سدود جديدة على النيل الأزرق..ماذا تخبئ إثيوبيا لمصر خلف جدران "كارادوبي" و"بيكو آبو"؟

داود علي | منذ ٧ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في تطور جديد ينذر بتفاقم الأزمة المائية المستمرة بين مصر وإثيوبيا، تعتزم أديس أبابا تنفيذ مشروعين هيدروكهربائيين ضخمين على مجرى النيل الأزرق، الرافد الرئيس لنهر النيل.

وكشفت مجلة "أفريكا إنتليجنس" الفرنسية، أن السدين المرتقب تدشينهما، هما "كارادوبي" بطاقة إنتاجية تقدر بـ 1600 ميغاوات، وبيكو آبو الذي تصل طاقته إلى 1940 ميغاوات.

وقالت في 5 مايو/أيار 2025: إن السدين لا يهدفان فقط إلى تعزيز قدرات أديس أبابا في مجال الطاقة، بل يتوقع أن يضيفا إلى قدرتها التخزينية للمياه ما يصل إلى 188 مليار متر مكعب. 

هذا الرقم الهائل يعيد رسم موازين السيطرة على مياه النيل، ويطرح تساؤلات مقلقة في القاهرة، خاصة أن هذه الكمية قد تفضي إلى تراجع سعة التخزين خلف سد أسوان إلى أقل من 50 مليار متر مكعب، وهو ما يهدّد واحدة من أهم ركائز الأمن القومي المصري.

فإلى أين تمضي إثيوبيا في إستراتيجيتها المائية؟ وما الثمن الذي قد تدفعه مصر حين يتحول النيل الأزرق إلى سلسلة من الخزانات العميقة؟ وهل تملك القاهرة ما يكفي من أوراق القوة لردع هذا التوسع الذي يبدو أنه يتجاوز مجرد توليد الكهرباء؟

أهداف جيوسياسية

والأخطر من ذلك بحسب المجلة الفرنسية أن إجمالي السعة التخزينية لهذه السدود المزمع تنفيذها يفوق بثلاثة أضعاف قدرة التخزين في سد النهضة.

ومع التسربات، يصبح التهديد مضاعفا؛ فحتى لو استطاعت مصر أن تتحمل صدمة ملء سد النهضة باستخدام مخزون السد العالي، فإنها لن تقوى على مواجهة موجة التخزين القادمة، التي قد تفرغ خزان أسوان وتجفف الترع في دلتا النيل.

الأكثر إثارة للقلق، كما يشير التقرير إلى أن هذا التصعيد في التخزين لا يبدو مبررا من الناحية التقنية؛ إذ لا يتناسب مع حجم الكهرباء المنتجة.

وهو ما يثير الشكوك حول وجود أهداف جيوسياسية تتجاوز الطاقة، منها، على سبيل المثال، دفع مصر نحو شراء الماء مستقبلا، في سابقة خطيرة تنذر بإعادة تعريف "الحقوق المائية" في المنطقة. 

ولعل هذا ما دفع القاهرة إلى الإصرار على اتفاق قانوني ملزم بشأن سد النهضة، ليس فقط كقضية حالية، بل كحاجز قانوني يمنع تكرار هذا النمط من الابتزاز المائي في السدود القادمة.

ومع ذلك فإن ما تخطط له إثيوبيا اليوم لا يبدو وليد اللحظة، بل جزءا من رؤية قديمة تعود جذورها إلى عام 1964، حين اقترح مكتب الولايات المتحدة للاستصلاح (USBR) مشروعا ضخما لبناء 33 سدا على النيل الأزرق، في إطار ما سمي حينها بـ"مخطط استغلال مياه الهضبة الإثيوبية". 

ووفق ورقة بحثية نشرها مركز الجزيرة للدراسات في 28 يوليو/ تموز 2020، فإن السدين الجديدين (كارادوبي وبيكو آبو) هما في الواقع اثنان من بين 14 سدا جرى اختيارها كأولوية من ذلك المخطط الأميركي القديم.

وبحسب الورقة، فإن سد كارادوبي يقع على بُعد 385 كيلومترا جنوب بحيرة تانا، بارتفاع يصل إلى 250 مترا، وسعة تخزينية تقدر بـ40 مليار متر مكعب. 

