في حين أن أولئك الذين يصلون يرغبون في البقاء، ويتم الترحيب بهم ومساعدتهم على الاندماج.
وأوضح بيلاري أنه في غضون 20 عاما، ارتفعت نسبة السكان الأجانب في إيطاليا من 2.7 إلى 8.6 بالمئة، مما أصبحت معه الهجرة ظاهرة بنيوية، وليست حالة طارئة.
واسترسل: "في سياق انخفاض الخصوبة، توفر الهجرات مساهمة ديمغرافية أساسية"، مشددا أنه ليس للبلاد خيارات أخرى، عدا جذب الأشخاص والعائلات الباحثين عن حياة أفضل، وللقيام بذلك تحتاج إيطاليا إلى سياسة واضحة للهجرة.
وذكر بيلاري أن ترجمة هدف الحفاظ على ثبات عدد السكان، يستدعي أن لا يقل عدد المهاجرين الوافدين سنويا عن 450 ألفا على مدى السنوات العشر القادمة.
ودعا العالم الإيطالي إلى الوعي بأن سياسات دعم الولادات لن تؤتي ثمارها إلا بعد عقود، مما يبرز أهمية اتخاذ إجراءات عاجلة في أفق الوصول إلى الغاية المعلنة من دعم الولادات، أي خلق التكامل بين هذه الولادات وتشجيع الهجرة إلى البلد.