"أخطر من عملاء الموساد".. تفاصيل شبكة الجواسيس الصينية التي اعتقلتها تركيا

"الجواسيس الصينيون فاقوا أساليب عملاء إسرائيل وإيران"
في واحدة من عمليات التجسس المهمة التي عرفتها تركيا في السنوات الأخيرة، نجحت الاستخبارات التركية (MİT) في تفكيك شبكة تجسس تعمل لصالح الصين.
الشبكة كانت تتسلل إلى الهواتف المحمولة وتجمع بيانات عن مسؤولين حكوميين أتراك وأفراد من أقلية الإيغور المسلمة، وترسلها مباشرة إلى بكين.
وكشفت قناة "CNN Türk" في 20 مايو/ أيار 2025، عما أسمته “عالم خفي” من الأجهزة الوهمية والمهام السرية والتقنيات التي كانت تستخدمها "الدولة الصينية" على الأراضي التركية.
7 جواسيس
بدأت القصة حين وضع جهاز الاستخبارات التركية سبعة أشخاص قدموا من الصين تحت المراقبة، بعد الاشتباه في أنشطة غير معتادة.
كانوا يتحركون في مدن مختلفة منها إسطنبول، إزمير، مانيسا، باليكسير، وبورصة، حاملين معهم أدوات تبدو عادية من حيث الظاهر، لكنها في الواقع مكونات لـ"محطات إرسال شبحية" لا يمكن رصدها بسهولة.
بعيدا عن الطرق التقليدية في التجسس، لم يكن هؤلاء يضعون أجهزة تتبع على سيارات المستهدفين أو العملاء كما يفعل المحققون أو شركات التأمين.
بل جلبوا معهم تقنية متقدمة تستخدم عادة من قبل أجهزة إنفاذ القانون، وهي محطات إرسال مزيفة تُخدع بها الهواتف، لتتصل بها تلقائيا بدلا من الأبراج الرسمية للاتصالات، ومن هناك تبدأ عملية التنصت والتجسس.
كيف تعمل "المحطة الشبحية"؟
في الظروف الطبيعية، يعتمد الهاتف المحمول على الاتصال بأقرب برج يوفر أقوى إشارة، وهذا ما استغلته الشبكة الصينية، بإقامة محطات شبحية.
فبمجرد اقتراب أحد الجواسيس من الهدف بمسافة 50 مترا، تقوم تلك المحطات المزيفة بجذب الهاتف إليها، لتبدأ بعدها عملية نسخ كل شيء، رسائل، مكالمات، إشارات مواقع، وحتى التطبيقات الحساسة.
لكن ما لم يكن بسيطا هو كيف دخلت هذه المعدات الحساسة التي أقيمت بها المحطات الشبحية إلى تركيا؟ هذا هو السؤال الذي طرحته وسائل الإعلام المحلية، وكانت إجابته في محاضر التحقيقات مع جواسيس بكين.
فالمعدات دخلت عن طريق عملية تهريب متقنة على طريقة الجواسيس الكبار، إذ لم يكن إدخال محطات الإرسال الشبحية إلى تركيا أمرا سهلا في طل رقابة أمنية كبيرة.
خاصة أن هذه الأجهزة لا تمر عبر الجمارك كأجهزة استهلاكية عادية، وكان الحل عند الجواسيس يكمن في تهريبها مجزأة وعلى مراحل، عبر أربعة "رسل تقنيين" جاءوا في رحلات مختلفة.
قام الأول بجلب "الهوائي" فقط، بينما حمل الثاني البطارية، والثالث والرابع حملا أجزاء إلكترونية أخرى، وبذلك تم تجميع "المحطات الشبحية" داخل الأراضي التركية، بعيدا عن أعين الرقابة.

“فاقوا الموساد”
وخلال تعليق مدير الأخبار في قناة "CNN Türk"، نهاد أولوداغ على سقوط تلك الشبكة الصينية، وما فعلته في الأيام الماضية، قال: "هؤلاء لم يكونوا مجرد هاوين أو مغامرين، لقد تصرفوا تماما كما تتصرف أجهزة استخبارات محترفة".
حتى إنه وصفهم بأنهم "فاقوا أساليب الموساد والجواسيس الإيرانيين"، وظهر هذا من خلال التحقيقات معهم، فقالوا في البداية، "نحن لا نعرف بعضنا"، بينما كاميرات المراقبة ترصد العكس.
ففي تطور مثير، تم ضبط ثلاثة من أعضاء الشبكة معا في أحد المواقع، لكن المفاجأة أنهم أنكروا معرفتهم ببعضهم البعض قائلين: "لا علاقة بيننا"، غير أن أعين الاستخبارات كانت قد وثقت كل شيء، لحظة بلحظة.
ومن خلال تحقيق مشترك بين جهاز الاستخبارات والنيابة العامة، تم تتبع تحركاتهم، وتحديد كل من كان يعمل كناقل أو مجمع أو مشغل للأجهزة.
حتى إن أحدهم، في محاولة ساذجة للتمويه، قال للمحققين: "كنت في تركيا لتصوير إعلان تجاري".
ومع اكتمال الأدلة أحيل أعضاء الشبكة إلى القضاء، حيث سيواجهون تهما تتعلق بالتجسس ونقل بيانات سيادية إلى دولة أجنبية.
وقد علق مسؤول في جهاز الاستخبارات لصحيفة "سوزجو" التركية، بأن "العملية كانت من أعقد العمليات التي نفذت أخيرا، وأظهرت حجم التحدي الأمني في ظل التطور التكنولوجي المتسارع".
وأضاف أن "الرسالة التي حملتها العملية تتجاوز الحدود التركية، فلم تعد المعارك الاستخباراتية تخاض فقط عبر العملاء الكلاسيكيين، بل عبر معدات متنقلة، وشبكات مشفرة، وأجهزة تفكك في حقيبة يد وتجمع في حي سكني".
وتابع: "عملية الخلية الصينية في تركيا لن تكون الأخيرة، لكن طريقة إسقاطها ستكون دليلا للدول الأخرى على أن أعقد الشبكات قد تنهار أمام عمل استخباراتي متقن".
وأوضحت الصحيفة أن زعيم الخلية، زهينهوا ليو، مهندس صيني جاء إلى تركيا قبل خمس سنوات للتأقلم والتعلم فيها وتحضير البنية اللازمة للعمل وتعلم اللغة التركية وتأسيس شركة في هذا الإطار.
وتضم الشبكة كذلك كلا من، ويو زهيونغ، ورينجونغ، وإكسيونغيانغ كسياو، وزواوي كيو، وما اكسبيوينغ، وديوان زو.

