ابتزاز وضغوط.. هل تتجه مصر إلى فك الارتهان لإسرائيل في ملف الغاز؟

ردت مصر بالاتجاه نحو قطر وتركيا وروسيا لتحجيم ضغوط إسرائيل
أظهرت سلسلة تحركات مصرية وإسرائيلية أخيرا، وجود أزمة في ملف تصدير الغاز من تل أبيب إلى القاهرة، حتى وصل الأمر بالأخيرة إلى البحث عن تأمين إمدادات هذه المادة من مصادر أخرى.
وقلصت إسرائيل كميات الغاز إلى مصر وطالبت بزيادة سعره، مستغلة فترات دخول فصل الصيف وانقطاع الكهرباء، وتراجع إنتاج القاهرة منه.
وردت مصر بالاتجاه نحو قطر وتركيا وروسيا لتحجيم ضغوط إسرائيل السياسية والاقتصادية وابتزازها للقاهرة، وسط دعوات من خبراء للاستغناء عن غاز تل أبيب.
وأخيرا، تحركت مصر لعقد صفقات غاز مع قطر، واتفاقيات مع 4 شركات عالمية بينها تركية وألمانية لاستئجار سفن تغويز، ومحاولة زيادة اكتشافات الإنتاج المحلي، بعدما أصبحت رقبة أمن القاهرة القومي في يد الاحتلال.
وأصبحت إسرائيل موردا رئيسا للغاز الطبيعي إلى مصر منذ يناير/كانون الثاني 2020، بعدما كانت تستورده منها حتى عام 2012، حين تم إنهاء الاتفاق عقب الثورة عام 2011، وتراجع إنتاج القاهرة منه.

خطة إسرائيلية
لم يكن قرار الحكومة المصرية خفض إمدادات الغاز الطبيعي إلى مصانع الأسمدة والميثانول بنسبة 50 بالمئة، لمدة 15 يوماً، بسبب نقص الوارد من إسرائيل، هو الأول، ولكنه الثالث منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
تخفيض مد المصانع بالغاز جاء بحجة "أعمال الصيانة في حقل الغاز الإسرائيلي"، وفق ما قال موقع "الشرق بلومبيرغ" في 19 مايو/أيار 2025، وهي نفس الحجة في المرات الثلاث.
وستؤدي هذه الخطوة إلى تخفيض الطاقات الإنتاجية لشركات الإسمنت لمدة شهرين، حسبما قال مصدر حكومي لصحيفة "الشروق" المصرية في 20 مايو 2025.
المرة الأولى، التي تعطلت فيها مصانع مصر، بسبب توقف إمدادات الغاز الإسرائيلي بالكامل، كانت في 9 أكتوبر 2023، بعد يومين من بدء الحرب على غزة، ثم عادت الصادرات تدريجيا.
و"الثانية"، حين أعلن مجلس الوزراء المصري، 29 أكتوبر 2023، رسميا انخفاض صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر تدريجيًا من 800 مليون قدم مكعب يوميًا في يوليو/تموز 2023، إلى صفر، بعد الحرب على غزة.
وخفضت وزارة البترول المصرية، حينها، إمدادات الغاز الطبيعي إلى شركات صناعة الأسمدة بنسب تفاوتت بين 20 إلى 30 بالمئة.
لكن أعادت إسرائيل ضخ الغاز مجددا بكميات قليلة، في نوفمبر/تشرين ثان 2023.
وجاءت الثالثة في مايو 2025، بالتزامن مع دخول العلاقات بين القاهرة وتل أبيب حالة من الفتور، وتصاعد اتهامات الاحتلال لمصر بخرق اتفاقية كامب ديفيد والاستعداد لحرب، وتبعها أيضا خفض الغاز لشركات الأسمدة.
وبدأت مصر استيراد الغاز من إسرائيل للمرة الأولى في 2020، في صفقة قيمتها 15 مليار دولار بين شركتي "نوبل إينرجي" الأميركية (التي استحوذت عليها "شيفرون" في 2020) و"ديليك دريلينغ" الإسرائيلية.
ثم تضاعفت وارداتها منها أكثر من 3 مرات في غضون 3 سنوات، من 2.2 مليار متر مكعب في عام 2020، إلى 8.6 مليارات عام 2023، بمعدلات 700 و850 مليون متر مكعبا يوميا، ثم قفزت إلى أكثر من مليار متر مكعب (يوميا) في أبريل/نيسان 2025.