بينما يأتي سد بيكو آبو، على بعد 145 كيلومترا من الحدود السودانية، بارتفاع 171 مترا، وسعة تخزينية تبلغ 49 مليار متر مكعب، وتقدر التكلفة المبدئية له وحده بنحو 2 مليار دولار.

ويشير التقرير إلى أن إثيوبيا تتجه لتنفيذ واحد من هذه المشاريع الثلاثة في أقرب وقت، (وهو ما يحدث حاليا في مايو 2025)، ليس فقط لتوليد الطاقة بل أيضا لتخفيف الضغط الهيدرولوجي على سد النهضة. 

وذلك من خلال تقليل سرعة تدفق المياه، واحتجاز كميات كبيرة من الطمي، وبالتالي إطالة عمره التشغيلي.

مراحل الإنجاز النهائية 

ومع ذلك فإن هذه لم تكن المعضلة الوحيدة التي تواجه القاهرة في التوقيت الحالي.

ففي خطوة مفاجئة تحمل دلالات سياسية وأمنية عميقة، أجرى رؤساء أجهزة المخابرات والأمن في 13 دولة من شرق إفريقيا، زيارة ميدانية غير مسبوقة إلى موقع سد النهضة الإثيوبي، على هامش اجتماع إقليمي عقد في أديس أبابا، بحسب ما قالت وكالة الأنباء الإثيوبية “إينا”.

الزيارة التي جرت في 14 مايو 2025، وقدمت ظاهريا بصفتها "اطلاعا ميدانيا على التقدم في مشروع تنموي"، حملت في طياتها رسائل تتجاوز الطاقة والهندسة إلى عمق الحسابات الجيوسياسية، خصوصا مع دخول السد مرحلة التشغيل الفعلي.

ووفق ما أعلنه المهندس أفرايم هيلي ميكيل، نائب مدير مشروع سد النهضة، فإن الأخير بات "مكتملا من الناحية الهيكلية"، وبدأ ينتج فعليا نحو 1800 ميغاواط من الكهرباء، على أن تصل القدرة إلى 2600 ميغاواط خلال أشهر قليلة.

لكن التصريح الأكثر أهمية والأكثر إثارة للقلق،  خصوصا من وجهة نظر مصر، كان حديثه لوكالة “إينا” عن امتلاء بحيرة السد بالكامل، ووصفها بـ"بنك المياه" الذي يمكن الاعتماد عليه في مواجهة فترات الجفاف.

هكذا، وبوضوح لا يخلو من التحدي، تعيد إثيوبيا التأكيد على أن المشروع بات يمتلك احتياطيا مائيا إستراتيجيا، يمكن توظيفه سياسيا واقتصاديا.

أما تصريحات نائب رئيس جهاز الأمن الإثيوبي، تازر قبري قيزابيهير، فقد منحت الزيارة بعدها الحقيقي؛ إذ وصفها بأنها جزء من "جهود إثيوبية لمواجهة الشائعات والحملات الإعلامية المضللة". على حد قوله.

وأشار إلى أن السد أصبح واقعا جيوسياسيا لا يمكن تجاهله، وأن المشروع يعدّ مثالا على قدرة الدول الإفريقية على بناء مشاريع إستراتيجية دون الحاجة للوصاية الدولية.

لكن المثير في قراءة هذا الحدث ما قاله الباحث الإثيوبي كيرام تادسي، من أنَّ الزيارة ليست بروتوكولية، بل خطوة محسوبة.

وأوضح تادسي لصحيفة "أديس ستاندرد" الإثيوبية المحلية، أن الزيارة تهدف إلى نقل السد من كونه مشروعا وطنيا إثيوبيا إلى آخر يكون إفريقيا جامعا. 

وبهذا تحاول أديس أبابا تفكيك أي اعتراضات مصرية مستقبلية عبر إضفاء شرعية إقليمية على السد، وتحويله إلى رمز تنموي يجري حمايته أمنيا عبر مظلة استخباراتية جماعية.

ويطرح هذا التحرك تساؤلات خطيرة في القاهرة: هل تسعى إثيوبيا إلى عسكرة السدود، على رأسها سد النهضة وتحويلها إلى نقطة ارتكاز استخبارية إقليمية؟

وهل نحن أمام مرحلة جديدة تصبح فيها السدود الإثيوبية، محصنة سياسيا وأمنيا تحت غطاء إفريقي؟

انعدام فعالية

وفي حديث لـ "الاستقلال"، وصف الباحث المصري ، محمد ماهر، زيارة رؤساء أجهزة الاستخبارات الإفريقية لسد النهضة بأنها "نقلة نوعية خطيرة في التعاطي مع المشروع، تنذر بتثبيته كأمر واقع إقليمي يصعب المساس به".