عمليات سابقة
ولم تكن الشبكة التي أسقطتها الاستخبارات التركية أخيرا هي الأولى من نوعها؛ إذ سبقها في 19 فبراير/شباط 2024 تفكيك خلية تجسس أخرى مرتبطة مباشرة بأجهزة الاستخبارات الصينية.
فقد أوقفت الاستخبارات التركية، في مدينة إسطنبول، ستة أشخاص، بتهمة القيام بأنشطة تجسس استهدفت شخصيات رفيعة من أقلية الإيغور المقيمين في تركيا، وذلك لصالح بكين.
ووفق ما أوردته شبكة "تي آر تي" التركية الرسمية، فقد صدرت مذكرة توقيف بحق مشتبه به سابع، بأمر من مكتب المدعي العام في إسطنبول.
المتهمون في تلك القضية وُجهت إليهم تهم بجمع معلومات حساسة عن أفراد وجمعيات تنتمي للقومية الأويغورية، ونقلها بشكل ممنهج إلى السلطات الصينية، في محاولة لتعقب أنشطة الجالية الأويغورية المسلمة داخل الأراضي التركية.
وقد عُد حينها أن الكشف عن تلك الشبكة بمثابة جرس إنذار مبكر للجهات الأمنية التركية، التي كثفت بعدها من رقابتها وتعقبها لتحركات العناصر المرتبطة بالاستخبارات الأجنبية، لا سيما الصينية،
وهو ما مهد الطريق لاحقا للإطاحة بالشبكة الحالية المعروفة إعلاميا بـ "محطات الظل" والتي استخدمت تقنيات تنصت غير مسبوقة في قلب المدن التركية.

استهداف الإيغور
وفي تعليق على تصاعد أنشطة التجسس الصينية في تركيا، كتبت الصحفية التركية إيزجي أكين، أن تفكيك خلايا التجسس لم يكن معزولا عن سياق أوسع من التحركات الأمنية الصينية داخل الأراضي التركية، والتي تستهدف بشكل خاص الجالية الأويغورية.
وأضافت في تقرير نشره موقع "المونيتور" الأميركي بتاريخ 20 فبراير 2024، أن تركيا تعد موطنا لأكبر تجمع للإيغور خارج الصين، وهم أقلية مسلمة من أصل تركي تقيم بالأساس في إقليم شينجيانغ.
ورغم المسار الإيجابي الذي اتخذته العلاقات بين أنقرة وبكين بعد إعادة انتخاب الرئيس رجب طيب أردوغان في مايو/ أيار 2023، فإن قضية معاملة الصين للإيغور تظل نقطة توتر مزمنة.
واستعرض التقرير جملة من المحطات المفصلية، من بينها وصف أردوغان عام 2009 لما يحدث في شينجيانغ بأنه "إبادة جماعية"، إلى جانب موقف تركيا في مجلس حقوق الإنسان عام 2019 حين دعت بكين لاحترام الحريات الدينية للأويغور، وهي خطوة ردت عليها الصين بإغلاق مؤقت لقنصليتها في إزمير، في إشارة دبلوماسية واضحة.
ونقلت أكين عن الناشط الإيغوري المقيم في تركيا عبد الرشيد أمينهاجي، بأن هناك تصاعدا مكثفا في أنشطة التجسس الصيني على الأراضي التركية.
موضحا أن نحو 70 ألف إيغوري مقيم في البلاد أصبحوا مستهدفين بشكل مباشر عبر شبكات تجسس تسعى لرصد تحركاتهم.
وأضاف أمينهاجي، الذي يشغل أيضا منصب الأمين العام للاتحاد الدولي لمنظمات تركستان الشرقية، أن أعضاء الاتحاد يتعرضون بشكل متكرر لمحاولات استدراج مشبوهة، سواء عبر زوار غرباء يطرحون أسئلة حساسة، أو عبر عروض مالية مقابل تقديم معلومات تجارية عن الشركات المملوكة لـ الأويغور أو تتعاون معهم.
وتتهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الصين بقمع الإيغور، واحتجاز عشرات الآلاف من أكبر أقلية مسلمة في معسكرات الاعتقال في محاولة لتجريدهم من هويتهم الإسلامية.
وتنفي الصين هذه الاتهامات، مدعية أن المعسكرات مصممة لمكافحة الانفصالية و"التدريب" على اجتثاث التطرف.