حينها رأى خبراء أن هذه الخطوة، بجانب إعلان رئيس النظام عبد الفتاح السيسي، تحويل مصر لمقر إقليمي لتصدير الغاز (المصري والإسرائيلي)، بعد تسييله في مصنعي الإسالة بإدكو ودمياط، مكسبا لإسرائيل.
إذ إن تل أبيب لا يمكنها تصدير غازها بسعر اقتصادي، وليس لديها أنابيب للتصدير، إلا عن طريق مصانع الإسالة المصرية.
ووقتها حذر سياسيون من رهن أمن مصر القومي ومصانعها لتل أبيب، بصفته خطرا أمنيا وإستراتيجيا، لكن السلطات تجاهلت ذلك.
وحين تكررت واقعة تقليص تل أبيب الغاز إلى مصر، بل وإيقافه تماما (صفر)، بعد اعتمادها التام عليها، وزيادة اتفاقيات تدفقه، بدأ الحديث عن مخاوف من تعرض القاهرة للابتزاز .
فقد تزامن هذا مع خلافات سياسية واقتصادية مصرية إسرائيلية، بسبب حرب غزة، ومطالبة تل أبيب بزيادة سعر توريد المليون وحدة حرارية لأكثر من ثمانية دولارات، بينما يتراوح سعر السوق ما بين أربعة وخمسة دولارات.
ووفقا للاتفاقيات السابقة، بلغ سعر المليون وحدة حرارية من الغاز الإسرائيلي لمصر حوالي 6.7 دولارات، بحسب صفقة الاستيراد الأولى، بقيمة 15 مليار دولار لـ 64 مليار متر مكعب.
لكن تل أبيب طلبت في أبريل 2025، زيادة السعر بنسبة 25 بالمئة، في الصفقات الحالية.
وهو ما يعني رفع السعر إلى حوالي 9.4 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، وفق صحف إسرائيلية، في مخالفة للاتفاقيات السابقة.
وأكد مسؤول حكومي مصري لموقع "الشرق بلومبيرغ" 19 مايو 2025، أن إسرائيل قررت تقليص صادرات الغاز إلى مصر بنسبة 20 بالمئة خلال الصيف الحالي، بدءاً من يونيو حتى سبتمبر من نفس العام.
قال: إن الشركات المصدرة للغاز الإسرائيلي أخطرت الجانب المصري بأنه سيتم تقليص الكميات الحالية، والمقدرة بنحو مليار قدم مكعب يومياً، إلى 800 مليون قدم مكعب يومياً خلال الصيف المقبل".
ونقلت شبكة سي إن إن الأميركية 19 مايو 2025، عن مصدر حكومي مصري أيضا، قوله إن "كميات الغاز الإسرائيلي الموردة إلى مصر بدأت تنخفض بالفعل، بداية من هذا اليوم، بما يصل إلى 500 مليون قدم مكعبة يومياً.
وذلك بحجة عمليات صيانة في الحقول الإسرائيلية، وإجراء بعض التوسعات الخاصة بخطوط حقل ليفاثيان، لزيادة كميات الغاز الموردة لمصر.
وكانت مصر تسعى إلى زيادة وارداتها من الغاز الإسرائيلي بنسبة 58 بالمئة بحلول منتصف عام 2025، بحيث ترفع الزيادة المخطط لها لتدفقات هذه المادة إلى 1.5 مليار قدم مكعبة يوميا، أي ما يعادل نحو ربع الطلب المحلي (6 مليار).
والمفارقة أن مصر وقعت في 16 فبراير/شباط 2025 صفقة جديدة لاستيراد الغاز الطبيعي من حقل تمارا المملوك لإسرائيل وأميركا والإمارات لاستيراد 4 مليار متر مكعب إضافية لمدة 11 سنة قادمة يبدأ تنفيذها في يوليو 2025، وهو نفس توقيت تقليص تل أبيب التدفقات بدلا من زيادتها.
كما أعلنت منصة الطاقة "ميس" (mees)، في 16 مايو 2025، أن مصر زادت من واردات الغاز الإسرائيلي، وأنها بلغت ذروتها في أبريل 2024، بمستوى قياسي بلغ 1.08 مليار قدم مكعبة يومياً.