وقال ماهر: إن "الزيارة ليست مجرد عرض دعائي أو مناورة علاقات عامة، بل تحمل إشارات واضحة إلى محاولة إثيوبيا عسكرة السد وتحويله إلى نقطة ارتكاز استخباراتية إقليمية، توفر له حماية سياسية وأمنية جماعية تحت غطاء إفريقي".

 وأضاف أن "الخطوة تهدف إلى تحصين المشروع من أي تهديد خارجي، خصوصا من القاهرة، عبر منحه غطاء قاريا يصعب تجاوزه دبلوماسيا أو أمنيا".

وردا على سؤال بشأن قدرة مصر على مواجهة هذا التكتل الجديد، أشار ماهر إلى أن "الدولة المصرية تعاني حاليا من ضعف عام وانحسار إقليمي ودولي واضح، وانعدام فعالية منظومة الردع السياسي والدبلوماسي".

 ويرى أن "الآلة الدعائية لم تعد قادرة على تعويض الفجوة بين التحرك الإثيوبي المتصاعد، والجمود المصري المستمر".

وشدَّد على أن "السدود الإثيوبية الجديدة والقائمة ليست مجرد مشاريع تنموية، بل باتت معضلة القرن بالنسبة لمصر؛ لأنها تهدد المصدر الوحيد لحياة أكثر من 110 ملايين مواطن". 

وتابع: "المأساة أن كل ذلك يحدث في وقت فقدت فيه القاهرة ثقلها الطبيعي في دوائر صنع القرار الإفريقي، بسبب سوء التقدير السياسي والتخبط الإستراتيجي الذي وسم العقد الأخير من الحكم".

وألقى ماهر بالمسؤولية المباشرة على رئيس النظام المصري، قائلا: "ما يجرى الآن هو حصاد مر لاتفاق المبادئ الذي وقعه عبد الفتاح السيسي عام 2015، دون أي ضمانات، ودون إدراك كافٍ لطبيعة النظام الإثيوبي الذي استغل الأمر لتمرير مخططه بالكامل". 

وأضاف أن "السيسي الذي لم يستمع لتقديرات أجهزة الاستخبارات المصرية، تعرض لخداع سياسي متعمد من قبل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الذي قدّم وعودا فارغة في العلن، بينما كانت الجرافات تعمل في الميدان لتغيير الواقع إلى الأبد".

وختم بالقول: "إن مصر اليوم لا تواجه فقط خطر جفاف النيل، بل هي أمام حالة انهيار كاملة في أدوات الحماية الإستراتيجية؛ حيث تحولت ورقة المياه من عنصر قوة إلى أداة ابتزاز، ولم يعد أمام الدولة سوى مراجعة جذرية لكل مقارباتها، قبل أن يصبح الرد مستحيلا".

سلاح وجودي

وفي خضم ذلك الجدل المتصاعد حول مستقبل النيل في مصر أمام السدود الإثيوبية، أعاد المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية تسليط الضوء على التداعيات الكارثية المحتملة لسد النهضة على القاهرة.

وفي دراسة صدرت في 20 أغسطس/ آب 2024، لم يكتفِ المركز بالتحذير من خطر فني أو خلاف حدودي، بل وضع أرقاما قاسية أمام صانع القرار المصري، تبدأ من حقيقة أن نهر النيل هو المورد المائي شبه الوحيد لمصر، إذ يوفر 90 بالمئة من احتياجاتها المائية. 

ويأتي ذلك في وقت تعاني فيه البلاد أصلا من شح مزمن، لا يتجاوز فيه نصيب الفرد 660 مترا مكعبا سنويا، وهي كمية أقل بكثير من حد الفقر المائي العالمي.

ومع تضاعف التعداد السكاني المرتقب خلال العقود المقبلة، فإن أي نقص إضافي في المياه سيضع البلاد على حافة العطش الجماعي.