ابتزاز وضغوط
لكن بعد شهر واحد أعلنت إسرائيل تقليص الكمية إلى 800 مليار، بحجة إصلاحات بمنصة الغاز.
وكانت أحزاب يمينية إسرائيلية طالبت نهاية 2024، بقطع إمدادات الغاز عن مصر، بسبب اتهامات للقاهرة بتحريك قوات في سيناء وخرق كامب ديفيد، وفي ظل الحروب التي كانت تخوضها إسرائيل في غزة ولبنان وإيران.
وقال قادة بعض هذه الأحزاب، إنه يجب أيضا قطع الغاز عن مصر "لسد وتوفير احتياجات إسرائيل"، ما طرح تساؤلا: كيف ستتعامل القاهرة مع هذا السيناريو، لو حدث؟
ونشرت صحيفة سروجيم (Srugim) العبرية تقريراً، في 11 ديسمبر/كانون أول 2024، بعنوان "من المثير للدهشة أن مصر طلبت المساعدة من إسرائيل".
قالت فيه إن "مصر اضطرت إلى طلب المساعدة من إسرائيل في التعامل مع أزمة الغاز التي تهدد بعودة أزمة انقطاع التيار الكهربائي في البلاد".
ووصف خبراء مصريون تقليص شحنات الغاز الإسرائيلي بالتزامن مع دخول فصل الصيف والمطالبة برفع سعر التوريد، وارتباط هذا بالتوتر بفعل حرب غزة، بأنه ابتزاز إسرائيلي واضح، بحجة متكررة هي إجراء إصلاحات وصيانة دورية.
اعتبروا أن هذا أحد أساليب إسرائيل في التملص من التزاماتها (اتفاقيات) توريد الغاز، حتى لا تتعرض لعقوبات بسبب إخلالها بالعقود المبرمة معها.
المحلل الاقتصادي المصري "مصطفي عبد السلام" قال إن توقيت تقليص الغاز الإسرائيلي لمصر، يشير إلى أن إسرائيل بدأت سياسة فعلية لابتزاز القاهرة.
أوضح لـ "الاستقلال" أن تقليص الغاز، بالتزامن مع اعتماد مصر كلية على إسرائيل في هذه المادة، وتهاوي الإنتاج المصري، وفي وقت الصيف ما سيربك المشهد الصناعي والكهربائي، ويُحدث انقطاعات واسعة للتيار، مؤشر على هذا الابتزاز.
أشار إلى أن الابتزاز بدأ حين طلبت مصر زيادة الكميات الموردة إليها خلال شهري يونيو ويوليو 2025، لمواجهة الطلب المتزايد على الطاقة في أشهر الصيف، فردت تل أبيب بطلب زيادة السعر الحالي للغاز المورد بنسبة لا تقل عن 40 بالمئة.
وذلك بالمخالفة لبنود الاتفاقات السابقة المبرمة في عام 2018 وما بعدها، والتي لا تزال سارية، ما يشير بوضوح لاستغلال حاجة مصر للغاز لتزويد محطات الكهرباء ومصانع الأسمدة وغيرها، مع قدوم فصل الصيف.
قال إنه بسبب الابتزاز الإسرائيلي اضطرت الحكومة المصرية لخفض إمدادات الغاز الطبيعي إلى مصانع الأسمدة والميثانول العاملة بنسبة 50 بالمئة، لمدة 15 يوماً، ما يعرقل عملها ويجعلها تحت رحمة إسرائيل.
ونوه "عبد السلام" إلى أن تل أبيب تتلاعب وتتحجج بأن السبب هو تنفيذ أعمال صيانة دورية في خطوط التصدير لمدة أسبوعين، للتهرب من الاتفاقات والعقوبات الواردة في الاتفاقات المبرمة بشأن توريد الغاز.
ويقول المحلل إن خطورة ما تفعله إسرائيل هو أنه يُظهر أن ربط أمن الطاقة في مصر بمصادر الطاقة داخل دولة الاحتلال "أمر بالغ الخطورة، وتهديد مباشر للأمن القومي والاقتصادي المصري".
ويرى أن الحل يكمن في تنويع مصادر واردات الطاقة لمصر، من دول عربية وأجنبية، وزيادة الإنتاج داخليا وفك الارتهان للغاز الإسرائيلي وابتزازه وضغوطه وخطره على الأمن القومي.