لكن الأرقام الأكثر إيلاما جاءت في السيناريوهات المرتبطة بعملية تعبئة خزان سد النهضة، الذي تبلغ سعته 74 مليار متر مكعب.

فبحسب الدراسة، فإن تعبئة الخزان خلال ثلاث سنوات فقط، ستتسبب في فقدان مصر نحو 51 بالمئة من أراضيها الزراعية، وهي كارثة بيئية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة.

أما في حالة اتباع سيناريو التعبئة البطيئة على مدى ست سنوات، فإن مصر ستخسر نحو 17 بالمئة من أراضيها المزروعة.

وبصورة أدق، تشير الدراسة إلى أن كل مليار متر مكعب مفقود من مياه النيل سيؤدي إلى اختفاء 200 ألف فدان من الأراضي الزراعية، وسيفقد مليون مواطن مصدر رزقهم المباشر، إذا ما احتسبت الأسر المتضررة بمعدل خمسة أفراد لكل عائلة.

ومع العلم أن 60 بالمئة من مياه النيل تأتي من الهضبة الإثيوبية، فإن السيطرة على تلك المنابع لم تعد مجرد ورقة تفاوض، بل تحوَّلت – بحسب ما تلمح إليه لغة الدراسة – إلى سلاح وجودي موجه نحو وادي النيل؛ حيث يعيش معظم سكان مصر.

ضجيج بلا طحين 

ويختصر المثل القائل "أسمع ضجيجا ولا أرى طحينا" مجمل علاقة النظام المصري مع سد النهضة والسدود الإثيوبية المتعاقبة على نهر النيل. 

فمنذ توقيع وثيقة إعلان المبادئ في 23 مارس/آذار 2015 بين مصر والسودان وإثيوبيا، أضفى السيسي شرعية قانونية دولية على مشروع السد، مانحا إثيوبيا ما كانت تسعى إليه لعقود.

يومها أعلن السيسي في خطاب حماسي أن "المشكلة انتهت"، وأن أزمة السد باتت وراء المصريين.

لكن بعد ذلك التاريخ، لم تنته الأزمة، بل بدأت سلسلة من التصريحات المتناقضة التي لم تقابلها أي خطوات ردعية أو دبلوماسية فعالة. 

ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، قال السيسي: "محدش يقدر يمس مياه مصر.. وعلى البرلمان والحكومة يشوفوا يعملوا إيه.. كده خلصت".

 وفي يونيو/ حزيران 2018، شهدت القاهرة ما عرف بـ"حادثة القسم"، حين طلب السيسي من رئيس الوزراء الإثيوبي أن يقسم على الهواء قائلا: "أقسم بالله العظيم أنكم لن تضروا مصر".

وفي سبتمبر/ أيلول 2019، اختزل السيسي الموقف برمته بجملة مبهمة: "العفي محدش بياكل لقمته". 

ثم في مارس/ آذار 2021، تصاعد الخطاب من جديد قائلا: "محدش هيقدر ياخد نقطة مياه من مصر.. واللي عايز يجرب يجرب". 

ولم يمر سوى أسبوع حتى خرج مجددا في أبريل/ نيسان 2021 برسالة حادة إلى إثيوبيا: "بلاش نوصل لمرحلة تمسوا نقطة مياه من مصر.. والخيارات كلها مفتوحة".

لكن هذه "الخيارات المفتوحة" سرعان ما أغلقت بلغة التطمين، ففي يوليو/تموز 2021 قال للمصريين: "عيشوا حياتكم، بلاش هري.. لا يليق بنا أن نقلق أبدا". 

ثم في أغسطس 2022 خاطب طلاب الكلية الحربية قائلا: "الأمور مش بتتحل بالصوت العالي.. ومياه مصر أمانة في رقبتي".

وفي مارس 2024، أعلن مدير مشروع سد النهضة، كيفلي هورو، أن الانتهاء الكامل من السد سيكون في 2025، ليعقب ذلك تصريحات متفرقة من مسؤولين مصريين. 

أبرزها ما قاله وزير الري هاني سويلم بأن إثيوبيا "ستدفع الثمن"، قبل أن يخرج مسؤول آخر، هو محمد محمود مهران، الأمين العام للجنة الدولية للدفاع عن الموارد المائية، ليصرح بأن مصر يمكن أن تحصل على مقابل مادي من إثيوبيا مقابل استخدام المياه.