البحث عن بديل؟
بالتزامن مع هذا الابتزاز الإسرائيلي، بدأت القاهرة في اتباع عدة خطوات تدريجية، بدا أنها للفطام من، أو تقليص اعتمادها على غاز تل أبيب، الذي باتت ترتهن له بنسبة كبيرة، في ظل تراجع إنتاجها.
كان أبرز هذه الخطوات، عقد صفقات دائمة مع قطر لتوريد الغاز، ومع قبرص، وإبرام قرابة 12 صفقة مؤقتة مع شركات أجنبية تبيع هذه المادة.
وأيضا استئجار "وحدات تغويز" أو محطات عائمة للغاز من عدة دول خاصة تركيا وألمانيا.
فقد أكدت وزارة البترول المصرية، في 12 مايو 2025، أن مصر تبحث مع قطر إمكانية تأمين إمدادات الغاز الطبيعي منها، عبر "عقود طويلة الأجل" لتلبية احتياجاتها المحلية قبل فصل الصيف.
وقالت الوزارة: إن هذه الخطوة تهدف إلى تجنب النقص في إمدادات الغاز الطبيعي الضرورية لمحطات توليد الكهرباء في مصر، في إشارة للنقص الإسرائيلي.
ورأت وكالة "بلومبيرغ"، 12 مايو 2025، أن نية القاهرة تأمين الإمدادات من قطر عبر عقود طويلة الأجل، ومواصلة عمليات تأجير وحدات التغويز لمدة طويلة تصل 10 سنوات يعني أنها تتجه نحو اعتماد طويل الأجل على واردات الغاز الطبيعي.
كما وقعت القاهرة اتفاقية مع قبرص لتعزيز إمداداتها من الغاز بشكل كبير، حيث سيتم ضخه من أكبر حقلين بحريين في قبرص، وهما كرونوس في الجنوب الغربي وأفروديت في الجنوب الشرقي، عبر الأنابيب إلى مصر.
وقد أكدت منصة الطاقة "ميس" 16 مايو 2025 أن القاهرة أبرمت أربع اتفاقيات لوحدات عائمة لتخزين وتعزيز قدرتها على استيراد الغاز الطبيعي المسال في ظل انخفاض إنتاج الغاز المحلي وارتفاع الطلب على الطاقة.
وتمتلك مصر وحدة "هوغ جاليون" العائمة لتخزين وإعادة تحويل الغاز الطبيعي المسال بسعة 750 مليون قدم مكعب يوميًا، في العين السخنة منذ يونيو 2024، وتخطط لتشغيل أربع وحدات عائمة جديدة.
منها وحدة، أبرمت الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (EGAS) المملوكة للدولة، اتفاقية استئجار بشأنها مع ألمانيا، بسعة 174,000 متر مكعب، مما يُعزز البنية التحتية لاستيراد مصر هذه المادة.
وهدف وحدات وسفن التغويز العائمة، هو تسلم الشحنات المستوردة وإعادتها من الصورة السائلة إلى صورتها الطبيعية كغاز صالح للاستهلاك، لتسريع نقل المستورد منه للمصانع ومحطات الكهرباء كي لا يتكرر إظلام القاهرة.
أيضا سعت مصر لزيادة إنتاجها، عبر تكثيف وتسريع برامج الحفر والاستكشاف، وتحسين شروط التعاقد مع الشركات الأجنبية وسداد مستحقاتها، لتشجيعها.
وفي تقرير آخر، 16 مايو، أكدت منصة "ميس" أن مصر وقعت صفقات مع شركات عالمية لتعزيز إنتاج الغاز والنفط، بعدما حسنت شروط التعاقد.
وأوضحت أن شركة أباتشي الأميركية، حققت ارتفاعًا ملحوظًا في إنتاج الغاز بمصر، وتتوقع تحقيق المزيد من المكاسب نهاية العام 2025.
وهو ما يخفف الضغط عن القاهرة، التي عانت من انخفاض إنتاج الغاز بنسبة 40 بالمئة، منذ أواخر 2021.
وتحتاج مصر إلى نحو 6.2 مليارات قدم مكعبة يوميا، في حين أن الإنتاج المحلي يسهم حاليا فقط بـ 4.4 مليارات قدم مكعبة، مما يزيد من الحاجة إلى واردات الطاقة.